إعداد: الشيخ / السيد طه
الحمد لله رب العالمين .. الرقيب الحسيب العليم بما في نفوسنا قال تعالي } وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَٱحْذَرُوهُ (235){البقرة . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيئ قدير .. ذمّ الغش وأهله في القرآن وتوعدهم بالويل، ويُفهم ذلك من قوله تعالى{ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينْ (2) الّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُون (3) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ(3) }المطففين. وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم ..أحيا الضمائر وربطها بالله تعالي فلما سئل عن الاحسان كما في حديث سيدنا جبريل عليه السلام (أنه سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن الإحسان، فقال: أن تعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه فإنه يراك) [أخرجه مسلم في الصحيح, وأبو داود والترمذي والنسائي في سننهم]. فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .. أما : بعــد .. فيا أيها المؤمنون . لقد خلق الله الإنسان وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعا ، ليقتدر بذلك على أداء رسالة الاستخلاف في الأرض ،وشرع له الدين سموا به إلي معارج الكمال ، وحميد الخصال ، ولينهض به الي اكتساب السمات الفاضلة للشخصية المتكاملة بأن يكون صاحب عقيدة سليمة ، وعبادة صحيحة ، وأخلاق وسلوك راقية ، حتي يستطيع أن ينهض بالمجتمع ، ويكون مجتمعا راقيا ،لا يكون فيه غش ولا خيانة ولا تدليس ولا أنانية ، ويكون متماسكا متحابا يقوم علي الصدق والأمانة ، لذلك حرم الإسلام الغش والتدليس علي الناس وذلك لما فيهما من ضرر عظيم علي الفرد والمجتمع ، لذلك كان حديثنا عن (الغش وخطره علي الفرد والمجتمع )
وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية :ـ
1ـ حقيقة الغش .
2ـ حكم الغش .
3ـ مظاهر الغش في الحياة .
4ـ الأسباب المؤدية للغش .
5ـ آثار الغش في الدنيا والآخرة.
6ـ الأسباب المعينة على ترك الغش.
العنصر الأول :حقيقة الغش :ـ
الغِشُّ: نقيض النُّصح، وهو مأخوذ من الغشش:
المشرب الكدِر، وغشَّه يغشَّه غشًّا من باب قتل:لم يمحضه النُّصح، وأظهر له خلاف ما أضمره، وزين له غير المصلحة. والغشُّ: الغلُّ والحقد، ولبن مغشوش مخلوط بالماء، وغَشَّشَه تغشيشًا، مبالغة في الغِشِّ . قال المناوي: الغشُّ ما يخلط من الرَّديء بالجيِّد. من مترادفات الغش: الغُلُول، والخيانة، والمداهنة، والدغل، والتمويه، والمخرقة، والإدهان. والغش: خديعة، وخيانة، وضياع للأمانة، وفقد للثقة بين الناس، وكل كسب من الغش فإنه كسب خبيث حرام، لا يزيد صاحبَه إلا بعدًا من الله) . وقال الكفوي: “الغش سواد القلب، وعبوس الوجه، ولذا يطلق الغش على الغل والحقد”.
العنصر الثاني :حكم الغش:ـ الغش في كل مجالات الحياة حرام، وبعض العلماء مثل الذهبي عدُّوه كبيرة من كبائر الذنوب . قال ابن حجر الهيتمي: (… فذلك أعني ما حكي من صور ذلك الغش التي يفعلها التجار، والعطَّارون، والبزَّازون، والصوَّاغون، والصَّيارفة، والحيَّاكون، وسائر أرباب البضائع، والمتاجر، والحرف، والصنائع، كله حرام شديد التحريم، موجب لصاحبه أنه فاسق غشاش، خائن يأكل أموال الناس بالباطل، ويخادع الله ورسوله وما يخادع إلا نفسه، لأن عقاب ذلك ليس إلا عليه) . فالغش من كبائر الذنوب، وقد تبرأ النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من فاعله فقال صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من غشَّنا فليس منا))، وفي لفظ: ((من غشَّ فليس مني). وقد حذر الإسلام تحذيرا شديدا من الغش لما يترتب عليه من مفاسد وأضرار .. فقال تعالي } وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا(10){ الحشر. (أي: غشًّا وحسدًا وبغضًا). وقال تعالي} قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا(58){ النساء من الأمانة (أمانة العبد مع الناس، ومن ذلك رد الودائع إلى أربابها وعدم الغش وحفظ السر ونحو ذلك) وقال تعالي }وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ(13){المائدة. قال الواحدي: (أي: على خيانة، وقال مقاتل: يعني بالخيانة: الغش للنبي صلى الله عليه وسلم) وقال تعالى}تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ(92){النحل .قال الواحدي: (الدخل والدغل: الغش والخيانة، قال الزجاج: غشًّا ودغلًا) ، وقال الماوردي: (الدخل: الغل والغش) وقال تعالى في وصف حال أهل الجنة }وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ(43){الأعراف. قال السمعاني: (الغل: الغِشُّ والحقد) .قال مقاتل: (يعني ما كان فِي الدُّنْيَا فِي قلوبهم من غش، يعني بعضهم لبعض).
