عناصر الخطبة
1/ فضائل نعمة العقل 2/ تأملات في ورود مشتقات العقل في القرآن الكريم 3/ العلاقة الصحيحة بين العقل والنقل 4/ حدود العقل وضوابطه 5/ الحث على اغتنام نعمة العقل في كل نافع مفيد.اهداف الخطبة
اقتباس
العقلُ هو أُسُّ الفضائِل، وينبُوعُ الآداب، هو للدينِ أصلٌ، وللدنيا عِماد، وليس أفضلَ من أن يهَبَ اللهُ عبدَه عقلاً راجِحًا، وتفكيرًا مُستقيمًا. العقلُ قوةٌ وغريزةٌ اختَصَّ الله بها الإنسانَ، وفضَّلَه بها على سائرِ مخلوقاته،.. العقلُ نورٌ من الله يُميِّزُ به الحقَّ والباطلَ، والخطأَ والصوابَ في الأقوالِ والأفعالِ والاعتقاداتِ والعلومِ والمعارفِ..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شُرورِ أنفسِنا، ومن سيِّئاتِ أعمالنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد: فإنَّ أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة.
معاشرَ المسلمين: لقد كرَّمَ اللهُ الإنسانَ وفضَّله على كثيرٍ ممن خلَقَ، خلَقَه فأحسنَ خلقَه، وكرَّمَه بالاستِعدادات التي أودعَها فِطرتَه، هيئةٌ وفِطرَة تجمعُ بين الطينِ والنفخَة، هيَّأَ له من التسخِير ما يقومُ به في وظيفةِ الاستِخلافِ والتعمير، (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الجاثية: 13].
وإن من أهمِّ مُهمات الاستِخلاف والتعمير: إصلاحَ التفكير واستِقامتَه، وضبطَ مسَارِه في كلِ جوانِبِ الحياةِ وميادينِها، ومنزلةُ الإنسان وقوَّةُ تفكيرِه تظهرُ بقَدرِ إعمالِه فِكرَه، وحُسنِ تصرُّفهِ في عقلِه، ومدَى تحقيقِه لما ينفَعُه في دُنياه وآخرتِه.
العقلُ - حفظكم الله - هو أُسُّ الفضائِل، وينبُوعُ الآداب، هو للدينِ أصلٌ، وللدنيا عِماد، وليس أفضلَ من أن يهَبَ اللهُ عبدَه عقلاً راجِحًا، وتفكيرًا مُستقيمًا.
العقلُ قوةٌ وغريزةٌ اختَصَّ الله بها الإنسانَ، وفضَّلَه بها على سائرِ مخلوقاته، العقلُ قوةٌ مُدرِكة تقومُ بوظائفَ كبرى، من ربطِ الأسباب بمُسبَّباتها، وإدراكَ الغائِب من الشاهِد، والكلياتِ من الجزئيات، والبدهيَّاتِ من النظريات، والمصالحِ من المفاسد، والمنافعِ من المضار، والمُستحسَنِ من المُستقبَح، وإدراكِ المقاصدِ وحسنِ العواقب.
العقلُ نورٌ من الله يُميِّزُ به الحقَّ والباطلَ، والخطأَ والصوابَ في الأقوالِ والأفعالِ والاعتقاداتِ والعلومِ والمعارفِ.
ومن اللطيفِ - معاشر الإخوة -: أن لفظَ العقل لم يرِد في القرآن الكريم، وإنما جاءَت مُشتقَّاتُه ومُرادفاتُه، كقولِه - عزَّ شأنُه -: (مَا عَقَلُوهُ) [البقرة: 75]، وقوله: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ) [الملك: 10]، وقوله - عزَّ شأنُه -: (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) [العنكبوت: 43]، وقوله - تبارك وتعالى -: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [النحل: 67]، وقوله: (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف: 2]، (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [الأنعام: 32]، (أَفَلَا يَعْقِلُونَ) [يس: 68].
كما جاء من المُرادِفات: (أُولُو الْأَلْبَابِ) [البقرة: 269]، وأُولُو النُّهَى، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى) [طه: 54]، (لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ) [آل عمران: 190]، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق: 37]، (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ) [الفجر: 5].
ومما يلفِتُ النظرَ - عبادَ الله -: أن القرآنَ الكريم ربطَ ربطًا واضحًا بين الأذن وحاسَّةِ السمع، والعَينِ وحاسَّةِ البصَر، والرِّجلِ وقُدرة المشْي، واليدِ وقوةِ البطش، في مثل قولِه - عزَّ شأنه -: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا) [الأعراف: 195].
