عناصر الخطبة
1/ أهمية العمل الصالح ومنزلته في الإسلام 2/ مُوجِبات قَبُول الأعمال عند الله تعالى 3/ أسباب حبُوطِ العمل 4/ الحث على الحِفاظ على الأعمال الصالحة من الحُبُوط والخُسران.اقتباس
وصلاحُ القَلبِ أساسُ القَبُول، وصَلاحُ الأعمال بصلاحِ النيَّة، ومِلاكُ هذه الأعمال النيَّات، والمرءُ قد يبلُغُ بنيَّته ما لا يبلُغُ بعملِه، ورُبَّ عملٍ صغيرٍ تُعظِّمُه النيَّة، ورُبَّ عملٍ كبيرٍ تُصغِّرُه النيَّة. قال يحيى بن أبي كثيرٍ -رحمه الله -: "تعلَّمُوا النيَّةَ؛ فإنها أبلغُ مِن العمل". وكلُّ عبادةٍ لا تصدُرُ عن إخلاصٍ وحُسن طوِيَّةٍ لا يُعتَدُّ بها، ولا يجتمِعُ الإخلاصُ في القَلبِ مع محبَّةِ المَدحِ والثناءِ والطمعِ فيما عند الناسِ.
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفُسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آلِه وأصحابِه، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتَّقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوَى، واستمسِكُوا مِن الإسلام بالعُروة الوُثقَى.
أيُّها المسلمون: إفرادُ الله تعالى بالعبادة غايةُ الخَلقِ والأمر، وبِهِ عِمارةُ الأرض وسعادةُ البشَر، قال -سبحانه-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97].
وهو -سبحانه- لا يقبَلُ إلا طيِّبًا، والعملُ الصالِحُ يرضَاه ويقبَلُه، وأصلُ قَبُول الأعمال: الإيمانُ بالله، والسعيُ في رِضوانِه، قال -عزَّ وجل-: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) [الإسراء: 19].
وعملُ الكافرِ في الآخرة لا يُقبَلُ ولو عمِلَ أيَّ عملٍ، قال -سبحانه-: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) [الفرقان: 23].
وفي الدنيا يُطعَمُ بحسناتِ ما عمِل؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "وأما الكافِرُ فيُطعَمُ بحسناتِ ما عمِلَ بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضَى إلى الآخرة لم تكُن له حسنةٌ يُجزَى بها" (رواه مسلم).
قالت عائشةُ - رضي الله عنها -: يا رسولَ الله! ابنُ جُدعان كان في الجاهليَّة يصِلُ الرَّحِمَ ويُطعِمُ المِسكينَ، فهل ذاك نافِعُه؟ قال: "لا ينفَعُه، إنه لم يقُل يومًا: ربِّ اغفِر لي خطيئتي يوم الدين" (رواه مسلم).
ومَن أظهرَ الإسلامَ وأبطنَ خِلافَه، لم ينتفِع بما أظهرَ وأعمالُه لا تُقبَل، قال تعالى عن حالِ المُنافِقِين: (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ) [التوبة: 53، 54].
ومدارُ العِبادة على النيَّةِ والعملِ، وشرطُ قَبُولِها: إخلاصُ القَصدِ وحُسنُ العمل، فبالإخلاصِ صِحَّةُ الإرادة، وبالمُتابعَةِ استِقامةُ العمل، قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف: 110].
ودينُ الإسلام مبنيٌّ على أصلَين: أن يُعبَدَ الله وحدَه لا شريكَ له، وأن نعبُدَه بما شرَع، وهو ما جاءَ به النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-.
وهذان هما حقيقةُ الشهادتَين، والله خلقَ الخلقَ ليبتلِيَهم في تحقيقِ الإخلاصِ والمُتابعَة، قال -سبحانه-: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك: 1، 2] أي: أخلَصُه وأصوَبُه.
قال الفُضيلُ بن عِياضٍ -رحمه الله-: "إن العملَ إذا كان خالِصًا ولم يكُن صَوابًا لم يُقبَل، وإذا كان صَوابًا ولم يكُن خالِصًا لم يُقبَل، ولا يُقبَلُ حتى يكون خالِصًا صَوابًا".
والخالِصُ إذا كان لله، والصَّوابُ إذا كان على السُّنَّة.