العنصر الثالث :
مظاهر الغش في الحياة :ـ نهى الإسلام الحكيم عن الغش في جميع صوره ومظاهره , بل وتوعد الإسلام أهله بالويل والخسران , قال تعالى:{ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينْ(1) الّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُون(2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ(3) }المطففين . ومفهوم التطفيف واسع وشامل، كل أنواع الغش من التطفيف ،الغشَّ في العبادات ، الغش في المعاملات والعلاقات ، وفي النصيحة، والمشورة، وفي العلم، بجميع مواده الدينية والدنيوية، وفي العطاء ، وفي الوظائف ، وفي كل مجالات الحياة …… وذلك لما يترتب على الغش من المفاسد والأضرار والعواقب الوخيمة.).
ومن مظاهر الغش :ــ 1ـ
الغش في البيع والشراء وغيرها من المعاملات المالية:ـ كأن يَحصُل الشخص على المال بطرق محرمة، إمَّا عن طريق الكذب، أو كتمان عيب السلعة، أو البخس في ثمنها، أو التطفيف في وزنها، أو خلط الجيِّد بالرديء، وغيرها من الطرق المحرمة، لذلك حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من الغش وتوعّد فاعله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على صُبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً. فقال} ما هذا يا صاحب الطعام؟ { قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: « أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس مني » وفي رواية « من غشنا فليس منا » وفي رواية « ليس منا من غشنا » [رواه مسلم]. قال ابن حجر الهيتمي مبينًا هذا النوع من الغش في البيع والشراء: (الغش المحرم أن يعلم ذو السلعة من نحو بائع، أو مشتر فيها شيئًا، لو اطلع عليه مريد أخذها ما أخذها بذلك المقابل) . وما أكثر (ضروب الغشِّ والاحتيال، كما يقع من السماسرة من التَّلبيس والتَّدليس، فيزيِّنون للناس السلع الرديئة، والبضائع المزجاة، ويورطونهم في شرائها، ويوهمونهم ما لا حقيقة له، بحيث لو عرفوا الخفايا ما باعوا وما اشتروا) . وقال ابن تيمية: (والغش يدخل في البيوع بكتمان العيوب، وتدليس السلع، مثل أن يكون ظاهر المبيع خيرًا من باطنه، كالذي مرَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر عليه. ويدخل في الصناعات مثل الذين يصنعون المطعومات من الخبز، والطبخ، والعدس، والشواء وغير ذلك، أو يصنعون الملبوسات كالنسَّاجين، والخيَّاطين، ونحوهم، أو يصنعون غير ذلك من الصناعات، فيجب نهيهم عن الغش والخيانة والكتمان) . وحذر النبي صلي الله عليه وسلم من التدليس في السلعة ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:} من اشترى شاة مصراة فلينقلب بها فليحلبها فإن رضي حلابها أمسكها وإلا ردها ومعها صاع من تمر { متفق عليه . وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التصرية، فقال الإمام النووي: وهو ربط أخلافها، ومعناه: لا