اقتباس
العِشق: تعريفه، حقيقته، أسبابه، الوقاية والعلاج منه
العِشق: تعريفه، حقيقته، أسبابه، الوقاية والعلاج منه – مشكاة الإسلامية
العِشق: تعريفه، حقيقته، أسبابه، الوقاية والعلاج منه
توطئة:
الحمد لله الّلطيف الخبير، والصّلاة والسّلام على نبيّنا المُْرسل للأخذ بحُجِزنا عن التلفت في السّعير أمّا بعد:
فإنّ محبّة النّفوس للصّوت والصّورة قد تكون عظيمة جدّاً، فإذا جُعِل ذلك ديناً، وسمّيَ لله، صار كالأنداد، والطّواغيت المحبوبة تدّيّناً، وعبادة كما قال تعالى :" وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم "(البقرة:93).
فالعبادة: معناها الذّلّ، وهي تتضمّن معنى الذّلّ ومعنى الحبّ، أي :غاية الذّلّ لله بغاية المحبّة له.
والمحبّة مراتب:
أوّلهـــا: العُلاقة، وهي تعلّق القلب بالمحبوب .
الثّانيـة: الإرادة، وهي ميل القلب إلى محبوبه وطلبه له.
الثّالثـة: الصّبابة، وهي انصباب القلب إليه بحيث لا يملكه صاحبه.
الرّابعة: الغرام، وهو الحبّ الملازم للقلب .
الخامسة: المودّة،والودّ، وهي صفوّ المحبّة وخالصها ولُبّها.
السّادسة: الشّغَف، وهي وصول المحبّة إلى شِغاف القلب.
السّابعة: العِشق، وهو محبّة مع شهوة.
الثّامنـة: التّيم، وهو بمعنى التّعبّد.
التّاسعة: التّعبّد .
العاشرة: الخلّة، وهي المحبّة الّتي تخلّلت روح المحبّ وقلبه .
كما أنّ المحبّة أنواع متعدّدة: فأفضلها وأجلّها المحبّة في الله ولله ؛ وهي تستلزم محبّة ما أحبّ الله تعالى، وتستلزم محبّة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم .
وليس في دين الله محبّة أحد لحسنه قطّ، فإنّ مجرّد الحسن لا يثيب الله عليه ولا يعاقب، ولو كان كذلك لكان يوسف عليه السّلام، لمجرّد حسنه، أفضل من غيره من الأنبياء، وإذا استوى شخصان في الأعمال الصّالحة، وكان أحدهما أحسن صورة و صوتاً، كانا عند الله سواء، فإنّ أكرم الخلق عند الله تعالى أتقاهم، يعمّ ذلك صاحب الصّورة الحسنة والصّوت الحَسَن، فإذا استعمل ذلك في طاعة الله دون معصية، كان أفضل من هذا الوجه.
ومن أنواع المحبّة، محبة الاتّفاق في طريقة، أو دين، أو مذهب، أو نحلة، أو قرابة، أو صناعة، أو مراد ما .
ومنها، محبّة لنيل غرض من المحبوب، إمّا من جاه أو من مال أو من تعليمه وإرشاده، أو قضاء وطر منه، وهذه هي المحبّة العرضيّة الّتي تزول بزوال موجبها، فإنّ من ودّك لأمر، ولى عنك عند انقضائه.
وأمّا محبّة المشاكلة والمناسبة الّتي بين المحبّ والمحبوب، فمحبّة لازمة لا تزول إلاّ لعارض يُزيلها، ومحبّة العشق من هذا النّوع، فإنّها استحسان روحاني، وامتزاج نفساني، ولا يعرض في شيء من أنواع المحبّة من الوساوس والنّحول، وشغل البال، والتّلف،ما يعرض من العشق.