وحقيقةُ الإخلاصِ: أن يقصِدَ العبدُ بطاعته وجهَ الله، قال -عزَّ وجل-: (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) [الزمر: 2]، وكلُّ ما يفعلُه المُسلمُ مِن الطاعات هو مأمورٌ بفعلِه خالِصًا لله رب العالمين، لا يطلُبُ مِن مخلُوقٍ عليه جزاءً ولا شُكُورًا.
وصلاحُ القَلبِ أساسُ القَبُول، وصَلاحُ الأعمال بصلاحِ النيَّة، ومِلاكُ هذه الأعمال النيَّات، والمرءُ قد يبلُغُ بنيَّته ما لا يبلُغُ بعملِه، ورُبَّ عملٍ صغيرٍ تُعظِّمُه النيَّة، ورُبَّ عملٍ كبيرٍ تُصغِّرُه النيَّة.
قال يحيى بن أبي كثيرٍ -رحمه الله -: "تعلَّمُوا النيَّةَ؛ فإنها أبلغُ مِن العمل".
وكلُّ عبادةٍ لا تصدُرُ عن إخلاصٍ وحُسن طوِيَّةٍ لا يُعتَدُّ بها، ولا يجتمِعُ الإخلاصُ في القَلبِ مع محبَّةِ المَدحِ والثناءِ والطمعِ فيما عند الناسِ.
ومُتابعةُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- شرطٌ في قَبُولِ الطاعة؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "مَن عمِلَ عملًا ليس عليه أمرُدنا فهو رَدٌّ"؛ متفق عليه.
قال سعيدُ بن جُبير -رحمه الله-: "لا يُقبَلُ قَولٌ وعملٌ إلا بنيَّة، ولا يُقبَلُ قولٌ وعملٌ ونيَّةٌ إلا بمُوافقةِ السنَّة".
وتَقوَى الله في الأعمال سبَبٌ للقَبُول؛ قال -عزَّ وجل-: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة: 27].
والمُسلمُ شديدُ الخَوفِ ألا يكون مِنهم، وهذا حالُ السابِقِين: قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: "لأَن أستيقِنَ أن الله تقبَّل لي صلاةً واحِدةً أحبُّ إليَّ مِن الديا وما فِيها؛ لأن الله يقولُ: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)".
ومَن اتَّقَى اللهَ بإخلاصِ عملِه واتِّباع السنَّة، فحرِيٌّ أن يتقبَّلَه الربُّ الكريمُ.
قال شيخُ الإسلام -رحمه الله-: "وعند أهل السنَّة والجماعة يُتقبَّلُ العملُ ممَّن اتَّقَى اللهَ فيه، فعَمِلَه خالِصًا لله، مُوافِقًا لأمرِ الله".
فمَن اتَّقاه في عملٍ تقبَّله مِنه وإن كان عاصِيًا في غيرِه، ومَن لم يتَّقِه فِيه لم يتقبَّله مِنه وإن كان مُطيعًا في غيرِه.
والطاعةُ بعد الطاعةِ أمارةُ قَبُولِها، قال -سبحانه-: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) [محمد: 17].
قال الحسنُ البصريُّ -رحمه الله-: "إن مِن جزاءِ الحسنةِ الحسنةَ بعدها، ومِن عُقوبةِ السيئةِ السيئةَ بعدَها".
وما أحسنَ الطاعةِ بعد السيئةِ تمحُوها، وما أقبَحَ السيئةِ بعد الحسنةِ تمحَقُها، ومَن لم يكُن في زِيادةٍ مِن الطاعة كان في نُقصانٍ.
ويُسرُ العِبادة على صاحبِها، ومحبَّةُ فِعلِ الخيرات مِن عاجلِ البُشرى، قال -سبحانه-: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) [الليل: 5- 7].
والثباتُ على العمل والمُداومَة على الطاعة دليلُ خيرٍ وتوفيقٍ.
قال ابنُ كثيرٍ -رحمه الله-: "لقد أجرَى الله الكريمُ عادتَه بكرمِه أن مَن عاشَ على شيءٍ ماتَ عليه، ومَن ماتَ على شيءٍ بُعِثَ عليه يوم القِيامة".
وهَديُه -صلى الله عليه وسلم-: المُداومةُ على العملِ، وإذا عمِلَ عملًا أثبَتَه، وكان يقولُ: "أحبُّ الأعمالِ إلى الله أدوَمُها وإن قَلَّ" (متفق عليه).
