عناصر الخطبة
1/تعريف الطلاق وبيان معناه 2/حكم الطلاق في الإسلام 3/مقاصد الطلاق في الإسلام 4/أنواع الطلاق في الفقه الإسلامي.اقتباس
مِنْ مَقَاصِدِ الطَّلَاقِ فِي الْإِسْلَامِ: الْإِبْعَادُ عَنِ الْأَضْرَارِ النَّفْسِيَّةِ وَالصِّحِّيَّةِ؛ فَكَمْ مِنْ حَيَاةٍ زَوْجِيَّةٍ مُكَدَّرَةٍ كَثُرَتْ فِيهَا الْأَمْرَاضُ النَّفْسِيَّةُ، وَتَعَمَّقَتْ فِيهَا الْأَسْقَامُ الْجَسَدِيَّةُ، فَلَا يَزِيدُ الزَّمَانُ تِلْكَ الْآلَامَ إِلَّا امْتِدَادًا، وَلَيْسَ مِنْ دَوَاءٍ لِهَذَا الدَّاءِ إِلَّا الْفِرَاقُ بِمَعْرُوفٍ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: جَرَتِ الْحَيَاةُ فِي قَانُونِ اسْتِمْرَارِ الْبَشَرِيَّةِ، عَلَى سُلُوكِ سَبِيلِ الزَّوَاجِ لِتَحْقِيقِ هَذِهِ الْغَايَةِ الْحَيَاتِيَّةِ، وَلَكِنَّ رَابِطَةَ الزَّوَاجِ قَدْ تَتَعَرَّضُ لِبَعْضِ عَوَامِلِ إِنْهَاءِ هَذِهِ الْعَلَاقَةِ الْمَشْرُوعَةِ، وَتَضِيقِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ مَعَهَا، فَكَانَ الطَّلَاقُ حَلًّا لِتِلْكَ الرَّابِطَةِ الَّتِي تَكَدَّرَتِ الْحَيَاةُ فِي ظِلِّهَا، وَسَاءَتِ الْعِشْرَةُ تَحْتَ سَمَائِهَا الْمُلَبَّدَةِ بِالْمُشْكِلَاتِ الَّتِي لَا حَلَّ لَهَا إِلَّا الْفِرَاقُ بِإِحْسَانٍ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ الطَّلَاقَ فِي شَرِيعَتِنَا الْإِسْلَامِيَّةِ هُوَ: حَلُّ قَيْدِ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ الصَّرِيحِ أَوْ كِنَايَةً إِذَا نَوَاهُ؛ فَالطَّلَاقُ هُوَ فَكٌّ لِتِلْكَ الرَّابِطَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ النَّقِيَّةِ الَّتِي قَامَتْ عَلَى الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ بَعْدَ أَنِ انْسَدَّتْ كُلُّ الطُّرُقِ لِمُدَاوَاةِ مَا طَرَأَ عَلَيْهَا مِنْ عِلَلٍ يَصْعُبُ عَلَى الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ التَّعَايُشُ مَعَهَا؛ وَالنِّكَاحُ الَّذِي يُنْهَى بِالطَّلَاقِ إِنَّمَا هُوَ النِّكَاحُ الصَّحِيحُ، أَمَّا النِّكَاحُ الْفَاسِدُ فَإِنَّمَا يُنْهَى بِالْمُتَارَكَةِ أَوِ الْفَسْخِ.
وَالطَّلَاقُ -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَفْعُهُ فِي الْحَالِ؛ وَهُوَ الطَّلَاقُ الْبَائِنُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَفْعُهُ فِي الْمَآلِ؛ وَهُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ بَعْدَ مُضِيِّ الْعِدَّةِ بِلَا مُرَاجَعَةٍ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ الطَّلَاقَ فِي دِينِنَا الْإِسْلَامِيِّ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ إِذَا دَعَتْ إِلَيْهِ أَسْبَابٌ صَحِيحَةٌ، بَلْ قَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ هُوَ أَحْسَنَ الْوَسَائِلِ لِلْخُرُوجِ مِنْ نَارٍ يُشَبُّ ضِرَامُهَا، وَلَمْ يَنْطَفِئْ وَهَجُهَا بِكُلِّ الْوَسَائِلِ إِلَّا بِهِ، فَلَا خَيْرَ فِي حَيَاةٍ تُصْبِحُ فِيهَا الزَّوْجَةُ غُلًّا فِي عُنُقِ زَوْجِهَا لَا يَسْتَطِيعُ الْخَلَاصَ مِنْهَا؛ لِوُجُودِ قَانُونٍ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ؛ وَقَدْ دَلَّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الطَّلَاقِ فِي شَرِيعَتِنَا الْإِسْلَامِيَّةِ: كِتَابُ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-؛ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)[الْبَقَرَةِ: 229]، وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ * وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[الْبَقَرَةِ:236-237].
فَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ مَشْرُوعٌ؛ فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ الرَّجْعَةُ مَرَّتَانِ؛ وَاحِدَةٌ بَعْدَ الْأُخْرَى، فَحُكْمُ اللَّهِ بَعْدَ كُلِّ طَلْقَةٍ هُوَ: إِمْسَاكُ الْمَرْأَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَحُسْنُ الْعِشْرَةِ بَعْدَ مُرَاجَعَتِهَا، أَوْ تَخْلِيَةُ سَبِيلِهَا مَعَ حُسْنِ مُعَامَلَتِهَا بِأَدَاءِ حُقُوقِهَا، وَأَلَّا يَذْكُرَهَا مُطَلِّقُهَا بِسُوءٍ.
وَذَكَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ بِأَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَى الْأَزْوَاجِ فِي تَطْلِيقِ زَوْجَاتِهِمْ.
وَفِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ أَشَارَ اللَّهُ -تَعَالَى- إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الطَّلَاقِ بَعْدَ الْعَقْدِ عَلَى النِّسَاءِ، وَذَكَرَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَتِهِ.
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهَا بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طَلَّقَ حَفْصَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا"، وَهَذَا بُرْهَانٌ عَمَلِيٌّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الطَّلَاقِ، مِنْ عَمَلِ النَّبِيِّ الْمُشَرِّعِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَهُوَ طَلَاقٌ رَجْعِيٌّ قَامَ بِهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "كَانَتْ تَحْتِي امْرَأَةٌ أُحِبُّهَا، وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُهَا، فَقَالَ لِي: طَلِّقْهَا فَأَبَيْتُ، فَأَتَى عُمَرُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا عَبْدَ اللَّهِ، طَلِّقِ امْرَأَتَكَ" وَفِي رِوَايَةٍ: "أَطِعْ أَبَاكَ" قَالَ: فَطَلَّقْتُهَا".
وَفِي هَذَا النَّصِّ الشَّرِيفِ بُرْهَانٌ قَوْلِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَلَى إِبَاحَةِ الطَّلَاقِ، وَذَلِكَ بِأَمْرِهِ ابْنَ عُمَرَ بِطَاعَةِ أَبِيهِ فِي تَطْلِيقِ زَوْجَتِهِ.
غَيْرَ أَنَّ الطَّلَاقَ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- لَا يَكُونُ مُبَاحًا فِي كُلِّ حَالٍ، بَلْ تَجْرِي عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ، كَمَا يَقُولُ فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ؛ فَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، وَقَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا، وَقَدْ يَكُونُ مُحَرَّمًا، وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا، وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا.
فَالطَّلَاقُ الَّذِي يَكُونُ وَاجِبًا كَطَلَاقِ الْحَكَمَيْنِ –الْعَدْلَيْنِ- بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِنْ رَأَيَا أَنَّ الطَّلَاقَ هُوَ الْوَسِيلَةُ الْوَحِيدَةُ لِفَضِّ النِّزَاعِ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا)[النِّسَاءِ:35].
وَمِنْ صُوَرِ الطَّلَاقِ الْوَاجِبِ: طَلَاقُ الْمُولِي وَهُوَ: الَّذِي حَلَفَ عَلَى عَدَمِ وَطْءِ زَوْجَتِهِ فَيُتَرَبَّصُ بِهِ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ يُطَلِّقُ إِذَا لَمْ يَعُدْ إِلَى مُعَاشَرَتِهَا، قَالَ -تَعَالَى-: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[الْبَقَرَةِ:226-227].
وَالطَّلَاقُ قَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا كَالطَّلَاقِ فِي حَالِ اشْتِدَادِ الْخِلَافِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَلَيْسَ هُنَاكَ حَلٌّ إِلَّا زِيَادَةُ الْمُشْكِلَاتِ، وَكَثْرَةُ الْمُعْضِلَاتِ، وَكَطَلَاقِ الْمَرْأَةِ الْمُقَصِّرَةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ الْوَاجِبَةِ، بَعْدَ اسْتِمْرَارِ نَصِيحَتِهَا وَتَأْدِيبِهَا، فَلَمْ تَزْدَدْ إِلَّا اسْتِمْرَارًا عَلَى تَقْصِيرِهَا.
وَالطَّلَاقُ قَدْ يَكُونُ مُحَرَّمًا كَطَلَاقِ الرَّجُلِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الزَّوَاجَ بَعْدَ طَلَاقِهِ، وَيَخَافُ أَنْ يَقَعَ فِي الزِّنَا، وَكَالطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْإِضْرَارُ بِالزَّوْجَةِ فَقَطْ، وَلَمْ تَأْتِ بِمَا يَسْتَوْجِبُ طَلَاقَهَا. فَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَضَى أَنْ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ).
