عناصر الخطبة
العزة في سماء غزةاقتباس
ولا عَجبَ في ذلكَ، فاللهُ تَعالى ربطَ العزَّةَ بوصفِ الإيمانِ، فقالَ سُبحانَه: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)، فمتى وُجِدَ الإيمانُ، وُجِدَتْ العِزَّةُ، فَالعِزَّةُ ثَباتٌ في أَحلَكِ الأوقاتِ، حتى مَعَ الآلامِ والضَّعفِ..
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي أَكرمَنا بالإسلامِ، وأَعزَّنا بالإيمانِ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، جَعلَ السعادةَ فيمن أطاعَه واتَّبعَ رِضاهُ، وجَعلَ العَزَّةَ والكَرامةَ لمن خَافَهُ واتَّقاهُ، وأَشهدُ أنَّ نبيَّنا وحَبيبَ قُلوبِنا محمدًا رسولُ اللهِ، وخَليلُه من خَلقِه ومُصطفاهُ، فَازَ ورَبِحَ من اتَّبعَ سُنتَه وهُداهُ، وخَابَ وخَسِرَ من خَالفَهُ وعَصاهُ، اللهمَّ صَلِّ وسلِّمْ عَليهِ وعلى آلِه وصَحابتِه، واجعلنا مِن رُوَّادِ حَوضِهِ وأَهلِ شَفاعتِهِ، أما بعدُ:
ها هيَ غزوةُ أُحدٍ تَحُطُّ رِحالَها، وها هو الغبارُ يَكشفُ أَطلالَها، فنرى رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ قد شُجَّتْ جبهتُه، وكُسِرتْ رُباعيتُه، وجُرِحتْ شَفَتُه، ودَخلتْ حَلَقاتُ المِغفرِ في وَجنَتِه، ونرى على الأرضِ سبعينَ من خِيرةِ صحابتِه، قَد مُثِّلَ بِهم فَقُطِّعتْ منهم الأنوفُ والآذانُ، وبُقرتْ منهم البطونُ، بينَهم سيِّدُ الشُّهداءِ حمزةُ بنُ عبدِالمطلِّبِ رَضيَ اللهُ عنه، ونرى من الرُّماةِ من تَركَ مكانَه وعَصى، ونرى من الجنودِ من تركَ أرضَ المعركةِ وتولَّى، ومن ثَبتَ من الصَّحابةِ، منهم من استُشهدَ ومنهم من جُرحَ، فكانَ يوماً على المسلمينَ عظيماً، حتى قالَ قائدُ المشركينَ يومئذٍ أبو سفيانَ: " يَومٌ بيَومِ بَدرٍ، والحَربُ سِجالٌ".
ولكنَّ العَجيبَ أنَّه لمَّا نزلتْ آياتُ سورةِ آلِ عِمرانَ في غزوةِ أُحدٍ، كانَ فيها: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، فسبحانَ اللهِ، إنَّها واللهِ رسالةٌ ربَّانيةٌ أنَّ أهلَ الإيمانِ هم الأعلى والأعزُّ حتى مع الهزيمةِ، ومع الضَّعفِ، ومع تسلُّطِ الأعداءِ، فالمؤمنُ عزيزٌ بربِّه، عزيزٌ بدينِه، عزيزٌ بثباتِه على عقيدتِه.
ولذلكَ لمَّا قالَ أبو سفيانَ: أُعْلُ هُبَلْ، قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ: أَلَا تُجِيبُوه؟، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، ما نَقُولُ؟، قالَ: قُولوا: اللَّهُ أَعْلَى وأَجَلُّ، فَقالَ أبو سُفيانَ: لَنَا العُزَّى ولَا عُزَّى لَكُمْ، فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أَلَا تُجِيبُوه؟، قالَ: قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، ما نَقُولُ؟، قالَ: قُولوا: اللَّهُ مَوْلَانَا، ولَا مَوْلَى لَكُمْ.