وصَلاحُ الجوارِحِ واستِقامتُها ثَمرةُ قَبُول الطاعة ومحبَّة الله لصاحبِها؛ قال الله في الحديثِ القُدسيِّ: "وما تقرَّبَ إليَّ عبدِي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افتَرضتُه عليه، وما يزالُ عبدِي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافِلِ حتى أُحِبَّه، فإذا أحبَبتُه كنتُ سمعَه الذي يسمَعُ به، وبصَرَه الذي يُبصِرُ به، ويدَه التي يبطِشُ بها، ورِجلَه التي يمشِي بها، وإن سألَني لأُعطينَّه، ولئِن استعاذَني لأُعيذنَّه" (رواه البخاري).
وشَأنُ المُؤمن الاجتِهادُ في العِبادة، واستِصغارُ عملِه؛ فإذا فرغَ مِن طاعةٍ وصَلَها بأُخرى غيرَ مُستكثِرٍ على ربِّه ذلك، قال تعالى: (وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) [المدثر: 6].
ومَن شهِدَ حقيقةَ الربوبيَّة ومعنى العبوديةَّ، وعرَفَ ربَّه تبيَّن له أن بِضاعتَه مِن الأعمال مُزجاة، ولن يدخُل أحدٌ مِنَّا الجنةَ بعملِه، ولكن بفضلِ الله وكرمِه ورحمتِه.
قال ابنُ أبي مُلَيكَة -رحمه الله-: "أدرَكتُ ثلاثين مِن أصحابِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- كلُّهم يخافُ النِّفاقَ على نفسِه".
والاستِغفارُ عقِبَ الطاعة، والاعتِرافُ بالتقصيرِ حالُ عِبادِ الله المُخلَصِين؛ قال -سبحانه-: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات: 17، 18].
قال ابنُ القيِّم -رحمه الله-: "علامةُ قَبُول عملِك احتِقارُه واستِقلالُه وصِغَرُه في قلبِك، حتى إن العارِفَ ليستغفِرُ الله عقيبَ طاعتِه.
وقد كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سلَّمَ مِن الصلاةِ استغفرَ الله، وأمرَ عِبادَه بالاستِغفار عقيبَ الحجِّ، ومدَحَهم على الاستِغفار عقيبَ قِيامِ الليلِ، وشرعَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عقيبَ الطُّهور التوبةَ والاستِغفارَ.
فمَن شهِدَ واجِبَ ربِّه، ومِقدارَ عملِه، وعيبَ نفسِه لم يجِد بُدًّا مِن استِغفارِ ربِّه مِنه، واحتِقاره إياه واستِصغارِه".
والله مدَحَ عِبادَه بقَولِه: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) [المؤمنون: 60].
قالت عائشةُ -رضي الله عنها-: يا رسولَ الله! أهم الذين يشرَبُون الخمرَ ويسرِقُون؟ قال: "لا يا بنتَ الصِّدِّيق، ولكنَّهم الذين يصُومُون ويُصلُّون ويتصدَّقُون، وهم يخافُون ألا يُتقبَّلَ مِنهم، (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 61]" (رواه الترمذي).
والمُؤمنُ يجمَعُ إحسانًا وخَوفًا. قال عبدُ العزيز بن أبي روَّادٍ -رحمه الله-: "أدرَكتُهم - أي: التابِعِين - يجتَهِدُون في العملِ الصالِحِ، فإذا فعَلُوه وقَعَ عليهم الهمُّ أيُقبَلُ مِنهم أم لا".
ومِن أعظم أسبابِ القَبُول ومُوجِباتِه: سُؤالُ الله ذلك؛ فإبراهيمُ وإسماعيل - عليهما السلام - يرفعَان قواعِدَ بيتِ الله الحرام وهما يدعُوَان الله: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة: 127].
وامرأةُ عِمران نذَرَت ما في بطنِها لخِدمةِ المسجِدِ الأقصَى، وكانت تدعُو قائِلةً: (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [آل عمران: 35].
وضحَّى نبيُّنا -صلى الله عليه وسلم- وقال: "اللهم تقبَّل مِن مُحمدٍ وآلِ مُحمدٍ ومِن أمةِ مُحمدٍ"؛ رواه مسلم.
والشُكرُ سبيلُ القَبُول، وبابُ الزِّيادة؛ قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم: 7].
والصالِحُ مِن عبادِ الله يقولُ: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الأحقاف: 15]، فوعَدَهم الله بقولِه: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ) [الأحقاف: 16].