وَالطَّلَاقُ قَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا؛ كَطَلَاقِ امْرَأَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا مَوَدَّةٌ وَوِئَامٌ وَوَفَاءٌ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ الزَّوْجِ، مَعَ التَّقْصِيرِ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ الَّتِي يُمْكِنُ عِلَاجُهَا بِغَيْرِ الطَّلَاقِ.
وَالطَّلَاقُ قَدْ يَصِيرُ مُبَاحًا؛ وَيَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ؛ لِسُوءِ خُلُقِ الْمَرْأَةِ، وَسُوءِ عِشْرَتِهَا، وَالتَّضَرُّرِ بِهَا، مِنْ غَيْرِ حُصُولِ الْغَرَضِ مِنْهَا.
فَاتَّقُوا اللَّهَ -مَعْشَرَ الْأَزْوَاجِ- وَاعْرِفُوا هَذِهِ الْأَحْكَامَ؛ حَتَّى لَا تَقَعُوا فِي الْمَكْرُوهِ أَوِ الْحَرَامِ، أَوْ مَا يُوجِبُ النَّدَامَةَ وَالْمَلَامَ، حِينَ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ سَبَبٍ صَحِيحٍ يَدْعُو إِلَيْهِ، وَلَا مُوجِبٍ لِلْفِرَاقِ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ.
فَقَدْ طَلَّقَ الْفَرَزْدَقُ الشَّاعِرُ امْرَأَتَهُ فَتَبِعَتْهَا نَفْسُهُ وَنَدِمَ عَلَى طَلَاقِهَا. فَقَالَ:
نَدِمْتُ نَدَامَةَ الْكُسَعِّي لَمَّا ** غَدَتْ مِنِّي مُطَلَّقَةً نَوَارُ
وَكَانَتْ جَنَّتِي فَخَرَجْتُ مِنْهَا ** كَآدَمَ حِيْنَ أَخْرَجَهُ الضِّرَارُ
فَكُنْتُ كَفَاقِئٍ عَيْنَيِهْ عَمْدًا ** فَأَصْبَحَ مَا يُضِئُ لَهُ النَّهَارُ
وَلَوْ أَنِّي مَلَكْتُ يَدِي وَقَلْبِي ** لَكَانَ عَلَيَّ لِلْقَدَرِ الْخِيَارُ
وَمَا طَلَّقْتُهَا شِبَعًا، وَلَكِنْ ** رَأَيْتُ الدَّهْرَ يَأْخُذُ مَا يُعَارُ
نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنَا الْعِلْمَ النَّافِعَ، وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ؛ أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الطَّلَاقَ مَشْرُوعٌ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَمَدْعُوٌّ إِلَى اتِّخَاذِ قَرَارِهِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْحِلُّ إِلَّا بِهِ، وَهُوَ مُبَاحٌ وَلَكِنْ عَبْرَ التَّعَقُّلِ وَالتَّرَيُّثِ، وَلَيْسَ عَبْرَ الْهَوَى وَالتَّعَجُّلِ، وَهُوَ لِلزَّوْجِ إِذَا كَانَ حَلًّا لِمُشْكِلَةٍ، وَلَيْسَ سَبَبًا لِابْتِدَاءِ مُشْكِلَاتٍ، وَهُوَ مُبَاحٌ إِذَا كَانَ بِالْعَدْلِ لَا بِالظُّلْمِ، وَلِإِعَادَةِ الْبِنَاءِ وَلَيْسَ لِهَدْمٍ لَا يَقُومُ بَعْدَهُ بِنَاءٌ؛ وَلِهَذَا فَإِنَّ الطَّلَاقَ فِي شَرِيعَتِنَا الْإِسْلَامِيَّةِ لَهُ مَقَاصِدُ يَقُومُ عَلَيْهَا، وَغَايَاتٌ حَمِيدَةٌ يَرْمِي إِلَيْهَا، فَمِنْ تِلْكَ الْمَقَاصِدِ الْحَكِيمَةِ:
رَفْعُ الْمَشَقَّةِ عَنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ؛ فَقَدْ يَبْقَى أَحَدُهُمَا فِي رَابِطَةٍ تَخْنُقُهُ، وَعِشْرَةٍ حَيَاتِيَّةٍ تُوجِعُهُ، وَيُدَافِعُ ذَلِكَ الشُّعُورَ الْكَارِهَ زَمَنًا وَلَكِنَّهُ يُعَاوِدُهُ وَيُلِحُّ عَلَيْهِ بِالْفِرَاقِ، فَكَانَ مِنْ تَيْسِيرِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ دَفْعُ هَذِهِ الْمَشَقَّةِ، كَمَا دَفَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَنِ امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- "أَنَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ سَهْلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- كَانَتْ عِنْدَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، فَأَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ، مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ" وَفِي رِوَايَةٍ: "وَلَكِنِّي لَا أُطِيقُهُ بُغْضًا"، فَدَعَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَابِتًا، فَقَالَ: خُذْ بَعْضَ مَالِهَا وَفَارِقْهَا"، فَقَالَ: وَيَصْلُحُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: فَإِنِّي أَصْدَقْتُهَا حَدِيقَتَيْنِ وَهُمَا بِيَدِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟"، قَالَتْ: نَعَمْ".
