عناصر الخطبة
1/ الغلو مجاوزة الحد وفرط التعصب 2/ حكم الغلو في الإسلام 3/ خطورة فكر الخوارج وسوء أفعالهم 4/ مفاسد الخوارج الغلاة في أمة الإسلام 5/ كيف ظهرت الخوارج؟ 6/ مناظرة ابن عباس للخوارجاهداف الخطبة
اقتباس
إن كون الإنسان متدينًا باذلاً عابدًا متقشفًا زاهدًا تاركًا للدنيا منطلقًا إلى الجهاد في سبيل الله -أو ما يظنه جهادًا في سبيل الله- يذكر الله في كل حين، إن كون الإنسان بهذه الصورة المثالية في العبادة والتضحية يتكلم بالآيات والأحاديث، ثم بعد ذلك يحمل معه فكر التكفير والقتل وسفك الدماء المحرمة، بل والتلذذ بالقتل لهو من الفتن العظيمة.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدَثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
الغلو في اللغة هو مجاوزة الحد والتعصب والمبالغة، والغلو كذلك هو التعمق في الشيء والتكلف فيه، والغلو قد يكون في الأشخاص أو العبادات أو المعاملات أو العادات وأشده وأخطره ما كان في الاعتقادات.
لقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الغلو فقال كما في سنن ابن ماجه وغيره من حديث ابن عباس: "إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين".
وإذا جاء الحديث عن الغلو تذكرنا أكثر الفرق غلوًّا، وهم الخوارج فهم أول فرقة خرجت أصولها في زمن النبوة مخالفة لمنهج السلف.
في صحيح مسلم عن أبي سعيد قال: بعث علي -رضي الله عنه- وهو باليمن بِذَهَبَةٍ فِي تُرْبَتِهَا –سبيكة من ذهب ما نقيت من التراب بعد- بعث بها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقسهما -صلى الله عليه وسلم- بين أربعة نفر -يعني تأليفًا لقلوبهم- الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ الْحَنْظَلِيُّ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ الْفَزَارِيُّ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلاَثَةَ الْعَامِرِيُّ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي كِلاَبٍ وَزَيْدُ الْخَيْرِ الطَّائِيُّ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي نَبْهَانَ -قَالَ- فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ، فَقَالُوا: أَتُعْطِي صَنَادِيدَ نَجْدٍ وَتَدَعُنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنِّي إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ لأَتَأَلَّفَهُمْ".
فَجَاءَ رَجُلٌ كَثُّ اللِّحْيَةِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ نَاتِئُ الْجَبِينِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، فَقَالَ: "اتَّقِ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ" يتهم رسول الله في ذمته، في أمانته - قَالَ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "فَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ إِنْ عَصَيْتُهُ أَيَأْمَنُنِي عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ وَلاَ تَأْمَنُونِي"، وفي رواية أخرى قال: "ويلك ألست أحق أهل الأرض أن يتقي الله".
قَالَ ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ فَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فِي قَتْلِهِ - يُرَوْنَ أَنَّهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :"إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ".
لم يقتله -صلى الله عليه وسلم- ولم يسمح بقتله آنذاك خوفًا من مفسدة إعراض الناس عن الإسلام فيقولون: إن محمدًا يقتل أصحابه ويتألفهم للإسلام، وهكذا كان حاله -صلى الله عليه وسلم- مع المنافقين لما تركهم فلم يقتلهم إنما هو لمصلحة الإسلام وليس كرامة لهم.
وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد قال: بينما نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقسم قسمًا أتاه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ من بني تميم فقال: "يا رسول الله اعدل"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وَيْلَكَ مَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ".
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ. قَالَ: "دَعْهُ، فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ.." إلى آخر الحديث.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر قال -صلى الله عليه وسلم- "إِنَّ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي - أَوْ سَيَكُونُ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي - قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَلاَقِيمَهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ثُمَّ لاَ يَعُودُونَ فِيهِ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ" رواه مسلم.
وجاء عند أحمد بسند صحيح من حديث أنس قال -صلى الله عليه وسلم-: "طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ"، أي: فمن قتلوه كان شهيدًا، ومن قتلهم كان له أجر قتل هذه الفِرقة المارقة الخبيثة التي تخرج في المسلمين.
الخوارج هؤلاء إذ نستعرض منهجهم اليوم فإننا لن نتطرق إلى ما تولد عن ذلك المنهج من عقائد في الأسماء والصفات، وفي القول في القدر، وفي حكم مرتكب الكبيرة عبر العصور، وإنما سنتناول الغلو المخيف الذي عاشوه من قبل وما زال أشياعهم وورثتهم في كل عصر يعيشونه.
معاشر الإخوة: إن كون الإنسان متدينًا باذلاً عابدًا متقشفًا زاهدًا تاركًا للدنيا منطلقًا إلى الجهاد في سبيل الله -أو ما يظنه جهادًا في سبيل الله- يذكر الله في كل حين، إن كون الإنسان بهذه الصورة المثالية في العبادة والتضحية يتكلم بالآيات والأحاديث، ثم بعد ذلك يحمل معه فكر التكفير والقتل وسفك الدماء المحرمة، بل والتلذذ بالقتل لهو من الفتن العظيمة.