والمُسلمُ يطمَعُ في القَبُولِ، ويسعَى لتحقيقِه وهو شديدُ الحَذَر مِن فسادِ العمل وحبُوطِه؛ إذ ليس الشأنُ في العملِ الصالِحِ فحسب، إنما الشأنُ في حِفظِه مما يُفسِدُه ويُحبِطُه، وأعظمُ ذلك: الشِّركُ بالله، قال تعالى: (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 88].
ومِن ذلك: إرادةُ الدنيا بأعمال الآخرة؛ قال -سبحانه-: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [هود: 15، 16].
والموتُ على الرِّدة مُحبِطٌ للأعمال، قال -عزَّ وجل-: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) [البقرة: 217].
وكراهِيةُ الدين يُحبِطُ عملَ صاحبِه؛ قال -سبحانه-: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) [محمد: 9].
والكفرُ بآياتِ الله ولِقائِه مُوجِبٌ لفسادِ العمل؛ قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) [الأعراف: 147].
ومَن اتَّبعَ ما أسخطَ اللهَ وكرِهَ رِضوانَه جازاه الله مِن جنسِ فعلِه فأحبَطَ عملَه؛ قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) [محمد: 28].
وأعمالُ المُنافقِين سَرابٌ؛ قال -عزَّ وجل-: (أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ) [الأحزاب: 19].
ومَن عانَدَ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وخالفَه عن عمدٍ وعِنادٍ فلن يضُرَّ اللهَ شيئًا وسيُحبِطُ عملَه؛ قال -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ) [محمد: 32].
ورفعُ الصوتِ فوقَ صوتِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِن مُحبِطات الأعمال؛ قال -عزَّ وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [الحجرات: 2].
قال ابنُ القيِّم -رحمه الله-: "فما الظنُّ بمَن قدَّم على قولِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- وهَديِه وطريقِه قَولَ غيرِه وهَديَه وطريقَه".
والعُجبُ بالعمل، والتألِّي على الله قَدحٌ في جَنابِ الربوبيَّة؛ قال -عليه الصلاة والسلام- فيمَن قال: واللهِ لا يغفِرُ اللهُ لفُلانٍ: "قَالَ الله: مَن ذا الذي يتألَّى عليَّ ألا أغفِرَ لفُلانٍ؟! فإنِّي قد غفَرتُ لفُلانٍ، وأحبطتُ عملَك" (رواه مسلم).
والرِّياءُ يُفسِدُ العمل؛ قال الله في الحديث القُدسيِّ: "أنا أغنَى الشُّركاء عن الشِّركِ، مَن عمِلَ عملًا أشرَكَ فيه معِيَ غيرِي ترَكتُه وشِركَه" (رواه مسلم).
و "مَن أتَى عرَّافًا فسألَه عن شيءٍ لم تُقبَل له صلاةٌ أربعين ليلة" (رواه مسلم).
و"مَن تركَ صلاةَ العصرِ فقد حبِطَ عملُه" (رواه البخاري).
والتطاوُلُ على الآخرين بالمسبَّة والاعتِداء مُزِيلٌ للحسنات؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن المُفلِسَ مِن أمَّتِي يأتِي يوم القِيامة بصلاةٍ وصِيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتَمَ هذا، وقذَفَ هذا، وأكَلَ مالَ هذا، وسفَكَ دمَ هذا، وضرَبَ هذا، فيُعطَى هذا مِن حسناتِه وهذا مِن حسناتِه، فإن فَنِيَت حسناتُه قبل أن يُقضَى ما عليه أُخِذَ مِن خطاياهم فطُرِحَت عليه، ثم طُرِح في النار" (رواه مسلم).
وذُنوبُ الخلَوَات ماحِقةٌ للحسنات؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "لأعلَمَنَّ أقوامًا مِن أمَّتِي يأتُون يوم القِيامة بحسناتٍ أمثالِ جِبالِ تِهامة بِيضًا، فيجعلُها الله -عزَّ وجل- هباءً منثُورًا".
قال ثَوبانُ -رضي الله عنه-: يا رسولَ الله! صِفهم لنا، جلِّهم لنا ألا نكُونَ مِنهم ونحن لا نعلَم، قال: "أمَا إنهم إخوانُكم، ومِن جِلدتِكم، ويأخُذُون مِن الليلِ كما تأخُذُون، ولكنَّهم أقوامٌ إذا خلَوا بمحارِمِ الله انتَهَكُوها" (رواه ابن ماجه).