تجمعوا اللبن في ضرعها عند إرادة بيعها حتى يعظم فيظن المشتري أن كثرة لبنها عادة مستمرة، ومنه قول العرب: صريت الماء في الحوض إذا جمعته، وصرى الماء في ظهره إذا حبسه… واعلم أن التصرية حرام سواء تصرية الناقة والبقرة والشاة والجارية والفرس والأتان وغيرها لأنه غش وخداع، وبيعها صحيح مع أنه حرام، وللمشتري الخيار في إمساكها وردها.. وفيه دليل على تحريم التدليس في كل شيء، وأن البيع من ذلك ينعقد، وأن التدليس بالفعل حرام كالتدليس بالقول. قال ابن عبد البر: (وهذا الحديث أصل في النهي عن الغش، وأصل فيمن دلَّس عليه بعيب، أو وجد عيبًا بما ابتاعه، أنه بالخيار في الاستمساك أو الرد). وقال الأمير الصنعاني: (الحديث أصل في النَّهي عن الغش، وفي ثبوت الخيار لمن دلَّس عليه) وقال ابن عباس رضي الله عنهما}لا يزال الرَّجل يزداد في صحَّة رأيه ما نصح لمستشيره، فإذا غشَّه سلبه الله نصحه ورأيه{ ،وكان جرير بن عبد الله إذا قام إلى السلعة يبيعها بصَّر عيوبها ثم خيَّره، وقال: إنْ شئت فخذ، وإنْ شئت فاترك، فقيل له: إنك إذا فعلت مثل هذا لم ينفذ لك بيع، فقال إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم{ . – وباع ابن سيرين شاة فقال للمشتري: (أبرأ إليك من عيب فيها، أنها تقلِّب العلف برجلها) . ومن المواقف التربويه الدالة علي ورع السابقين :ـ التابعي الجليل يونس ابن عبيد يكشف لنا مما ساد بين التجار بما عرف بقانون العرض والطلب والذين يجيزون به مضاعفة الربح في البيع والشراء بدعوى أن القضية قضية عرض وطلب، فيروى أنه كان عند يونس بن عبيد حلل مختلفة الأثمان، ضرب قيمة كل حلة منها أربعمائة، وضرب كل حلة قيمتها مائتان، فمر إلى الصلاة وخلف ابن أخيه في الدكان، فجاء أعرابي وطلب حلة بأربعمائة فعرض عليه من حلل المائتين فاستحسنها ورضيها، فاشتراها فمضى بها وهي على يديه، فاستقبله يونس فعرف حلته، فقال للأعرابي: بكم اشتريت؟ فقال بأربعمائة، فقال: لا تساوي أكثر من مائتين فارجع حتى تردها، فقال: هذه تساوي في بلدنا خمسمائة وأنا أرتضيها، فقال له يونس: انصرف فإن النصح في الدين خير من الدنيا بما فيها، ثم رده إلى الدكان ورد عليه مائتي درهم، وخاصم ابن أخيه في ذلك وقاتله وقال: أما استحييت، أما اتقيت الله، تربح مثل الثمن وتترك النصح للمسلمين، فقال: والله ما أخذها إلا وهو راض بها، قال: فهلا رضيت له بما ترضاه لنفسك. فهذا الموقف من يونس بن عبيد يبرز لنا أن للعملية الاقتصادية في الإسلام أبعاد أخرى غير أبعاد الربح والخسارة، ولها قوانين أخرى غير قانون العرض والطلب، فللعملية الاقتصادية في الإسلام أبعاد دينية واجتماعية، فأما الدينية فمتمثلة في نصح المسلمين وعدم غشهم أو خداعهم، ويذهب البعد الاجتماعي أكثر من هذا فيجعل المسلم لا يبيع شيئًا لأخيه أو يعقد صفقة إلا إذا كان يرضاها لنفسه، فإن رضيها لنفسه أتمها، وبارك الله له فيها.