أمَّا العقلُ فلم يُربَط بشيءٍ من ذلك؛ بل ورَدَ باسم وظيفتِه المُدرِكة، وليس باسمِه أو آلَتِه. وكأنَّ في هذا دلالةً وإشارةً إلى أن العقلَ يُمثِّلُ مجموعَ أدوات الإدراك من سمعٍ وبصرٍ وفؤادٍ وقلبٍ وغيرها، فالعقلُ مُرتبطٌ بالإنسان كلِّه، ومُنتظمٌ لحواسِّه كلِّها، فهو ملَكةٌ وظيفيةٌ يرتبطُ وجودُها وعملُها بوجود أدواتها، وعلى قَدرِ حُسنِ توظيف الإنسان لهذه الأدوات يكون تعقُّلُه في الأمور، ونُضجُه في الإدراك، مما يتبيَّن معه ارتِباطُ العقلِ بالأحداث والتصرُّفات.
فالنظرُ العقليُّ عملٌ حيٌّ مُتحرِّكٌ له أبعادُه ومدلُولاتُه التي ترتبِطُ بالأشخاص، والأزمان، والأحداث، وكلِّ حركات الحياة والأحياء.
عبادَ الله: وقد جعَلَ الله إعمالَ العقل وحُسنَ استخدامِه بيدِ الإنسان، فمن شاءَ فليتقدَّم، ومن شاءَ فليتأخَّر، ولا يكون إعمالُ العقل إلا في التفكيرِ والتذكُّر، والاعتِبارِ والتدبُّر، والنظرِ والتبصُّر، والعلمِ والفقهِ، وكلُّ ذلك جاء الأمرُ به في كتابِ الله - عزَّ وجل - فيه آيات كثيرة، كقوله - عزَّ شأنه -: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) [الأنفال: 21]، وقوله - عزَّ شأنُه -: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك: 10]، وقالَ تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق: 37].
أيها المسلمون: وإذا كان ذلك كذلك، فإن العقلَ في الإسلام هو مَناطُ التكليف، ومحلُّ الفَهم، وبه استنباطُ الأحكامُ الشرعية وبيانُ مُرادِ الشارع، وبه حُسنُ التصرُّف في أمورِ الدينِ والدنيا.
والعقلُ مُكلَّفٌ تكليفًا صريحًا بالنظرِ في ملكوتِ السماوات والأرض، وإدراكِ العلاقات أسبابًا ومُسبَّبات، واكتسابِ العلوم، والنظر في المصالحِ والمفاسدِ، والمنافع والمضار، والعدلِ والظلم، كلُّ ذلك من أجل أن يستَفيدَ من التسخير للقيامِ بمهمة التعمير.
والقرآنُ الكريم والسنةُ المُطهَّرة مليئَان بالدلائلِ البرهانية، والأقيِسةِ العقلية، وضربِ الأمثال، وحُسنِ الجدال، كلُّ ذلك حتى يتحرَّر العقلُ من تلبيسات الخرافة، وأساطيرِ الأولين، وتخرُّصاتِ الكهنة والمنجمين، والسحَرةِ والمشعوذين، والطِّيَرةِ والمُتشائِمين، والتقليدِ الأعمى لما عليه الآباءُ والأسلاف؛ لينطلِقَ إلى آفاقٍ رَحبَة واسِعة من العقيدةِ الصافية، والعملِ الصالح، والعطاءِ المُنتِج، قال - سبحانه -: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [النمل: 64]، وقال - عزَّ شأنه -: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) [سبأ: 46]، وقال - عزَّ شأنه -: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) [عبس:25- 32]، وقال - عزّ شأنه -: (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ) [ق: 6- 8].
معاشر المسلمين: وإن من أعظمِ مخزُونِ أمَّتنا الثقافي، وقضاياها العُليا: ارتباطَ العقلِ بالنقل، وترتيبَ العلاقة بين المعقول والمنقول، وإن فُحولَ علماءِ الأمة وراسِخِيها، ويأتي في مُقدَّمهم شيخ الإسلام بن تيمية - قدَّسَ الله سرَّه، ورحمَ اللهُ أهلَ العلمِ أجمعين - كلُّهم قرَّروا ودقَّقوا وبرهَنوا على موافقةِ صريحِ المعقول لصحيحِ المنقول، فلا تعارُضَ بين عقلٍ صريحٍ ونقلٍ صحيحٍ، فقضايا العقل الصريح خلقُ الله، وما جاء في النقل الصحيح شرعُ الله، فلا تناقُضَ ولا تعارُضَ بين خلق الله وشرعِ الله، (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النمل: 88].