ألا ترونَ إلى المستضعفينَ من المسلمينَ في مكةَ، وهم يُعذَّبونَ أشدَّ العذابِ، فهناكَ عمَّارُ بنُ ياسرٍ وأبوهُ وأمُّه، وهناكَ بلالُ بنُ رباحٍ، وهناكَ خبَّابُ بنُ الأرتِّ، ومع ذلكَ كانوا أعزَّةً، ثابتينَ على الحقِّ، حتى عَجزَ عنهم صناديدُ قُريشٍ، وأصابتهم الهَزيمةُ النَّفسيةُ والذُّلٌ بسببِ يأسِهم من صدِّهم عن دينِهم وعَقيدَتِهم، وصدَقَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ حينَ قالَ: (عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ).
عِزَّةُ المؤمنِ هيَ التي جَعلتْ خُبيبَ بنَ عدِيٍّ يقفُ شامخاً عزيزاً أمامَ كُفَّارِ قُريشٍ، يُصلي ركعتينِ قبلَ مَقتلِه، وَيَقولُ: واللهِ لَولا أَن تَظنُّوا إنَّما طَوَّلتُ جَزَعًا من القَتلِ لاستَكثَرتُ من الصَّلاةِ، ثُمَّ قالَ قبلَ أن يُصلبَ:
ولَستُ أُبالي حِينَ أُقتَلُ مُسلِماً *** على أيِّ شِقٍّ كانَ للهِ مَصرَعي
وذلك في ذاتِ الإلهِ وإنْ يَشَأْ *** يُبارِكْ على أوْصالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
عِزَّةُ المؤمنِ هي التي جَعلتْ أصحابَ الأخدودِ، لا يُبالونَ بنارِ الملكِ العظيمةِ التي قد ملأتِ الأخاديدَ في الطُّرقاتِ، فيُرمى بعضُهم أمامَ بعضٍ، ويُحرقُ بعضُهم أمامَ بعضٍ، وهم في ثباتٍ على الدِّينِ والإيمانِ، حتى تأتي أمرأةٌ ومعها طفلٌ صغيرٌ، فتقاعسَتْ عن الوُقوعِ فيها خوفاً على صَغيرِها، فَقالَ لَهَا الغُلَامُ: يا أُمَّهْ، اصْبِرِي فإنَّكِ علَى الحَقِّ.
عِزَّةُ المؤمنِ هي التي جَعلَتْ الإمامَ أحمدَ بنَ حنبلٍ رحمَه اللهُ يقفُ موقفَ الجبالِ الرَّسخاتِ، أمامَ فِتنةِ خلقِ القرآنِ، معَ ما تَعرَّضَ لهُ من السِّجنِ والجَلدِ، حتى أصبحَ إماماً لأهلِ السُّنةِ والجَماعةِ، وهي التي جعلتْ شيخَ الإسلامِ ابنَ تيميةَ يَقولُ: "مَاذا يَفعلُ بي أَعدائي، إنَّ سِجنيَ خَلوةٌ، ونَفييَ سِياحةٌ، وقَتليَ شَهادةٌ".