2- غش المسئولية:ـ
لابد أن يعلم كل إنسان أوكله الله أمر من أمور المسلمين أن الله تعالي وضع في عنقه أمانة ومسئولية فهي ليست تشريف ولا وجاهة وإنما مسئولية وتكليف. بمعنى أن كل من تم توظيفه في عمل عام فهو المعني بهذا الكلام : يقول المولي سبحانه وتعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا).النساء). وقال تعالي} إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً(72){الأحزاب. وقال تعالي(وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ {24} الصافات. وقال تعالي}فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93({ الحجر. كما يصف جل جلاله المؤمنين فيقول (والذين هم لامانتهم وعهدهم راعون)المؤمنون. أى ان الوظيفه العامه وديعه فى يد شاغلها يسأل عنها امام الامة التى تضعها فى يده ويسأل عنها امام الله. وكل ما كلفنا الله به من عمل فهو أمانة، الموظف مؤتمن، والمدرس مؤتمن، والتاجر مؤتمن، والعالم مؤتمن، والقاضي مؤتمن، والرجل في أهله ، والمرأه في بيت زوجها وغيرهم .. وذلك لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول}كلكم راع ومسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته{ رواه البخاري فمن أعظم مظاهر غش المسئولية .. الغش للرعية ، وعدم النصح لهم، بحيث يتصرف تصرفًا ليس في مصلحتهم، ولا مصلحة العمل، لحديث معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعت النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: }ما من عبد يسترعيه الله على رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة{رواه البخاري ومسلم. وعن مَعقِل بن يَسار رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم- يقول}ما من أميرٍ يَلِي أمر المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح، إلا لم يدخل معهم الجنة{؛ أخرجه مسلم. من مظاهر غش المسئولية .. الإحتجاب عن الناس وعدم قدرتهم علي الوصول إليه ..روى أبو مريم الأزدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم } من ولي من أمور المسلمين شيئاً ، فاحتجب دون خلتهم ، وحاجتهم ، وفقرهم ، وفاقتهم ، احتجب الله عنه يوم القيامة ، دون خلته ، وحاجته ، وفاقته ، وفقره {(صحيح الجامع الصغير) .. وعن عمرو بن مرة رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم}ما من إمام أو والٍ يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة، إلا أغلق الله أبواب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته{أخرجه أحمد . ولذلك دعا النبي صلي الله عليه وسلم لمن رفق بالرعية ، أوشق عليهم ، فقال صلى الله عليه وسلم}اللهم من وَلِي من أمر أمتي شيئًا فشقَّ عليهم، فاشقُق عليه، ومن وَلِي من أمر أمتي شيئًا فرَفَق بهم، فارفق به{رواه مسلم.. من مظاهر غش المسئولية .. محاباة طرف علي حساب طرف…بحديث يؤخر أصحاب الكفاء ويقدم الأقل كفاءة مما يؤدي إلي ضياع الأمانة وعدم الشعور بالانتماء والولاء .. رُوِي عن أبي بكر أنه قال لواليه يَزِيد بن أبي سفيان، وهو يرسله إلى الشَّام: “يا يَزِيد، إنَّ لك قرابةً عسيتَ أن تؤْثِرَهم بالإمارة، وذلك أكثر ما أخاف عليك، بعدما قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم (من وَلِي من أمر المسلمين شيئًا فأمَّر عليهم أحدًا محاباة، فعليه لعنة الله، لا يَقْبَل الله منه صرفًا ولا عدلاً، حتى يدخله جهنم). ومن مظاهر غش المسئولية استغلال المسئولية في كسب غير مشروع :ــ فيحرم علي العامل أو الموظف أن يأخذ من الجهة الني يعمل بها أكثر من الأجر المقدر له أو الحافز المقرر له . ومن يحاول أخذ شيء سوي ذلك فهو غال وغاش وخائن لأمانة قال تعالي } ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة(161) { آل عمران. وروي مسلم في صحيحه بسنده عن عدي ابن عميرة الكندي قال سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول من استعملناه منكم علي عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة قال فقام رجل أسود من الأنصار كأني أنظر إليه فقال يا رسول الله أفيل عني عملك قال ومالك قال سمعتك تقول كذا وكذا قال وأنا أقوله الآن من استعملناه منكم علي عمل فليجئ بقليله وكثيره فما أوتي منه أخذ وما