ومَن اتَّخَذَ كلبًا إلا كلبَ ماشِيةٍ أو صَيدٍ أو زرعٍ انتُقِصَ مِن أجرِه كلَّ يومٍ قِيراطٍ. (رواه البخاري).
و"مَن شَرِبَ الخمرَ لم يَقبَل اللهُ له صلاةً أربعين صباحًا" (رواه أحمد).
وغايةُ الخسارة: أن يظُنَ العبدُ أنه على فِعلٍ حسنٍ وهو خِلافُ ذلك؛ قال تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف: 103، 104].
وبعدُ .. أيها المسلمون: فعملُ العِبادة أصلٌ في الدين، وحفظُها مطلَبٌ في الإسلام، ودوامُها إلى المَوتِ أساسٌ في الشريعة؛ قال -سبحانه-: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99].
وعلى المُسلم ألا يزهَدَ في أي عملٍ مِن الخير وإن كان يسيرًا، وأن يجتَنِبَ كلَّ سيئةٍ وإن دقَّت؛ فإنه لا يعلَمُ الحسنةَ التي يرحمُه الله بها، ولا يعلَمُ السيئةَ التي يسخَطُ الله عليه بها.
ويجِبُ على المُسلم أن يسيرَ في جميعِ عِباداتِه بين الرَّجاء والخَوفِ، عامِرًا قلبَه بحُبِّ الله وحُسن الظنِّ به.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162، 163].
باركَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعَني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ قولِي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم ولجميعِ المُسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له تعظِيمًا لشأنِه، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آلهِ وأصحابِه، وسلَّمَ تسليمًا مزيدًا.
أيُّها المسلمون: كُونُوا لقَبُول العملِ أشدَّ اهتِمامًا مِنكم بالعمل، واحذَرُوا ما يحتَفُّ بالطاعة مِمَّا يُفسِدُها أو يُنقِصُها، ومَن عمِلَ حسنةً فليحمَد الله أن وفَّقَه لفعلِها، وليسأله الثباتَ والمزيدَ مِنها؛ فحِفظُ الطاعة أشدُّ مِن فعلِها، والعِبرةُ بالخواتِيمِ.
والمُسلمُ يجعلُ مِن طاعتِه حادِيًا لتهذِيبِ نفسِه وتزكِيتِها بلُزُوم العِبادة، والصِّدقِ، والتواضُع، وسلامةِ الصَّدر، ومكارِم الأخلاق، ويُحبُّ مِن الخير لغيرِه ما يُحبُّ لنفسِه، ولا يأمَنُ مكرَ الله، ولا ييأَسُ مِن رَوحِ الله.
ثم اعلَموا أنَّ الله أمرَكم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَمِ التنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خُلفائِه الراشِدين، الذين قضَوا بالحقِّ وبه كانُوا يعدِلُون: أبي بكرٍ، وعُمرَ، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائرِ الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرَم الأكرَمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمُسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشرِكين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعَل اللهم هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا رخاءً، وسائِرَ بلاد المُسلمين.
اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم اجعَل دِيارَهم دِيارَ أمنٍ وأمانٍ يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم تقبَّل مِن الحُجَّاج حجَّهم، اللهم اجعَل حجَّهم مبرُورًا، وسعيَهم مشكُورًا، وذنبَهم مغفُورًا، وأعطِهم ما تمنَّوه، وما سألُوك إيَّاه يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا لهُداك، واجعَل عملَه في رِضاك، ووفِّق جميعَ وُلاة أمورِ المسلمين للعمَلِ بكتابِك وتحكيمِ شرعِك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفِّق مَن خدَمَ حُجَّاج بيت الله الحرام، اللهم سدِّد أقوالَهم وأعمالَهم، واجعَل ذنوبَهم مغفورةً يا غفورُ يا رحيم.
اللهم احفَظ حُدودَنا، وقوِّ جُنودَنا، اللهم ثبِّتهم وثبِّت أقدامَهم، واربِط على قُلوبِهم يا ذا الجلال والإكرام، يا قويُّ يا عزيزُ.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا مِن القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا. (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23].
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90]؛ فاذكُروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُركم، واشكُرُوه على آلائِه ونِعمِه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلَمُ ما تصنَعون.
التعليقات