كون الإنسان بهذه الصورة الدينية الإسلامية الظاهرة، ثم يتبنى عجرفة وكبرًا مقيتًا وعنادًا عريضًا يجعله يستصغر كبار العلماء، ولو كانوا مستقلين لا رابط بينهم وبين دولهم، ويسفّه آرائهم، بل قد يكفّرهم ولا يرى كلام علماء الدنيا كلها صوابًا إلا ما صدر عنه هو وحده، أو وافق رأيه على صغر سِنّه وضحالة علمه.
كون الإنسان بهذه الصورة يُعَدّ من الطوام في أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- ويعد شبهة كبيرة لدى كثير من الناس.
إذا كان هذا الاشتباه قد وقع فيه بعض كبار الصحابة فكيف بنا نحن؟!
تأملوا ما ذكره ابن حجر في شرحه على فتح الباري وأخرجه أحمد بسند جيد عن أبي سعيد، قال جاءَ أبو بَكرٍ إلى رسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ إنِّي مَررتُ بوادي كَذا فإذا رجُلٌ حَسنُ الهيئةِ متخَشِّعٌ يصلِّي فيهِ فقالَ: "اذهَب إليهِ فاقتُلهُ"، قالَ: فذَهبَ إليهِ أبو بَكرٍ فلمَّا رآهُ يصلِّي كرِهَ أن يقتُلَهُ، فرجعَ فقالَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لعُمرَ: "اذهَب إليهِ فاقتُلهُ"، فذَهبَ فرآهُ علَى تِلكَ الحالَةِ فرجَعَ فقالَ -صلى الله عليه وسلم- "يا عَليُّ اذهَبْ إليهِ فاقتُلهُ"، فذَهبَ عليٌّ فلَم يرَه فَقالَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ هذا وأصحابَهُ يقرَؤونَ القُرآنَ لا يجاوزُ تراقيَهم يَمرُقونَ منَ الدِّينِ كما يمرقُ السَّهمُ منَ الرَّميَّةِ ثمَّ لا يَعودونَ فيهِ فاقتُلوهم هُم شرُّ البريَّةِ".
وإنما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتله بعد أن كان ينهى عن ذلك قبل سنوات لأنه استغنى عن الاحتراز عن مفسدة قتل أمثاله من الخوارج الغلاة، لما كان الإسلام في بادئ أمره، حيث الآن انتشر الإسلام وما عاد يضر كما كان بالأول، هكذا علله العلماء في شرحهم لهذا الحديث الصحيح.
وهكذا هم أولئك القوم يحار الإنسان من تناقضاتهم، ويخاف البعض أن يكون قد ظلمهم، الناس يخافون أن يكونوا قد ظلموهم بحكمهم عليهم ويتعجبون من حالهم كيف جمعوا بين العبادة والزهد وبين الشراسة والوحشية وسفك دماء الأبرياء.. كيف؟!
ومن قدَر الله أن الخوارج يوجدون في كل عصر كما أخبر بذلك -صلى الله عليه وسلم- فيما صح في سنن ابن ماجه من حديث عمر قال عليه الصلاة والسلام: "ينشأ نشء يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم كلما خرج قرن قُطع".
قال ابن عمر: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كلما خرج قرن قُطع أكثر من عشرين مرة حتى يخرج في عراضهم الدجال"، حتى يخرج في مواجهتهم الدجال وهم مستمرون.
وقاله عليّ -رضي الله عنه-، ولا يخبر صحابي بأمر غيبي إلا كان لخبره حكم الرفع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد جاء في البداية والنهاية أنه لما قتل عليّ أهل النهروان وهم خوارج كانوا هناك، جعل الناس يقولون: "الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي قطع دابرهم"، فقال عليّ: "كلا والله إنهم لفي أصلاب الرجال وأرحام الناس لا ينقطعون موجودون في كل زمان".
وقد بدأ خروجهم على أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- بعد صفين فإنه لما عاد عليّ -رضي الله عنه- من صفين متجهًا إلى الكوفة انفصل عنه الخوارج في جماعة كبيرة قُدّر عددها في بعض الروايات ببضعة عشر ألفًا، انفصلوا عنه لأنهم لم يعجبهم ما حصل في صفين من رفع المصاحف طلبًا للهدنة وحقنًا للدماء وما تبع ذلك، لم يعجبهم، فأرسل إليهم عليّ عبدَالله بن عباس ليناظرهم.
يقول ابن زنير حدثني ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "لما اجتمعت الحرورية يخرجون على عليّ -رضي الله عنه- قال: فجعل يأتيه الرجل فيقول يا أمير المؤمنين القوم خارجون عليك، قال عليّ: دعهم حتى يخرجوا"، أي: دعهم فلن أقاتلهم حتى يعلنوا الخروج صراحة ويبدءوا بقتالنا عند ذلك نقاتلهم.