نهي عنه انتهي . كما يحرم علي أي مسئول أو موظف في أي مكان أن يرتشي أو يقبل الهدية ممن يعمل لهم من الناس فأخذ الرشوة إن كانت في مقابل تسهيلات فالحرمة تكون أشد لما فيها من أكل السحت ومخالفة الأمر وإن كانت بلا مقابل فكيف يأخذ ما لا يستحق وكيف يحمل نفسه من الأوزار في الدنيا والأثقال في الآخرة مالا يحتمل . روي الحاكم في المستدرك بسنده عن عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما قال لعن رسول الله صلي الله عليه وسلم الراشي والمرتشي ) وحديث ابن اللتبية خير دليل علي ذلك . روي مسلم رحمه الله في صحيحه بسنده عن أبي حميد الساعدي قال استعمل رسول الله صلي الله عليه وسلم رجلا من الأزد علي صدقات بني سليم يدعي ابن اللتبية فلما جاء حاسبه قال هذا مالكم وهذا هدية أهديت لي فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتي تأتيك هديتك إن كنت صادقا ثم خطبنا فحمد الله وأثني عليه ثم قال أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم علي العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول هذا مالكم وهذا هدية أهديت لي أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتي تأتيه هديته إن كان صادقا والله لا يأخذ أحد منكم منها شيئا بغير حقه إلا لقي الله تعالي يحمله يوم القيامة فلأعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتي رؤي بياض إبطيه ثم قال اللهم هل بلغت بصر عيني وسمع أذني . ومن مظاهر غش المسئولية عدم بذل مافي وسعه وطاقته ،وعدم الوفاء للعمل ، وعدم الحفاظ علي ممتلكات العمل وكشف أسراره وخصوصياته ..كأن تجد الموظف في أثناء فترة العمل المحددة يخرج لقضاء مصالحه الشخصية ويعطل مصالح الناس ، يفطر ويشرب الشاي ويقرأ الصحف ويهاتف الأصحاب والبيت وهكذا فتتعطل كثير من مصالح المسلمين . ومن أعظم مظاهر غش المسئولية أيضا.. إهمال الوالدين في تربية أولادهم .. قال بعض أهل العلم: تربية المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلة تربيته عنوان شقاوته وبواله . قال ابن القيم:وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله، وترك تأديبه، وإعانته على شهواته، ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه، وأنه يرحمه وقد ظلمه، ففاته انتفاعه بولده وفوَّت عليه حظه في الدنيا والآخرة، وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من قبل الآباء) .
ليس اليتيم من أنتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلاً
إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولاً
الأم تخلت عن تربية الولد، والأب مشغول طيلة النهار خارج البيت عن أولاده . وهذان نموذجان لتربية صالحة والأخري سيئة غاشه … الأولي : الإمام الأوزاعي إمام ومحدث كبير ،مثل: الشافعي، والحنفي، ومالك، وأحمد ابن حنبل، يقولون: ولد في بعلبك في لبنان، ونشأ يتيماً فقيراً في حجر أمه، الولد فقير معدم لا أب له، لكنهم قالوا: ربته أمه تربية تعجز الملوك أن تربي أولادها مثل تربيته، ربته أمه تربية على فقره وضعفه وحاجته كان المتعين على من سمع كلمة من الأوزاعي أن يسجلها، لأن التربية رفعت الأوزعي، ورفعت أم الأوزعي التي ربت هذا الولد .
الثانية : أما التربية السيئة فهي كالآتي .. فعسى يرى الآباء فيها عبرة وتكون للأبناء خير عظاتِ،حكم القاضي على فتى بالموت إذ نفساً قتل ليفوز بالسرقاتِ وأتوا به عند الصباح مكبلاً ما بين فرسان وبين مشاةِ ،ودنوا به من آلةٍ حدباء قد نصبت لإعدام الأثيم العاتي ، وتلو عليه الحكم وهو مروع تبدو عليه صفرة الأموات، سألوه قبل الموت عما تشتهي فأجاب هيا عجلوا بمماتي ، لكنه بين الجموع رأى له أماً تنوح بأسوأ الحالات، فبكت وقالوا: دعوا الحزينة لحظة كيما أقبلها قبل وفاتي، فدنو بها منه، فقال: تشجعي يا أم فموتي لا محالة آت ،مدي لسانك كي أقبله فهذي آخر اللحظات، مدت له منها اللسان ولم تدري بما للإبن من نيات، فدنا يقبلها ولكن صرخة منها دوت والناس في دهشات ، نظر الجميع إلى الفتى فإذا به قطع اللسان وقال ذي الكلمات ،لو لم يكن هذا اللسان مشجعاً لي في الجرائم ما فقدت حياتي ،هذا إنتقامي منك ياأمي فلا لوم علي وهذه ثاراتي . إهمال تربية الأبناء جناية عادت على الآباء بالويلات .
