اقتباس
وكان للمرأة المسلمة وضعية خاصة ومكانة مميزة في هذا الصراع، فسدنة التآمر والكيد ضد الإسلام، والقائمون على المشروع العالمي لطمس هوية المجتمعات الإسلامية وتجريفها، قد أجمعوا على أن المرأة هي المفتاح السحري للتغيير في أي مجتمع من المجتمعات، فهي نصف المجتمع، ومسؤولة عن ولادة وتربية النصف الآخر، وبالتالي هي قاعدة الأساس للبناء الاجتماعي، لذلك ..
في العالم الإسلامي المعاصر ألوان من الصراع تستحق الدراسة والتأمل، وإذا كان الصراع الديني والسياسي والاقتصادي هو أبرز ما يثير الانتباه، إلا أنه عند التأمل نجد أن الصراع الحضاري والفكري هو أهم وأخطر أنواع الصراعات، وأعمقها أثرًا، وأنكاها فعلاً؛ لأنه ينال من ثوابت الأمة ويصوّب سهامه مباشرة إلى مصدر قوتها؛ العقيدة والشريعة. والحقيقة الماثلة أمام الجميع أن الأمة المسلمة تتعرض اليوم لأقسى أنواع الحروب، وصارت في رحى أتون مستعر لا يكف عن الدوران ليل نهار.
وكان للمرأة المسلمة وضعية خاصة ومكانة مميزة في هذا الصراع، فسدنة التآمر والكيد ضد الإسلام، والقائمون على المشروع العالمي لطمس هوية المجتمعات الإسلامية وتجريفها، قد أجمعوا على أن المرأة هي المفتاح السحري للتغيير في أي مجتمع من المجتمعات، فهي نصف المجتمع، ومسؤولة عن ولادة وتربية النصف الآخر، وبالتالي هي قاعدة الأساس للبناء الاجتماعي، لذلك شن أعداء الأمة حربًا ضروسًا على مكانة المرأة في الإسلام، وشنوا الغارة تلو الغارة على الخطاب الإسلامي التشريعي الذي يتناول وضع المرأة في الإسلام وحقوقها والتزاماتها ومسؤولياتها، وإثارة الشبهات حول نصوص الوحيين، والتنقيب في قضايا التمايز بين الرجل والمرأة، مثل الشهادة والميراث والدية، وغيرها من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، للعبث بها وتحريفها لصد الناس عنها، والتي أصبحت مع معركة تطوير الإسلام رأيًا ورأيًا آخر يحتمل النقد والأخذ والرد، وهكذا، من أساليب شياطين الإنس ضد المجتمعات الإسلامية، ليصلوا في النهاية لغرضهم الأساسي وهو وصف الإسلام بأنه دين متحيز ضد المرأة.
وعلى الدعاة والمخلصين والصالحين والغيورين في الأمة واجب الدفاع عن ثوابتها والذب عن حياضها، ومواجهة هذه الغارات الشرسة والشبهات والأباطيل التي تلقى على مسامع المسلمين عبر وسائل الإعلام، والتي تصف وضع المرأة في المجتمعات المسلمة بالتخلف والتراجع والاتجار والتسلع، وأنها مضطهدة ومهيضة الجناح، المجتمع كله يظلمها إلى آخر هذه الترهات التي أزاغت العقول وشحنت الصدور، وعلى أن تكون نقطة البداية في هذا الدفاع والعرض انطلاقًا من مجموعة من المحددات والمعايير التي تعتبر بمثابة المدخل في فهم قضية المرأة المسلمة ودورها في الصراع الحضاري بين الإسلام والغرب، وهذه المحددات كما يلي:
المحدد الأول: المرجعية:
فالمرجعية التي ينبغي لنا أن نتحاكم إليها عند الحديث عن مكانة المرأة في المجتمعات المسلمة؛ هي الكتاب والسنة، فلا سواهما يصلح لأن يكون معيارًا للتقييم أو الدراسة في المجتمعات المسلمة، وهذه المرجعية تكون بمثابة الأساس الثابت المشترك بين جميع المصلحين، حتى لا نصطدم مع أطروحات غربية للإصلاح والتقييم تختلف كليًّا مع هويتنا وقيمنا وثوابتنا، وهذا الأمر لا يقبل النقاش والجدل؛ ذلك لأن الطرف المعادي للمجتمعات الإسلامية يسعى لاستبدال هذه المرجعية بالمواثيق الدولية لحقوق المرأة المستقاة من المؤتمرات الدولية للمرأة، خاصة مؤتمر بكين 1975م، وهو المؤتمر الذي ينص صراحة على اعتبار الدين الإسلامي شكلاً من أشكال التمييز ضد المرأة، وبالتالي فقبول نتائج وتوصيات هذه المؤتمرات والالتزام بقراراتها نوع من العبث الجدلي، ونفي للذات والهوية الثقافية، وارتماء مطلق في ثقافة الغرب، ودك لآخر الحصون الاجتماعية للأمة المسلمة.