تعريف العشق وتبيان ماهيّته وحقيقته:
العشق،كما تقدّم، مرتبة عالية في المحبّة، فهو الإفراط في المحبّة بحيث يستولي المعشوق على قلب العاشق حتّى لا يخلو من تخيّله وذكره والفكر فيه بحيث لا يغيب عن خاطره وذهنه طرفة عين، كما قال أحدهم :
تغيبُ فـلا أفـــــــرح **** فليتك ما تبـــــرح
وإن جـــئتَ عذّبتنــي ***** بأنّك لا تسمــــــــح
فأصبحت ما بين ذَيـــــ**ـــنِ لي كبدٌ تجرح
والعشق خفيّ أن يُرى، وجليّ أن يُخفى، فهو كامن ككمون النّار في الحجر إن قدحته أورى وإن تركته توارى.
هو مرضٌ من أمراض القلب، مُخالف لسائر الأمراض في ذاته وأسبابه وعلاجه، وإذا تمكّن واستحكم، عزّ على الأطبّاء دواؤه و أعيَ العليل داؤه، وإنّما حكاه الله سبحانه في كتابه عن طائفتين من النّاس: النّساء، وعشّاق الصّبيان و المُردان، فحكاه عن امرأة العزيز في شأن يوسف عليه السّلام، كما حكاه عن قوم لوطٍ عليه السّلام.
والعاشق لصورة إذا بقيَ قلبه مُتعلّقاً بها، مستعبداً لها، اجتمع له من أنواع الشرّ والفساد مالا يُحصيه إلاّ ربّ العباد وتأمّل قول القائل:
يا سُعاد الّتي سبتني فــؤادي**** ورقــادي هبي لعيني رُقادي
أسباب العشق:
من أعظم أسباب هذا البلاء إعراض القلب عن ذكر الله تعالى وتدبّر كلامه ؛ قال تعالى :" ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشةً ضنكا"( طه :124).
كذلك خلوّ القلب من محبّة الله سبحانه، فعشق الصّور، والأصوات، إنّما تبتلى به القلوب الفارغة من محبّة الله جلّ في علاه، المتعوّضة بغيره عنه.
والهوى والشّهوة وضعف الإخلاص ونقص الإيمان والتّقوى أسبابٌ له، فأهل الأهواء والشّهوات من النّساء والرّجال يميلون إلى ذي الصّورة الحسنة –وكذا الصّوت الحسن- ويحبّونه ويعشقونه، ويرغبّونه بأنواع الكرامات ويرهبّونه عند الامتناع بأنواع المخوّفات، كما جرى ليوسف عليه السّلام وغيره.
الوقاية من العشق:
العشق مركّب من أمرين:
استحسان للمعشوق، وطمعٌ في الوصول إليه، فمتى انتفى أحدهما انتفى العشق.
وإذا كان القلب محبّاً لله وحده مخلصاً له الدّين لم يُبتلَ بحبّ غيره أصلاً، فضلاً أن يبتلى بالعشق، وحيث ابتلى بالعشق فلنقص محبته لله وحده.
ولهذا لمّا كان يوسف محبّاً لله مخلصاً له الدّين لم يُبتلَ بذلك، بل قال تعالى :"كذلك لنصرف عنه السّوء والفحشاءَ إنّه من عبادنا المخلصين"(يوسف:24).
وأمّا امرأة العزيز فكانت مشركة هي وقومها، فلهذا ابتليت بالعشق، وما يبتلى بالعشق أحد إلاّ لنقص توحيده وإيمانه، وإلاّ فالقلب المنيب إلى الله الخائف منه فيه صارفان عن العشق:
أحدهما: إنابته إلى الله، ومحبّته له، فإنّ ذلك ألذّ وأطيب من كلّ شيء، فلا تبقي مع محبة الله محبّة مخلوق تزاحمه.
والثّاني: خوفه من الله، فإنّ الخوف المضادّ للعشق يصرفه، وكلّ من أحبّ شيئاً بعشق أو دونه فإنّه يصرف من محبّته بمحبّة ما هو أحبّ إليه منه إذا كان يزاحمه، وينصرف عن محبّته بخوف حصول ضرر يكون أبغض إليه من ترك ذاك الحبّ، فإذا كان الله أحبّ إلى العبد من كلّ شيء وأخوف عنده من كلّ شيء، لم يحصل معه عشق ولا مزاحمة إلاّ عند غفلة أو عند ضعف هذا الحبّ والخوف، بترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرّمات، فإنّ الإيمان يزيد بالطّاعة وينقص بالمعصية.
