اقتباس
تكلمنا في الجزء الأول عن المحددات الرئيسة اللازمة لفهم الواقع المحيط بالغارة الشعواء التي تشن على وضعية المرأة في المجتمعات المسلمة، وهذه المرة سنتكلم عن بعض النقاط الأساسية في مسائل الإصلاح المرأة، وذلك على طريق مواجهة الغزو الفكري والثقافي العنيف ضد ..
تكلمنا في الجزء الأول عن المحددات الرئيسة اللازمة لفهم الواقع المحيط بالغارة الشعواء التي تشن على وضعية المرأة في المجتمعات المسلمة، وهذه المرة سنتكلم عن بعض النقاط الأساسية في مسائل الإصلاح المرأة، وذلك على طريق مواجهة الغزو الفكري والثقافي العنيف ضد ثوابت وهوية المجتمعات الإسلامية.
النقطة الأولى: حقيقة الأزمة:
كلما تفتح وعي الناس على واقعهم، زادت معرفتهم بتباينات وتنوعات هذا الواقع، وأيضًا زادت معرفتهم بمشاكل هذا الواقع والخلل الحادث فيه، والحديث عن المشاكل المتعلقة بإصلاح وضع المرأة في المجتمع من الأمور الحساسة التي تثير مخاوف المصلحين، حتى لا يُتهموا بالرغبة في تغريب المرأة وتحريرها وفقًا للرؤية والطرح الغربي، والحق أن أحدًا منا لا يستطيع أن يزعم بأن أحوال المرأة المسلمة على خير ما يكون وعلى معيار الكتاب والسنّة، فثمة تجاوزات واسعة واختلالات ظاهرة في منظومة حقوق المرأة ومسؤولياتها في المجتمعات المسلمة اليوم، وهذا يجعل الحديث عن الإصلاح ذا أهمية وأولوية، بعيدًا عن ضغوط الغرب وغاراته المحمومة من أجل فرض أجندته ورؤيته على العالم الإسلامي، فمعظم محاولات الإصلاح المبذولة خلال العهود الماضية خاصة منذ انطلاق الدعوة المشبوهة لتحرير المرأة على يد "قاسم أمين"، كانت تدور في فلك دفاعي محض يهدف لصيانة المرأة والحفاظ عليها، بصورة مبالغ فيها، جعلنا في النهاية نفرض سترًا وحجبًا على كثير من حقوق المرأة الاجتماعية، فلا أحد يماري في فرضية الحجاب وأهمية عزل المرأة عن الخلطة المحرمة، ومنعها من مواطن الفتن، ولكن القيام بكل هذه الواجبات دون وجود برامج وآليات ترفع المرأة للمكانة اللائقة لتكون الزوجة والمربية والداعية والمواطنة الصالحة، حتى تكون عنصر فاعلية وإنتاج بالمعنى الواسع للإنتاج في المجتمع.
النقطة الثانية: التقدم والعقيدة:
ثمة علاقة وثيقة ومنسجمة بين التقدم كهدف وغاية، وبين معتقدات الإنسان وسلوكياته وأخلاقياته، فالغرب تقدم صناعيًّا وإنتاجيًّا لمَّا تخلَّص من معتقدات خاطئة كانت تعيق الفطرة وتحارب الفكرة وتعادي الإبداع، وفي المقابل فإن العالم الإسلامي تخلّف لما ابتعد عن معتقدات صحيحة تعمل متسقة فيما بينها في منظومة واحدة، مدادها كلمات الله؛ وحي السماء، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، أي بعبارة أخرى؛ إن الأمة تمتلك على المستوى النظري والحركي مجموعة متكاملة من القيم والمفاهيم والأحكام والرؤى التي توجه عجلة النهوض والتقدم على كل المستويات، بما في ذلك مستوى المرأة في المجتمع، لذلك كان أي عبث في هذه المنظومة بالحذف أو الإضافة كان معيقًا لأدائها بالكلية.
لذلك فإن الذين يحتطبون بحبال الغرب ويغزلون بمغزله في بلادنا، يدفعون بمجتمعاتنا نحو الهاوية بدعوتهم نحو انتهاج سبيل الغرب في إصلاح وضع المرأة المسلمة، وهو ما حدث بالفعل في المجتمعات التي حاولت أن تقتدي بالغرب، فلقد تعرضت لمشاكل كثيرة، ولم تنتفع من أطروحة الغرب إلا بقبض الريح، واستشرت بها الظواهر السلبية والأعمال القبيحة، وأمة الإسلام لا تعاني من فراغ عقائدي أو تشريعي يجعلها تبحث عن شرائع من صنع البشر وطرقه ومناهجه بكل ما فيها من قصور ونقصان وجزئية، كما أنه ليس لدى الغرب النموذج المنشود لرقي المرأة، فبالتالي فكل دعوة للتقدم والإصلاح في مجتمعاتنا، تنطلق من دعاوى التغريب والاقتداء بالآخر، هي في واقع الأمر دعوة للتخلف والتراجع والتخريب، وليست دعوة للتقدم والإصلاح والرقي.
