عناصر الخطبة
1/منزلة العفاف في الجاهلية والإسلام 2/قصص من العفاف في الكتاب والسنة 3/فضل العفاف وثوابه في الدارين.اقتباس
بل إن الله سمى من اتصفن بشدة العفة وبُعد تفكيرهن عن الفاحشة، وأنها لا تطرأ حتى على تفكيرهنّ، سماهنَّ الله بالغافلات، وتوعد من قذفهن بالعذاب العظيم فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم)[النور: 23].
الخطبة الأولى:
إن من الصفات الحميد والأخلاق الفاضلة التي تفاخر بها العربُ، وتغنى بها الشعراء، صفة العفاف والعفة، وهي الكف عن الحرام، والبعد عن الفاحشة والرذيلة، قال عنترة العبسي:
وأَغُضُّ طرفي ما بدَتْ لي جارَتي *** حتى يُواري جارتي مأْواها
إني امرؤٌ سَمْحُ الخليقة ِ ماجدٌ *** لا أتبعُ النفسَ اللَّجوجَ هواها
وسمى العرب عفيف وعفاف، منهم جد الصحابي عَطِيَّةُ بنُ عازِبِ بنِ عُفَيْفٍ النضري الكِنديُّ.
ومنه قول: أبي العلاء المعري:
وَإِنِّي وَإِن كُنْتُ الأخِيرَ زمَانُهُ *** لآتٍ بِمَا لم تَسْتَطِعْه الأوائِلُ
أَلاَ فِي سَبيل المَجْدِ مَا أَنَا فَاعِلُ *** عَفَافٌ وإقبَالٌ ومَجْدٌ ونَائِلُ
ثم جاء الإسلام وعزز هذه الصفة الحميدة، ومدحها أيما مدحٍ، ورتَّب الأجر العظيم على المتصف بها، وجعلها من صفات الأنبياء والمرسلين، وعباد الله الصالحين، ورتب على من خالفها، الجزاء والعقوبات، ويكفي ذماً، أن من تجرد من هذه الصفة الكريمة، أنه موصوف بأبشع الأوصاف، وأقبح العبارات، وأنه مسلوب الشرف، لا عرض له، واحترام ولا تقدير.
وكان العفاف من أول الأشياء التي دعا إليها النبي -e- لما بُعث في مكة، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، في حديث أبي سُفْيَانَ، لما سأله هِرَقْلَ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال فما يأمركم، فَقَالَ: يَأْمُرُنَا: "بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالعَفَافِ"(صحيح البخاري (1/ 78).
بل إن الله سمى من اتصفن بشدة العفة وبُعد تفكيرهن عن الفاحشة، وأنها لا تطرأ حتى على تفكيرهنّ، سماهنَّ الله بالغافلات، وتوعد من قذفهن بالعذاب العظيم فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم)[النور: 23].
وذكر الله قصة النبي العفيف عن الفاحشة النقي التقي إمام المحسنين، النبي بن النبي بن النبي، الكريم بن الكريم بن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إبراهيم -عليهم السلام- أجمعين؛ حكى الله -تعالى- عفته في القرآن الكريم وكيف أن الله ابتلاه بالنساء ونجاه من فتنتهن، ومما زاد الأمر صعوبة عليه أنه أوتي نصف جمال الأرض -عليه السلام-، إضافة إلى كونه في قوة شبابه وعنفوانه -عليه السلام- ومع ذلك كلك عصمة الله من هذه الفتنة العظيمة، وكانت قصته (أحسن القصص) على الاطلاق قال الله -عز وجل-: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ).
ولم تنته القصة هنا بل انتشر الخبر وذاع صيت يوسف وبدأ النساء في المدينة يتحدثن عن قصة هذا الشاب الجميل؛ (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ *قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
ثم أظهر الله براءته للملأ فقال سبحانه: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ).
وحكى الله صورة أخرى للعفاف والحياء والحشمة في أجمل صورها في قصة موسى -عليه السلام-؛ ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ)؛ تحبسان غنمهما عن الماء; لعجزهما وضعفهما عن مزاحمة الرجال، وتنتظران حتى تَصْدُر عنه مواشي الناس، ثم تسقيان ماشيتهما، فلما رآهما موسى -عليه السلام- رقَّ لهما، (قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ)، على خجل تكاد تتعثر من شدة خجلها؛ (قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[القصص: 23 - 25].
وقص الله قصة سيدة العفيفات مريم -عليها السلام- أم نبي الله عيسى -عليه السلام-، وسمى الله سورة خاصة باسمها تخليداً لذكرها وتمجيداً لطهرها وعفافها، حكى الله عنها أنها تمنت الموت على الساعة التي تقابل فيها قومها أو تسمع فيها كلمة تجرح أو تشكك في طهارتها وعفافها قال الله -عز وجل-: (قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا).