وَمِنْ مَقَاصِدِ الطَّلَاقِ فِي الْإِسْلَامِ: الْإِبْعَادُ عَنِ الْأَضْرَارِ النَّفْسِيَّةِ وَالصِّحِّيَّةِ؛ فَكَمْ مِنْ حَيَاةٍ زَوْجِيَّةٍ مُكَدَّرَةٍ كَثُرَتْ فِيهَا الْأَمْرَاضُ النَّفْسِيَّةُ، وَتَعَمَّقَتْ فِيهَا الْأَسْقَامُ الْجَسَدِيَّةُ، فَلَا يَزِيدُ الزَّمَانُ تِلْكَ الْآلَامَ إِلَّا امْتِدَادًا، وَلَيْسَ مِنْ دَوَاءٍ لِهَذَا الدَّاءِ إِلَّا الْفِرَاقُ بِمَعْرُوفٍ، فَكَانَ هَذَا مِنْ مَقَاصِدِ الطَّلَاقِ فِي الْإِسْلَامِ.
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَامُ: إِنَّ الطَّلَاقَ فِي شَرِيعَتِنَا الْغَرَّاءِ -بِاعْتِبَارِ إِيقَاعِهِ- قَسَّمَهُ الْعُلَمَاءُ -بِالنَّظَرِ إِلَى مُوَافَقَتِهِ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمُعَارَضَتِهِ لَهَا- إِلَى قِسْمَيْنِ:
الطَّلَاقُ السُّنِّيُّ، وَالطَّلَاقُ الْبِدْعِيُّ؛ فَالطَّلَاقُ السُّنِّيُّ: هُوَ مَا وَافَقَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ طَلَاقُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ طَلْقَةً وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ، ثُمَّ يَتْرُكُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا. وَدَلِيلُ هَذَا قَوْلُهُ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ)[الطَّلَاقِ:1].
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ سَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ".
وَأَمَّا الطَّلَاقُ الْبِدْعِيُّ فَهُوَ: مَا خَالَفَ شَرْعَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَمِنْ صُوَرِهِ: أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ حَالَ حَيْضِهَا أَوْ نِفَاسِهَا، وَهَذَا سَيُؤَدِّي إِلَى تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا، كَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ حَالَ حَيْضِهَا تَكُونُ مُتَغَيِّرَةَ الْأَخْلَاقِ، وَهَذَا قَدْ يَدْفَعُ الزَّوْجَ إِلَى تَطْلِيقِهَا، فَكَانَ مِنَ الْحِكْمَةِ الشَّرْعِيَّةِ: مَنْعُ الطَّلَاقِ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَمَا أَحْكَمَ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ يَا عِبَادَ اللَّهِ!.
وَمِنْ صُوَرِهِ أَيْضًا: أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ، وَالطَّلَاقُ فِي هَذِهِ الْحَالِ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى النَّدَمِ الشَّدِيدِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهَا قَدْ تَحْمِلُ فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ فَتَطُولُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَتُمْنَعُ بِهِ مِنَ الزَّوَاجِ، وَالزَّوْجُ قَدْ يَتَحَمَّلُ نَفَقَاتٍ كَثِيرَةً، وَيَنْدَمُ عَلَى وَلَدِهِ الَّذِي طَلَّقَ أُمَّهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[النِّسَاءِ:26].
عِبَادَ اللَّهِ: تَفَقَّهُوا فِي دِينِ اللَّهِ وَمَا يُصْلِحُ حَيَاتَكُمُ الزَّوْجِيَّةَ، وَاعْرِفُوا الطَّلَاقَ وَحُكْمَهُ، وَمَقَاصِدَهُ وَأَنْوَاعَهُ؛ حَتَّى تَكُونُوا عَلَى بَصِيرَةٍ وَهُدًى، وَمَعْرِفَةٍ مُنِيرَةٍ حَتَّى لَا تَسْلُكُوا الطَّرِيقَ الْخَطَأَ.
نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُبَصِّرَنَا بِدِينِنَا، وَيُعَلِّمَنَا حُدُودَ شَرْعِ رَبِّنَا.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ:56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى النِّعَمِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
التعليقات