فالحقُّ لا يتناقَض، بل إنَّ الأمرَ كلما كان أفسَدَ في الشرع كان أفسَدَ في العقل، فتتطابقُ الدلائلُ القرآنية على البراهين العقلية، ويتصادَقُ مُوجَبُ الشرعِ والمنقول مع النظر والمعقول، والمؤمنُ كلما كان إلى الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابهِ والتابعين لهم بإحسانٍ أقرَب، كان إلى كمالِ التوحيدِ والإيمانِ والعقل والعرفانِ أقرَب، وكلما كان عنهم أبعَد، كان عن ذلك كلِّه أبعَد.
أيها المسلمون: والعالمُ المُعاصِر بعلومِه وفنونِه ومُكتشفاتِه ومُخترعاتِه، ما أصابَ من خيرٍ ومنافِع فمن إعمالِ العقل، وما أصابَ من سُوءٍ ومفاسِد فمن حريةِ العبَث والهوَى، والبُعدِ عما جاء به المُرسَلون من الحقِّ والهُدى، ولا يجوزُ الخَلطُ بين الأمرين، وبنُو آدم بالعلمِ والعقل يرتَقُون إلى مصافِّ الملائكةِ الأطهار، كما قال - عزّ شأنه -: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران: 18].
وبالشهواتِ والضلالات يكونونَ أضلَّ من الأنعام، كما في قوله - عزَّ شأنه -: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) [الفرقان: 43- 44]، وقال - عزَّ شأنه -: (فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى) [النجم: 29، 30]، ويقولُ - جلَّ وعلا -: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [غافر: 83].
وبعدُ .. عباد الله: فإنَّ الإنسانَ مسؤولٌ عن حفظهِ عقلَه، واللهُ سائِلُه عما استرعَاه في نظرِه وفِكره، وحُسنِ استِخدامهِ لذلك كلِّه، شأنُه في ذلك شأنَ كل النِّعمِ من عُمرٍ وصحَّة، ومالٍ وبنين، وحفظِ حواسٍّ، وسلامةِ أجهزةٍ، قال تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء: 36].
ومن أجلِ هذا فإنَّ ذا العقلِ السليم والمنهج المُستقيم يربَأُ بنفسِه عن الدنايا، وينْأَى عن المُحقَّرات، ولا يَميلُ مع الهوَى، ولا يخضَعُ للعادات وما عليه الآباءُ والأسلافُ، ويتجنَّبُ العِنادَ والمُكابَرةَ والمِراء.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) [يونس: 101].
نفَعَني اللهُ وإياكم بالقرآنِ العظيم، وبهَديِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقولُ قولِي هذا، وأستغفِرُ الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخَطيئةٍ، فاستغفِرُوه، إنه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، الحمدُ لله ناصِرِنا وهادِينا، شرعَ لنا من الشرائِع ما يَكفِينا ويُغنِينا، أحمدُه - سبحانه - وأشكُرُه على جَزيلِ ما يُعطِينا ويُولِينا، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له شهادةَ حقٍّ علمًا ويَقينًا، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه بعثَه ربُّه بالحقِّ والهُدى شِرعةً وتوحيدًا ودينًا، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ وأصحابِه هم سلَفُنا وبهم تأسِّينا، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أما بعد .. أيها المسلمون: ومع مكانةِ العقلِ وكريمِ مقامِه، فإنه آلةٌ ووسيلةٌ للفَهم، له حدودُه التي ليس له أن يتجاوزَها، فإن خرجَ عن حدودِه وقعَ في الضلالِ والانحِراف، ودخلَ في المعنِيِّ بقولِه - عزَّ شأنُه -: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف: 179].
العقلُ بمُجرَّدِه لا يصلُحُ مرجِعًا ولا مِيزانًا، فعقولُ البشر مُتفاوِتة في قوتِها وضعفِها وإدراكِها واستيعابِها، وإنَّ من الخطَل أن يخلِطَ من يخلِط، فيجعلُ عقلَه هو المرجِع، فما يستنكِرُه هوَاه أو رأيُه ورغَباتُه، يحسَبُ أن العقلَ هو الذي استنكَرَه وأبَاه، وما قبِلَه فعنده أن العقلَ هو الذي قبِلَه وارتضَاه، وقد علِمَ أن العقولَ مُختلِفةٌ منازِلُها، والحظُوظ مُتفاوِتةٌ إدراكاتُها.