النقطة الثالثة: الاختلاف والتناسق:
الاختلاف الفطري الواقع بين الرجل والمرأة على كل المستويات جزء من عملية التناسق الكبرى الواقعة في الكون كله بأمر الله -عز وجل-، فالتباين بين الرجل والمرأة يحقق بينهما التناسق والانسجام الذي يقود الأسرة إلى بر الأمان، فزيادة العاطفة عند المرأة ترطّب الأجواء داخل الأسرة، وتعين المرأة على تحمّل مشاق وصعوبات تربية الأطفال، وزيادة درجة المحاكمة العقلية عند الرجل تساعده على اتخاذ القرارات الصعبة، تمكّنه من ترشيد وتوجيه وضبط تصرفات وحركات أفراد الأسرة جميعًا، وحين تختل هذه المعادلة، فتتراجع العاطفة لدى المرأة وتطغى عند الرجل، تفسد الأسرة وتضطرب سفينتها بشدة، ومن هنا نفهم قوله -عز وجل-: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى) [آل عمران: 36]، فالاختلاف لا يعتبر أبدًا مدخلاً أو معقدًا للصراع بين الرجل والمرأة كما هو موجود في الغرب، وظهرت على أثره العديد من النظريات المنادية بحتمية الصراع بين الرجل والمرأة، وأوصاف المجتمع الذكوري، ونظرية التمركز حول الأنثى، التمركز حول الذات، فالمجتمعات المسلمة تخلو من هذه النظريات والصراعات الصادرة عن فكر مقطع الصلة والفهم بالسماء، فليس الرجل هو النجم الذي يجب أن تدور المرأة في فلكه، ولا العكس أيضًا، بل النساء شقائق الرجال، والاختلاف هنا للاتساق والتكامل.
رابعًا: الأصل والاستثناء:
من المنطلقات المهمة في مسألة النهوض بالمرأة المسلمة؛ فَهْم مسألة الأصل والاستثناء في واجبات ومسؤوليات واحتياجات وحقوق الرجل والمرأة؛ ذلك لأن الكثيرين ينظرون إلى أن الأصل في هذه المسألة هو التباين والاختلاف، في حين أن الأصل هو المساواة بين الرجل والمرأة، وأن التباين والاختلاف هو الاستثناء الذي دلّت عليه النصوص الكثيرة، قال تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) [النساء: 124]، وقال: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب: 36]، وقال: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ...) [الأحزاب: 35]، وقال: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ...) [التوبة: 71]، فالحاجات البدنية والنفسية والاجتماعية والأدبية للمرأة لا تختلف عن حاجات الرجل ذاتها، وذلك في إطار خصوصية المرأة وما يليق بمكانتها وصيانتها، أما مصادرة كثير من هذه الحقوق بدعوى أن الرجل مختلف عن المرأة فهذا ما لم يعرفه الأوائل من سلف هذه الأمة ممن فقه المراد من الآيات الدالة عن علاقة الرجل بالمرأة، فابن عباس ترجمان القرآن كان يتزين لامرأته ويقول: "إني لأتزين لزوجتي كما أحب أن تتزين لي". ولو أن المرأة فهمت دورها الحقيقي في بناء المجتمع، وسمح لها المجتمع بأداء هذا الدور، فلن يكون ثمة أية إشكالية قائمة في وضعية المرأة في المجتمعات، فنهضة المجتمع وتثقيفه وإصلاحه وتنميته مهمة مشتركة بين الرجل والمرأة، كلٌّ في إطاره ومجاله، وبما يتماشى مع خصوصياته وإمكاناته، دون إفراط أو تفريط.
خامسًا: نقطة البدء:
من الأمور المهمة في مسألة الحديث عن مشروعات الإصلاح عامة وتلك المتعلقة بالمرأة خاصة؛ التركيز على عملية التثقيف والتربية، بوصفها المورد الأول والأكبر في بناء الإنسان السوي المتزن، لتأسيس ذات حرة كريمة تحركها المبادئ والقيم والعقائد، ويردعها ويكبحها الضمير والوازع الديني والأخلاقي.