المحدد الثاني: معيار التقييم:
الأمة الإسلامية تعتبر المحتوى التطبيقي الواقعي لقيم ومبادئ الإسلام أو بعبارة أخرى أرض التجربة البشرية للدين، ونظرًا لأن التطبيق يقع من البشر، فبالتالي يعتريه فترات ضعف واهتزاز وتراجع، كما يمر بفترات تألق وازدهار، هذا الضعف والتراجع عادة ما يكون راجعًا لأسباب داخلية وخارجية، وهذه الفترات لا تصلح أبدًا كمعيار أو مقياس لتقييم وضع المرأة في المجتمع الإسلامي؛ لأنه يتحول إلى مدخل للطعن والنيل من الإسلام؛ إذ كيف يحاكم الإسلام ويتهم بأنه سبب التخلف والاضطهاد للمرأة، وهو لم يطبق أساسًا ولم يأخذ فرصته للإصلاح، ليحاكم بعدها ويتهم بأنه سبب التخلف والتراجع؟! فالمعيار التطبيقي لهذه القيم يكون في فترات تطبيقها والالتزام بها على أرض الواقع، وكان في أوجه في مرحلة السيرة النبوية والخلافة الراشدة، ثم خير القرون الثابتة بالحديث الصحيح، وليس هذا تحيزًا لسلف الأمة، ولكن محاكمة التجربة الصحيحة تكون وقت تطبيقها الفعلي والكامل، حيث تنزل قيم الوحي مكانها العملي في حياة المسلمين.
المحدد الثالث: وعي الأزمة:
عند النظر لتقدير الواقع المحيط بالغارة على المرأة المسلمة، فإن الأزمة الحقيقية ليست أزمة عدو متربص فحسب، ولكن أزمة وعي وتفكير وتقييم لهذا العدوان، فالوعي يتطلب منا العودة قليلاً، حيث بداية الصراع الحضاري ضد العالم الإسلامي في منتصف القرن التاسع عشر، بعد دخول الاحتلال الأجنبي لديار الإسلام، في وقت كان المسلمون يعانون من تراجعًا حضاريًا وثقافيًّا كبيرين، وواقع المجتمع بأسره -رجالاً ونساءً- كان يعاني من التخلف والتقهقر بسبب عدم تطبيق الإسلام، والارتماء في أسر الموروثات الشعبية وتقاليد الآباء والأجداد والالتزام بالأعراف أكثر من الالتزام بالقرآن، وواكب هذا التراجع بدايات الغزو الفكري الذي جاء مع الحملات الأوروبية، وظن المفتونون أن التقدم الذي عليه الغرب سببه علمانيته وبعده عن الدين، وفي ظل تغييب متعمد أو عفوي لرؤية إسلامية ناضجة لوضع المرأة المسلمة في المجتمع تم تقديم النموذج الغربي تحت شعار براق هو "تحرير المرأة"، وملأ هذا الغزو الفكري الفراغات الثقافية الناشئة عن غياب الفكرة الإسلامية، وابتعاد الناس عن تطبيق قيم الإسلام ومبادئه ومنهجه، وتحوّل خطاب تحرير المرأة من المطالبة باستعادة المرأة لحقوقها التي كفلها الإسلام ورفع الظلم الواقع عليها، إلى حركة إفساد خلقي ودعوى للتحرر من الحجاب والفضيلة، دعوة إلى الاختلاط الماجن، في عملية ممنهجة ومستمرة لتكسير أصول الإسلام لنقل المرأة من صيانة ورعاية الدين إلى أودية التيه والتحرر لتصبح مثل قرينتها الأوروبية؛ سلعة تباع وتشترى في سوق النخاسة المعاصر.