وتأمَّلُوا - رحِمَكم الله - ما ورَدَ في الخبر: "تفكَّروا في خلقِ الله ولا تتفكَّروا في الله؛ فإنكم لن تقدُرُوا قَدرَه".
قال أهلُ العلم: "وما ذلك إلا لأنَّ العقلَ البشريَّ لا يُدرِكُ ما كان خارِجَ الصور التي يُحسُّها ويراها، والمُدرَكاتِ التي يعيشُها، أما الغيبُ وما وراء المحسُوس فلا يُدرِكُه العقلُ إلا بالخبَرِ الصادق، وإبراهيم - عليه السلام - أراه اللهُ ملَكوتَ السماوات والأرض؛ ليكونَ من المُوقِنين، وأراه كيفَ يُحيِي الموتَى ليطمئنَّ قلبه، فحقائِقُ الغَيبِ لا تُدرَكُ إلا بالخبَرِ الصحيحِ من الصادقِ المصدوقِ.
ألا فاتَّقُوا الله - رحمكم الله -، فالعقلُ مُصدِّقٌ للشرع في كل ما أخبَرَ به، دالٌّ على صِدقِ الرسالة، والعقلُ شرطٌ في معرفة العلوم وصلاحِ الأعمال، وبه يكمُلُ العلمُ والعملُ، ولكنه ليس مُستقِلاًّ بنفسِه، بل هو مُتَّصِلٌ بنورِ الكتابِ والسنة، (وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) [الشورى: 52]، وإذا انفَرَدَ العقلُ بنفسِه لم يُبصِر، وإذا استقَلَّ بذاتِه عجَزَ عن الإدراكِ الصحيح.
هذا وصلُّوا وسلِّمُوا على الرحمةِ المُهداة، والنعمةِ المُسداة: نبيِّكُم محمدٍ رسولِ الله؛ فقد أمرَكم بذلك ربُّكم، فقالَ في مُحكَمِ تنزيلِه - وهو الصادقُ في قِيلِه -: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك: نبيِّنا محمدٍ الحبيبِ المُصطَفى، والنبيِّ المُجتَبَى، وعلى آله الطيبين الطاهِرِين، وعلى أزواجِه أمهاتِ المؤمنين.
وارضَ اللهم عن الخلفاءِ الأربعةِ الراشدين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوِك وجُودِك وإحسانِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمُشركين، واخذُل الطغاةَ، والملاحِدَة، وسائرَ أعداءِ المِلَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلِح أئمَّتَنا وولاةَ أمُورِنا، واجعَل اللهم ولايتَنَا فيمن خافَك واتَّقاك واتَّبَع رِضاكَ يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا وولِيَّ أمرنا بتوفيقِك، اللهم وفِّق إمامَنا وولِيَّ أمرنا بتوفيقِك، وأعِزَّه بطاعتِك، وأَعلِ به كلمَتَك، واجعَله نُصرةً للإسلامِ والمسلمين، ووفِّقه ونائبَيه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وتَرضَى، وخُذ بنواصِيهم للبِرِّ والتقوَى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمورِ المسلمين للعملِ بكتابِك، وبسنَّةِ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعَلهم رحمةً لعبادِك المؤمنين، واجمَع كلمتَهم على الحقِّ والهُدَى يا ربَّ العالمين.
اللهم وأصلِح أحوالَ المُسلمين، اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم احقِن دماءَهم، واجمَع على الحقِّ والهُدى والسنَّةِ كلمتَهم، وولِّ عليهم خيارَهم، واكفِهم أشرارَهم، وابسُط الأمنَ والعدلَ والرَّخاءَ في ديارِهم، وأعِذهم من الشُّرور والفتَن ما ظهَرَ منها وما بطَن.
اللهم من أرادَنا وأرادَ دينَنا وديارَنا وأمَّتنا وأمنَنا وولاةَ أمْرنا وعلماءَنا وأهلَ الفضلِ والصلاح والاحتِسابِ منَّا ورجالَ أمننا وقوَّاتنا ووحدتَنا واجتماعَ كلمتِنا بسوءٍ، اللهم فأشغِله بنفسِه، اللهم فأشغِله بنفسِه، واجعَل كيدَه في نحرِه، واجعَل تدبيرَه تدميرًا عليه يا رب العالمين.