3ـ الغش في القول:
وذلك عند إدلاء الشاهد بالشهادة، فيشهد بشهادة فيها زور وبهتان وكذب، ونحو ذلك. إن شهادة الزور تسبب لشاهدها دخول النار لأنها تطمس العدل والإنصاف وتعين الظالم على ظلمه وتضيع حقوق الناس وتظلم بعضهم على حساب بعض وتعطي الحق لغير مستحقه وتزرع الأحقاد في القلوب وتعصف بالمجتمع وتقوض أركانه وتزعزع أمنه واستقراره يقول النبي صلى الله عليه وسلم }إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو يذرها{. يشهد أحدهم شهادة مزورة أو يجمع أقوالاً ملفقة أو يوشي بوشايات كاذبة لا يخافون الله فيها ولا يخشون عقابه عليها وصدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول ((إن بعدكم قوماً يخونون ولا يُؤتمنون، ويشهدون ولا ُيستشهدون، وينذرون ولا يوفون)) رواه البخاري ومسلم. وأخبر النبي صلي الله عليه وسلم أن قول الزور من أكبر الكبائر..فجاء في الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ}أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ – ثَلَاثًا – ؟ قُلْنَا: بَلَى يا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فقالَ: أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ{ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ .
4ـ الغش في النصيحة:
ويكون الغش في النصيحة، بعدم الصدق، والإخلاص فيها، أوبعدم بذلها ،أوبالصمت واللامبالاة ،وهذا من علامات المنافقين. قال الخطَّابي: في معني قول النبي صلي الله عليه وسلم }من غشنا فليس منا {… معناه ليس على سيرتنا ومذهبنا، يريد أنَّ من غشَّ أخاه وترك مناصحته، فإنَّه قد ترك اتباعي والتمسك بسنَّتي) وعن جرير بن عبد الله، قال}بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم{ وعن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال}الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم{ . ومن صور الغش أيضًا: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم الإنكار على الأصحاب والأقارب محاباة لهم ومداهنة. فحق هؤلاء على المسلم أن ينصحهم ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، فإن لم يفعل فقد غشهم.
5ـ الغش في التعليم:ـ
كأن يغش في الامتحانات ويحصل على شهادة لا يستحقها، وقد يتبوأ بها منصبًا، وهو ليس أهلًا لذلك المنصب، وبهذا الغش يخرج جيل جاهل، غير مؤهل لقيادة الأمة. وقد تكلم بعض العلماء عن هذا الجانب من الغش؛ نذكر من ذلك: الغش حرام في امتحانات الدراسة أو غيرها، وفاعله مرتكب كبيرة من كبائر الذنوب؛ لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من غشنا فليس منا)). ولا فرق في ذلك بين كون المواد الدراسية دينية أو غير دينية ،كما أنَّه محرَّم في المعاملات. فطالب العلم مؤتمن أمام الله تعالي فمن نجح بالغش فليس بناجح في الحقيقة، ثم إنه يترتب على غشه أنه سينال بشهادته مرتبة لا تحل له ، ويترتب علي ذلك الفشل الدائم وعدم الأمانة فلو أصبح طبيبا فسيكون فاشلا وكذلك مهندسا ومدرسا وغير ذلك لأنه بني علي الغش ، فيبقي فاشلًا في أداء مهمته.
العنصر الرابع : الأسباب المؤدية للغش :ـ
هناك أسباب كثيرة تحمل الإنسان أن يغش ومن هذه الأسباب:ـ
1- ضعف الإيمان بالله، والإيمان بالقضاء والقدر ،وقلة الخوف منه، وافتقاد الرقيب ، وإذا غاب الرقيب ضاعت الأخلاق .
2- جهل الفرد بحرمة الغش، وأنه من الكبائر.
3- – شدة الحرص علي الدنيا ، والحصول علي المال من أي طريق كان.
4- عدم تطبيق الأحكام لمعاقبة مرتكبي جريمة الغش.
6- الرفقة السيِّئة.
7- التربية السيئة، والتي تتنافى مع الأخلاق والآداب الإسلامية.
8- نسيان الموت وافتقاد قيمة الآخرة .