فلما كان ذات يوم يقول ابن عباس قلت: يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة فلا تفتني حتى أتي القوم، يعني أخِّر صلاة الظهر حتى لا تفوتني الصلاة، صلاة الجماعة معكم لأذهب إلى أولئك القوم أكلمهم لعلهم يرجعون ثم أعود فأصلي معكم.
قال ابن عباس "فدخلت عليهم وهم قائلون –بالظهر ظهيرة- فإذا هم مسهمة وجوههم من السهر-تغير لون الوجوه من السهر يقومون الليل- قد أثر السجود في جباههم- يطيلون السجود- كأن أيديهم ثفن الإبل عليهم قُمُص مرحضة –أي مغسولة- فقالوا: ما جاء بك يا ابن عباس؟ وما هذه الحُلّة عليك؟ -يقولون ذلك لابن عباس اتهامه بالترف وسخرية به لسوء أدب وكبر وكأنهم أفضل منه- قلت: وما تعيبون من ذلك؟ فلقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه أحسن ما يكون من الثياب اليمنية، ثم قرأت هذه الآية: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف: 32]، فقالوا: ما جاء بك؟ قال: جئتكم من عند أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وليس فيكم منهم أحد، ومن عند ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بتأويله؛ جئت لأبلغكم عنهم، وأبلغهم عنكم، فقال بعضهم: لا تخاصموا قريشاً فإن الله يقول: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) [الزخرف: 58] –انصرفوا عنه- فقال بعضهم: بلى فلنكلمه – قد يكون من ضمنهم من يريد الحق فكيف كان الحوار بين ابن عباس وهؤلاء الخوارج؟!
أسأل الله تعالى أن يصلح حال المسلمين، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه، وبعد:
فقد قال ابن عباس: "فكلمني منهم رجلان أو ثلاثة، قلت: ماذا نقمتم عليه؟ -يعني على أمير المؤمنين عليّ -رضي الله عنه- قالوا: ثلاثاً، فقلت: ما هن؟ قالوا: حكَّم الرجال في أمر الله، وقال الله - تعالى -: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ) [الأنعام: 57] –هذا هو فهمهم- قال قلت: هذه واحدة، وماذا أيضاً؟ قالوا: فإنه قاتل، فلم يسبِ، ولم يغنم، فلئن كانوا مؤمنين ما حلّ قتالهم، ولئن كانوا كافرين لقد حل قتالهم وسبيهم، قلت: وماذا أيضاً؟ قالوا: ومحا نفسه من أمير المؤمنين –يعني في بنود الهدنة ما كتب أمير المؤمنين ما لقب نفسه بهذا اللقب- فإن لم يكن أمير المؤمنين، فهو أمير الكافرين –تكفير مباشرة-.
قلت: أرأيتم إن أتيتكم من كتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بما ينقض قولكم هذا؟ أترجعون؟ قالوا: وما لنا لا نرجع.
قلت: أما قولكم: حكَّم الرجال في أمر الله، فإن الله قال في كتابه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ) [المائدة: 95]، وقال في المرأة وزوجها: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا) [النساء: 35]، فصيّر الله ذلك إلى حُكم الرجال، فناشدتكم الله أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين، وفي إصلاح ذات بينهم أفضل؟ أو في دم أرنب ثمنه ربع درهم، وفي بُضع امرأة؟! –هذا أولى أم ذاك- قالوا: بلى؛ هذا أفضل، قال: أخرجتُ من هذه؟ قالوا: نعم.
قال: وأما قولكم: قاتل ولم يسبِ، ولم يغنم، أتسبون أمكم عائشة؟ -رضي الله عنها- فإن قلتم: نسبيها، فنستحل منها ما نستحل من غيرها، فقد كفرتم، وإن قلتم: ليست بأمنا، فقد كفرتم، فأنتم ترددون بين ضلاتين! أخرجتُ من هذه؟ قالوا: بلى.
قال: وأما قولكم: محا نفسه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بمن ترضون، إن نبي الله يوم الحديبية حين صالح أبا سفيان، وسهيل بن عمرو، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اكتب يا عليّ: "هذا ما صالح عليه محمد رسول الله"، فقال أبو سفيان، وسهيل بن عمرو: ما نعلم أنك رسول الله، ولو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك!
قال رسول الله: "اللهم إنك تعلم أني رسولك، اكتب يا عليّ: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله"، قال والله لَرسولُ الله خيرٌ من عليّ، وما أخرجه من النبوة حين محا نفسه.
قال ابن عباس: فرجع منهم ألفان –بكلامه-.
هكذا هم منهم مغرر بهم محجوزون عن الحقيقة محجوبون عنها، ولو سمعوا لربما استجابوا وأكثرهم أهل كبر وعناد لا يجزي معهم نقاش ولا يقبلون بأيّ قول سوى قولهم.
وللحديث تتمة إن شاء الله.. اللهم ألّف بين قلوب المجاهدين الموحدين، واجمعها على الحق يا رب العالمين.
التعليقات