اللهم انصُر جنودنا المُرابِطين على الحدود، اللهم انصُر جنودنا المُرابِطين على الحدود، اللهم سدِّد رأيَهم، وصوِّب رميَهم، واشْدُد أزرَهم، وقوِّ عزائِمَهم، وثبِّت أقدامَهم، واربِط على قلوبِهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم أيِّدهم بتأييدك، وانصُرهم بنصرك، اللهم احفَظهم من بين أيديهم، ومن خلفِهم، وعن أيمانِهم، وعن شمائلِهم، ومن فوقِهم، ونعوذُ بك اللهم أن يُغتالُوا من تحتهم، اللهم ارحَم شُهداءَهم، واشفِ جرحَاهم، واحفَظهم في أهلِهم وذرارِيهم إنك سميعٌ مُجيب.
اللهم يا وليَّ المؤمنين، اللهم يا وليَّ المؤمنين، ويا ناصِر المُستضعَفين، ويا غِياث المُستغيثين، يا عظيمَ الرجاء، ويا مُجيرَ الضعفاء، اللهم إنّ لنا إخوانًا مُستضعَفين مظلُومين في فلسطين، وفي بُورما، وفي أفريقيا الوُسطى، وفي ليبيا، وفي العِراق، وفي اليمن، وفي سُوريا، قد مسَّهم الضُّرُّ، وحلَّ بهم الكَربُ، واشتدَّ عليهم الأمرُ، تعرَّضُوا للظُّلم والطغيان، والتشريدِ والحِصار، سُفِكَت دماؤُهم، وقُتِّلَ أبرياؤُهم، ورُمِّلت نساؤُهم، ويُتِّمَ أطفالهُم، وهُدِّمَت مساكنُهم ومرافِقُهم.
اللهم يا ناصِر المُستضعَفين، ويا مُنجِيَ المؤمنين! انتصِر لهم، وتولَّ أمرَهم، واكْشِف كربَهم، وارفع ضُرَّهم، وعجِّل فرَجَهم، وألِّف بين قلوبهم، واجمَع كلمتَهم، اللهم مُدَّهم بمَدَدِك، وأيِّدهم بجُندِك، وانصُرهم بنصرِك.
اللهم إنا نسألُك لهم نصرًا مُؤزَّرًا، وفرَجًا ورحمةً وثباتًا، وسدِّد رأيهم، وصوِّب رميَهم، وقوِّ عزائِمَهم.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين ومن شايَعَهم، ومن أعانَهم، اللهم فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، ومزِّقهم كلَّ مُمزَّق، واجعَل تدميرَهم في تدبيرهم يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين، فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم وأنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القومِ المُجرمِين، اللهم إنا ندرَأُ بك في نُحورِهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
اللهم اغفِر لنا ذنوبَنا، واستُر عيوبَنا، ونفِّس كروبَنا، وعافِ مُبتلانَا، واشفِ مرضانا، وارحَم موتانا.
اللهم أنت الله لا إلهَ إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، اللهم أنت الله لا إلهَ إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أنتَ الله لا إلهَ إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا.
اللهم اسقِنا غيثًا مُغيثًا، هنيئًا مريئًا، طبَقًا سحًّا مُجلِّلاً، عامًّا نافعًا غيرَ ضارٍّ، عاجِلاً غيرَ آجِل، تُحيِي به البلاد، وتُغيثُ به العباد، وتجعَلُه بلاغًا للحاضِر والبادِ.
اللهم سُقيَا رحمةٍ، لا سُقيَا عذابٍ، ولا هدمٍ، ولا بلاءٍ، ولا غرقٍ، اللهم اسقِ عبادَك وبلادَك وبهائِمَك، وانشُر رحمتَك، وأحيِي بلدَك الميت.
اللهم أنبِت لنا الزرعَ، وأدِرَّ لنا الضَّرعَ، وأنزِل علينا من بركاتِك، واجعَل ما أنزلتَه قوَّةً لنا على طاعتِك، وبلاغًا إلى حين.
اللهم إنّا خلقٌ من خلقِك، فلا تمنَع عنا بذنوبِنا فضلَك.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].
فاذكُروا اللهَ يذكُركم، واشكُروه على نعمِه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلمُ ما تصنَعُون.
التعليقات