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بالآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم، ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمينَ، العزيزِ المَلكِ الحقِّ المُبينِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأَشهدُ أنَّ مُحمداً رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلمَ، كَانَ عَزيزاً بربِّهِ، وعَلَّمَ أُمَّتَه العِزةَ، ورَضيَ اللهُ عن أَصحابِه، الذين وصفَهم اللهُ تعالى بقولِه: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ)، أما بعدُ:
اليومَ نَرى العِزةَ في سَماءِ غَزةَ، تراها في عُيونِ ذلكَ الشيخِ الكَبيرِ، الذي يَرفعُ يَديهِ إلى السَّميعِ البَصيرِ، وَمَعَ شِدةِ البَلاءِ وطُولِ السِّنينَ، لا يَزالُ يَدعو بِقَلبٍ يَملأَهُ اليَقينُ، وتَرى العِزةَ في صُمودِ أولئكَ الشَّبابِ أَمامَ الأخطَارِ والأهوالِ، في انقَاذِهم للمُصابينَ مِن كِبارٍ ونِسَاءٍ وأَطفَالٍ، وتَرى العِزةَ في مَشاعرِ تَلكَ الأمِّ التي تُودِّعُ أبناءَها شَهيداً بَعدَ شهيدٍ، بكَلِماتِ الثَّباتِ والفَرحِ والزَّغاريدِ، وأَما ذلكَ الأبُّ الذي أحضَرَ ابنَهُ المُصابَ إلى المُستَشفى، فَطمأنَّهُ الطَّبيبُ إنَّهُ بَعَدَ أيامٍ سَيَشفى، فَلمَا جَاءَ اليَومَ التَالي لَم يَجدْ ابنَهُ ولا الطَّبيبَ ولا المَستَشفى، ولِسانُ حَالِ العِزةِ في قَلبِه، إنَّ القَلبَ ليَحزَنُ، وإنَّ العَينَ لَتَدمعُ، ولا نَقولُ إلا مَا يُرضي رَبُّنا، وإنَّا عَلى فِراقِكم جَميعاً لَمحزونونَ، وهَكَذا كُلَّما قَلَّبتَ عَينَكَ في غَزَّةَ، رَأيتَ مَوقِفَاً عَجيباً مِن مَواقفِ العِزَّةِ.
ولا عَجبَ في ذلكَ، فاللهُ تَعالى ربطَ العزَّةَ بوصفِ الإيمانِ، فقالَ سُبحانَه: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)، فمتى وُجِدَ الإيمانُ، وُجِدَتْ العِزَّةُ، فَالعِزَّةُ ثَباتٌ في أَحلَكِ الأوقاتِ، حتى مَعَ الآلامِ والضَّعفِ، ومَعَ الجِراحِ والقَصفِ، فمنْ عَاشَ عَاشَ حَميداً، ومن مَاتَ مَاتَ شهيداً، فَصبراً يا أهلَ غَزَّةَ عَلى البَلاءِ، فَالأمَّةُ الإسلاميَّةُ مَعَكم بَالقلبِ والدَّعاءِ.
وجزى اللهُ خَيراً بِلادَنا وولاةَ أمرِنا في مَوقفِهم الثَّابتِ تِجاهَ القَضيةِ الفِلسطينيةِ، ومَا يَقومونَ بِهِ من مَواقفَ جَادَّةٍ لِرَفعِ الحَصارِ، وَوَقفِ إطلاقِ النَّارِ، مَحافظةً على أرواحِ الأبرياءِ والمَدنيينَ، واعتِبارَ ذلكَ مُخَالفاً لِجَميعِ الأعرافِ والقَوانينَ.
اللهمَّ أَعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهمَّ أَقمْ من مَجدِهم مَا تَهدَّمَ، وَصِلْ من حَبلِهم مَا تَصرَّمَ، واَهدِهم صِراطَكَ الأقوَمَ، اللهمَّ إنَّا نَسألُكَ عِزَّةَ الإيمانِ، والثَّباتَ على الإسلامِ، اللهم يا ناصِر المظلُومين، ويا مُنجِيَ المُؤمنين، اللهم إن إخوانَنا في فلسطين مظلُومون فانصُرهم، اللهم تقبَّل شُهداءَهم، وعافِ جرحَاهم، واشفِ مرضَاهم، ورُدَّهم سالِمين غانِمِين، اللهم عليك باليهود الصهايِنة، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَك، اللهم شتِّت شملَهم، وفرِّق جمعَهم، واجعَلهم غنيمةً للمُسلمين، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح واحفَظ أئمَّتنا ووُلاةَ أمورِنا، وأيِّد بالحقِّ إمامَنا خادِمَ الحرمَين الشريفَين، اللهم وفِّقه وَوليَ عَهدِهِ وأَعوانَهُ لما تحبُّ وترضَى، وخُذ بناصِيَتِهم للبِرِّ والتقوَى، ووفقهم لنصرةِ قضايا المسلمينَ، يا ذا الجلالِ والإكرامِ.
التعليقات