وقد باتت الحاجة لتثقيف المرأة المسلمة في هذه الأيام حاجة ماسة وضرورية مع تضاءل الأدوار التي كانت تقوم بها الدولة والمجتمع في التقويم والإرشاد، وذلك بسبب أفكار العولمة الآكلة للنسيج الاجتماعي التقليدي، فلم يعد للمدرسة والأسرة والوسط الاجتماعي ذات الدور التقليدي في التوجيه والتثقيف، ما يجعل الحاجة للرقابة الذاتية التي لا تأتى إلا بالتثقيف والتربية تتعاظم.
فنقطة البدء لاستعادة المرأة لدورها الفاعل والفعال في نهضة المجتمعات يكون بتوافر منظومة متكاملة من التثقيف والتربية المتوازنة التي تنمي الإحساس بالمسؤولية والانضباط الذاتي، وهذه البداية ليست بالأمر الهين أو السريع، بل هي عسيرة وطويلة وتحتاج إلى جهد وتعب وصبر، ولكن نتائجه مذهلة ومبشرة جدًّا، فالتثقيف يولّد التزامًا ذاتيًّا، وتدينًا متينًا، بعيدًا عن الالتزام القسري أو الإكراه على الاستقامة الذي لا يلبث أن ينكث صاحبه على عقبيه مع زوال المكره، وهذا يتضح جليًّا عبر التاريخ في أطروحات الإصلاح التي حاولت فرض التدين قسرًا، ومواجهة الانحراف والخلل الاجتماعي بسن القوانين والتشريعات العنيفة لردع أمثال هذه الانحرافات، حيث لم تؤتِ أبدًا ثمارها، وانطفأت نائرة الفساد ظاهريًا، ولكن جذوتها ظلت تتقد تحت الرماد تنقض أساسات المجتمع ببطء وهدوء.
سادسًا: استغلال الطاقات:
لا جدال على أن الأمومة هي الوظيفة الأولى والأهم للمرأة المسلمة، ورغم روعة هذا الدور واتساعه إلا أن المرأة في مجتمعاتنا لا تزال تعاني من وجود أوقات فراغ كبيرة لا تستطيع ملأها والاستفادة منها، ما يورثهن حالات متفاوتة من السأم والفراغ والملل، ما يؤدي لتفريغ هذه الطاقات السلبية في أمور فارغة، وبنظرة على شرائح المجتمعات المسلمة نجد أن المرأة في الطاقات الدنيا والمتوسطة تقضي وقت فراغها أمام شاشات التلفاز تجتر الغث والسمين من هنا وهناك، وأغلب المعروض والمشاهد في هذه الفضائيات يصب بصورة سلبية في البناء الثقافي والنفسي والفكري والسلوكي، في حين أن المرأة في الطبقات المرتفعة تقضي وقت فراغها في التسوق والتجول في المحال والمعارض تتابع أحدث خطوط الموضة، ما أدى لنمو النزعة الاستهلاكية لديها، بصورة فاقت نظيرتها الأوروبية.
ثم لنا تساؤل مهم عن وضع المرأة التي لم تتزوج، أو التي لم تنجب، أو كبر أبناؤها، أو الأرامل، أو المطلقات، وهذه الأصناف تمثل شريحة كبيرة داخل المجتمعات المسلمة، هؤلاء جميعًا يتحولن إلى قنابل موقوتة إذا لم تستغل أوقات فراغهن في الصالح والنافع على النفس والمجتمع، وبمراجعة سريعة لمعدلات الجريمة والانحراف في المجتمعات، نجد أن معظم الجرائم والخروقات تأتي من هذه الأصناف تحديدًا؛ ذلك لاتساع قاعدة الفراغ عندهن، وغياب الشاغل النفسي والمادي عن حياتهن.
هذه الوضعية الحساسة في حياة المرأة المسلمة تحتاج إلى حلول مركبة وناجزة، قد يكون من أولها: تحفيز المرأة على الانشغال برسالة أو مهمة اجتماعية أو دعوية أو ثقافية أو خدمية، ومنها أيضًا توفير الأماكن الخاصة بالنساء والتي يمكن ممن خلالها أن تمارس المرأة هواياتها وتفرّغ طاقاتها التربوية والتعليمية والترفيهية، بعيدًا عن مواطن الفتن والاختلاط المحرم، وهذا يتطلب توفير عشرات المؤسسات والمراكز الخيرية والتدريبية والتعليمية، لتوظيف وتثقيف المرأة والاستفادة من مؤهلاتها، والارتقاء بحياتها لما فيه نفعها ونفع أمتها ومجتمعاتها، ولو صدقت النوايا وحضرت العزائم وارتفع الوعي وعظمت الهمة، فسنجد كثيرًا من الحلول العملية، وستصبح المرأة كنز المجتمع الاستراتيجي على مر العصور.
الغارة على المرأة المسلمة (1/2)
التعليقات