ووعي أصل الأزمة وعمقها يدفعنا لمواجهة حاسمة تستأصل أصل الداء من جذوره، والتي تبدأ بمواجهة المجتمع بأخطائه وسلبياته، وتجسير المسافة بين الإسلام كتعاليم وأوامر وبين واقع المسلمين وتطبيقاتهم، والتي تبدأ بإعطاء المرأة ما أعطاها الله -عز وجل- من حقوق ومزايا ومنح.
المحدد الرابع: الفكر الدفاعي:
إن الناظر لمعظم الإنتاج الثقافي والفكري في الرد على غارات الغرب على أوضاع المرأة المسلمة في العالم الإسلامي، يجد أن هذا الإنتاج يدور في فلك الفكر الدفاعي المحض، القائم على الإحساس بالضعف والدونية واسترضاء الطرف المهاجم بشتى السبل، هذا الفكر الدفاعي عادة ما يصاحبه اعتساف في تأويل النصوص ولي لعنق الآيات والأحاديث، وتأويلها بأبعد وأسمج التأويلات وأبردها، وذلك لمواجهة الحداثة والمعاصرة، لذلك فقد وجدنا أن معظم الإنتاج الفكري في الرد على شُبه الغرب على مكانة المرأة في الإسلام صب مباشرة في خانة الأعداء، وصار -شئنا أم أبينا- خصمًا من رصيد المدافعين عن الإسلام ومنهجه، كما أدى هذا السلوك أيضًا لإهدار الكثير من الطاقات والإمكانات والموارد والأفكار التي كان أولى بأصحابها أن يوجهوها لنهضة المجتمع وتحسين وضع المرأة فيه، كما يهدر الاعتزاز بالدين الذي هو لبّ الدين ومصدر قوته وحياته؛ إذ إن التجربة التاريخية أثبتت أن الهزيمة النفسية والشعور بالدونية كان أقوى معاول الهدم لهذه الأمة.
المحدد الخامس: الموضوعية:
ونقصد بها موضوعية تقييم وضع المرأة في المجتمع المسلم، وفي المجتمعات الغربية أيضًا، والتي تكون عادة مقياسًا ومعيارًا للمقارنة؛ ذلك لأن المؤتمرات الدولية والاتفاقيات والمقررات المنبثقة عنها تقدم وضعية مأساوية مروعة عن المرأة في المجتمعات المسلمة، وتحاول جهدها أن تعقد المقارنات الظالمة بين وضعية مثالية في مجتمعاتها ووضعية افتراضية مروعة في مجتمعاتنا؛ لجذب أكبر عدد ممكن من النساء إلى النموذج الغربي، ونحن في أمسّ الحاجة لعدم الانجرار خلف هذه التهويلات والتضخيمات التي تقدمها آلة الدعاية الغربية في هذا السياق، فالواقع المجرد يقضي بأن المرأة المسلمة مهما كان تراجعها الحضاري والثقافي، إلا أنها تعيش وضعية أفضل وبكثير من قرينتها الغربية، حيث لا دين ولا أخلاق ولا سلوكيات ولا مثل، إنما حياة أشبه ما تكون بحياة السوائم إلا قليلاً منهم، فالمرأة في المجتمعات الغربية تعيش غالبًا حياة الوحدة واليأس، رغم كل الترف والترفيه؛ لأنها قد استغنت عن الزوج بالرفيق والصديق الذي تغيره من وقت لآخر، كما أنها في غمرة البحث عن تحقيق الذات، والجري وراء الاكتفاء المادي الذي أصبحت ملزمة به في ظل حضارة تلفظ فيها الأسرة فيها أبناءها في سن الثامنة عشرة بدعوى الاعتماد على النفس، في هذا الغمار المادي نسيت دور الأمومة فلم تبحث عنها إلا في إطار إشباع رغبة البقاء لديها.
ولو أخذنا عيّنة للدولة التي تقود الحلف العالمي ضد الأمة الإسلامية -أمريكا- لوجدنا فيها إحصائيات مروعة عن وضع المرأة فيها، ففي سنة 2003م كان هناك أكثر من ثلاثة ملايين حالة إجهاض، وأكثر من حالة مليون ولادة سفاح، واثنا عشر مليونًا لا يعرفون آباءهم، وأكثر من مليون حالة زنا محارم موثقة، هذا غير الموثقة لترفع نسبتها بعض الإحصائيات لتكون 10% من المجتمع، أما الولادة خارج الإطار الشرعي فتكاد تكون الأصل في هذا البلد الحضاري الكبير!
وللحديث بقية...
الغارة على المرأة المسلمة (2/2)
التعليقات