فبخٍ بخٍ من أمتلى قلبه بذكر الله، قال تعالى :" الذّين آمنوا وتطمئنّ قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب "( الرّعد:28).
علاج العشق:
من فاته الوقاية من العشق فعليه بتحصيل العلاج والالتزام به، وهو أنواع:
فإن كان ممّا للعاشق سبيل إلى وصل محبوبه شرعاً وقدراً، فهو علاجه، كما ثبت في "الصّحيحين" من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (يا معشر الشّباب من استطاع منكم أن الباءة فليتزوّج، ومن لم يستطع فعليه بالصّوم، فإنّه له وجاء}.
فدلّ المحبّ على علاجين: أصلي وبدلي. وأمره بالأصلي، وهو العلاج الذّي وضع لهذا الدّاء، فلا ينبغي العدول عنه إلى غيره ما وجد إليه سبيلاً.
وروى ابن ماجه في سننه "ح1847" عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال :{ لم نرَ للمتحابّين مثل النّكاح}(صحيح/الصّحيحة624).وهذا هو المعنى الذّي أشار إليه سبحانه عقيب إحلال النّساء حرائرهنّ وإمائهنّ عند الحاجة بقوله :" يُريد الله أن يخفّف عنكم وخُلِق الإنسان ضعيفاً"(النّساء:28).
فذكر تخفيفه في هذا الموضع، وإخباره عن ضعف الإنسان يدلّ على ضعفه عن احتمال هذه الشّهوة، وأنّه-سبحانه- خفّف عنه أمرها بما أباحه له من أطايب النّساء مثنى وثُلاث ورباع، وأباح له ما شاء مّما ملكت يمينه، ثمّ أباح له أن يتزوّج بالإماء إن احتاج إلى ذلك علاجاً لهذه الشّهوة، وتخفيفاً عن هذا المخلوق الضّعيف، ورحمة به.
وإن كان لا سبيل للعاشق إلى وصال معشوقه قدراً أو شرعاً، أو هو ممتنع عليه من الجهتين، وهو الدّاء العضال، فمن علاجه إشعار نفسه اليأس منه، فإن النّفس متى يئست من الشيء استراحت منه، ولم تلتفت إليه، فإن لم يَزُل مرض العشق مع اليأس، فقد انحرف الطّبع انحرافاً شديداً، فينتقل إلى علاج آخر، وهو علاج عقله بأن يعلم بأنّ تعلُّق القلب بما لا مطمع في حصوله نوعٌ من الجنون، وصاحبه بمنزلة من يعشق الشّمس، وروحه متعلّقة بالصّعود إليها.
وإن كان الوصال ممتنعاً شرعاً لا قَدَراً، فعلاجه بأن ينزله منزلة الممتنع قَدَراً، إذ لم يأذن فيه الله.
ومن العلاج أن يقارن بين لذّة الدّنيا سريعة الزّوال والممثّلة بتحقيق هذا الوصال المتنع، مع لذّة أعظم وأدوم في الآخرة، فيظهر له التّفاوت.
ومن العلاج تذكّر قبائح المحبوب، وما يدعوه إلى النّفرة عنه.
ومنه التضرّع إلى الله تعالى بالدّعاء والاستعانة بالصّبر والصّلاة وملئ الفراغ بالطّاعات.
فمتى وفّق لذلك، فقد قرع باب التّوفيق، فليعفّ وليكتُم، ولا يشبّب بذكر المحبوب، ولا يفضحه بين النّاس ويعرّضه للأذى، فإنّه حينها يكون ظالماً معتدياً.
وصلّى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم.
المراجع:
مجموع الفتاوى لابن تيمية: 10/135-136 و186-187.
الإستـقامــــــــة لابن تيمية :1/348-349 و372-374.
زاد المـــــــــعاد لابن القيّم :4/265-276 وانظرأيضاً الجواب الكافي .
شرح العقيدة الطــــــحّاويّة: ص165/ط8، المكتب الإسلامي.[/align]
التعليقات