العنصر الخامس :آثار الغش في الدنيا والآخرة :ـ
الغش يؤدي إلي خسارة كبيرة في الدنيا والآخرة منها :ـ
1ـ الخسارة في الآخرة :ـ
الغش يؤدي بصاحبه إلي ضعف الإيمان مما يجعل الإنسان بعيدا عن الله تعالي وعن رحمة الله عز وجل لأنه تهاون بنظر الله إليه ، وبعيدا عن الناس لأنه أصبح دنئ النفس خبيث فيورد نفسه مورد الهلاك والعطب ، ويكون مصيره النار والعياذ بالله بعد براءة الناس صلي الله عليه وسلم منه لقوله صلي الله عليه وسلم (من غشنا فليس منا ) لأنه ارتكب كبيرة من الكبائر المحرمة الموجبة للنار.
2ـ الخسارة في الدنيا :ـ
أ . طريق لحرمان إجابة الدعاء، لأن صاحبه يأكل المال الحرام.
ب . محق البركة في المال والعمر.، لأن فيه أكل أموال الناس بالباطل ، وخيانة للأمانة المكلف بها الإنسان .
ج . سبب في تسلط الظلمة والكفار، قال لابن حجر الهيثمي
ولهذه القبائح- أي الغش- التي ارتكبها التجار والمتسببون وأرباب الحرف والبضائع سلط الله عليهم الظلمة فأخذوا أموالهم، وهتكوا حريمهم ، بل وسلط عليهم الكفار فأسروهم واستعبدوهم، وأذاقوهم العذاب والهوان ألواناً { . وصدق من قال:
ولا ترجع الأنفس عن غيِّها *** ما لم يكن منها لها زاجر
د. الغش يؤدي إلي الفرقة بين المسلمين ، وضياع الثقة بين أفراد المجتمع .
هـ . يخرج أجيال فاشلة غير قادرة على تحمل المسئولية.
العنصر السادس : الأسباب المعينة على ترك الغش:ـ
1- الابتهال والتضرع إلى الله بالدعاء بأن يغنيه الله بحلاله عن حرامه.
2- التربية الإيمانية الشاملة الواعية منذ الصغر . وينشأ ناشئ الفتيـــــان منا على ما كان عوده أبوه وما دان الفتى بحجي ولكن يعوده التـــدين أقربوه
3- تقوية الثقة بالله، واستشعار مراقبته سبحانه وتعالي. فالمسلم إذا جعل الله رقيبا وحسيبا عليه وعلم أن هناك قصاصا عادلا يوم القيامة . خرج سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مكة في بعض أصحابه ،فاستراحوا في الطريق فانحدر عليهم راع من جبل. فقال له عمر : يا راعي الغنم بعنا شاة . فقال الراعي : إنه مملوك أي أنا عبد مملوك . قال له عمر : قل لسيدك أكلها الذئب فقال الراعي : أين الله . فبكى عمر واشترى الغلام من سيده واعتقه .
4- استشعار قيمة الآخرة ، وتذكر الموت وزيارة القبور .
5- الصبر في تحصيل الرزق الحلال بالوسائل المباحة.
6- التدريب علي القناعة ، والتسليم لقدر الله تعالي .
7- مجالسة الرفقة الصالحة.
8- معاقبة مرتكبي الغش لردعهم عن ذلك.، وعدم التهوين من أمر الغش.
9 ـ توضيح مخاطر الغش وتعارضه مع مبادئ الإسلام ومع القيم والغايات التربوية، والنظر للعواقب الوخيمة للغش في الدنيا والآخرة. وكان بعضهم يقول: (لا أشتري الويل من الله بحبة؛ فكان إذا أخذ نقص نصف حبة، وإذا أعطى زاد حبة، وكان يقول: ويل لمن باع بحبة جنة عرضها السموات والأرض، وما أخسر من باع طوبى بويل).
في الختام …أيها المؤمنون …. يجب أن نعلم أن نهضة الأمم والشعوب، تتوقف علي قوتها في إيمانها وفي عملها وفي إنتاجها، وفي إتقانها للعمل، والإخلاص فيه، ومراقبة الله تعالي والالتزام بهدي سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم والسير علي نهج السلف الصالح . ونبذ كل الخصال الذميمة من غش وتدليس وكذب وافتراء وخداع ومكر وغير ذلك .
فاللهم جنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن واهدنا لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، واصرف عنا سيئها لا يصرفُ عنا سيئها إلا أنت، اللهم أصلح فساد قلوبِنا، اللهم أصلح فساد قلوبنا وارحم ضعفنا وحسن أخلاقنا. اللهم آمين .
انتهت بفضل الله تعالي
التعليقات