يا الله، الموت أهون عليها من هذا الموقف الرهيب الذي لا تحسد عليه، لكنه الطهر والعفاف هكذا يصنع بأصحابه.
وقص علينا النبي --e قصة جميلة وصورة مشرقة من صور العفاف وأن العفاف سبب للنجاة في الدنيا والآخرة؛ فعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوْا المَبِيتَ إِلَى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، -فدعا الأول، فانفرجت الصخرة شيئاً قليلاً ثم- قَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ، كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي، فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا، قَالَتْ: لاَ أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ مِنْهَا "، -ثم دعا الثالث- فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، فَخَرَجُوا يَمْشُونَ"(صحيح البخاري).
وحكت لنا السيرة العطرة قصة امرأة سوداء من أهل الجنة كانت تصرع وتصبر، تحلت بهذه الصفة الجميلة صفة العفاف، فعن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس -رضي الله عنه-: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي، قال: "إن شئت صبرتِ ولك الجنة، وإن شئتِ دعوتُ الله عز وجل أن يعافيك" قالت: أصبر، قالت: فإني أتكشف، فادع الله أن لا تكشف، فدعا لها".
الله أكبر لم تجزع لأنها تصرع بل صبرت، لكن الذي هالها ولم تصبر عليه هو التكشف فقبل الرسول -e- كلامها ودعا لها.
بل وحث الله حتى العجائز اللاتي لا ينظر إليهن أحد ولا يرجين نكاحاً، حثهم الله على العفاف فقال: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[النور: 60]
والعفيفة -يا عباد الله- الغافلة عن الفاحشة تصاب بالمرض والاعياء وتكاد تزهق روحها لو أن أحداً من الفجار طعن في عرضها، كما حصل للطاهر الصديقة بنت الصديق؛ فعن أُمِّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، قالت في حادثة الإفك: "قدمنا المدينة فاشتكيتُ حين قدمت شهرًا والناسُ يفيضون في قول أصحاب الإفك، لا أشعُر بشيءٍ من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرفُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنتُ أرى منه حين أشتكي، حتى خرجتُ مع أم مسطح، فعثرتُ في مرطها، فقالت: تعس مسطح، فقلتُ لها: بئس ما قلتِ، أتسُبِّينَ رجلًا شهِد بدرًا؟ فقالت: أي هنتاه، ولم تسمعي ما قال؟ قلتُ: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددتُ مرضًا على مرضي، فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحتُ أبكي، فبكيتُ يومي ذلك كله، وقد بكيتُ ليلتين ويومًا لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحلُ بنوم حتى إني لأظُنُّ أن البكاء فالق كبدي"(متفق عليه)؛ لا عجب أن تمرض، فهكذا يصنع العفاف بالعفيفات.
وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم- : "اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى، وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى"(صحيح مسلم (4/ 2087).
فاللهم إنا نسألك الْهُدَى وَالتُّقَى، وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
الخطبة الثانية:
وعن أم سلمة -رضي الله عنها-، قالت لما نزلت هذه الآية: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ)[الأحزاب: 59]، خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهنَّ الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سُود يلبسنها.
وعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنهما-، قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله هذه الآية: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)، شققْنَ مروطهن فاختمرن به"(أخرجه البخاري)، (اختمرْنَ)؛ أي: غطَّيْنَ وجوههن.
ثواب العفيفات في الدنيا والآخرة:
العفاف -يا عباد الله- من أسباب مغفرة الذنوب، ودخول الجنة، ونيل الأجور العظيمة في الآخرة:
قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمً)[الأحزاب: 35].
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا صلَّت المرأةُ خمسَها، وصامَتْ شهرَها، وحفظتْ فَرْجَها، وأطاعتْ زوجَها، قيل لها ادخلي الجنة من أيِّ أبوابِ الجنةِ شئِتِ"(أخرجه ابن حِبَّان)، مشكاة المصابيح (1/ 334)، (صَحِيحٌ).
ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في المدينة، والصلاة في مسجده بألف صلاة، ولعظم العفة في الإسلام، جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الصلاة في البيت للمرأة أفضل من الصلاة حتى في مسجد -صلى الله عليه وسلم- مع الصلاة في مسجده بألف صلاة فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ).
ونقول للمتسوقات اللواتي يقنعن الرجال بشراء السلع التجارية أنه من صفات العفيفات -يا عباد الله-، عدم الرقة واللين والخضوع بالكلام مع الرجال: قال الله -عز وجل- لأمهات المؤمنين وهن قدوات العفيفات: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا)[الأحزاب: 32].
ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعوا في كل صباح ومساء بستر العورات، التي هي مناط العفة، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما-، قال: "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: "اللهم إني أسألُك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عورتي، وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتِكَ أن أغتال من تحتي"(أخرجه أبو داود).
اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، فاللهم إنا نسألك الْهُدَى وَالتُّقَى، وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى
صلوا وسلموا ....
التعليقات