عناصر الخطبة
1/منزلة الصلاة في الإسلام وأثرها على الأمة 2/أقسام الناس تجاه الصلاة 3/بعض الأدلة على كفر تارك الصلاة 4/عقوبة الكفار يوم القيامة 5/خطورة تأخير الصلاة عن وقتها وبعض النصوص في ذلك 6/نماذج رائعة في محافظة السلف على الصلاة 7/بعض ما جاء من الوعيد في النوم عن صلاتي الفجر والعصر 8/وجوب صلاة الجماعة والأدلة على ذلكاهداف الخطبة
اقتباس
أيها المسلمون: ولو استعرضنا أحوال الناس ومواقفهم من الصلاة لوجدناهم أصنافاً وأحزاباً: (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)[المؤمنون: 53] فأما صنف من الناس، فقد غرتهم أنفسهم، وغرتهم الحياةِ الدنيا، وظنوا أنهم إلى ربهم لا يرجعون، هؤلاء لا يعرفون للصلاة قيمةً ولا وزناً، فلا ...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله ...
أما بعد:
أيها المسلمون: ففي أعقاب معركة اليرموك الشهيرة، وقف ملك الروم يُسائل فلول جيشه المهزوم، وقف يسائلهم والمرارة تعتصر قلبه، والغيظ يملأ صدره، والحنق يكاد يُذهب عقله: ويلكم أخبروني عن هؤلاء الذين يقاتلونكم أليسوا بشراً مثلكم؟ قالوا: بلى أيها الملك، قال: فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثر منهم في كل موطن، قال: فما بالكم إذن تنهزمون؟ ما بالكم تنهزمون؟!
فأجابه شيخ من عظمائهم: إنهم يهزموننا؛ لأنهم يقومون الليل، ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويتناصحون بينهم.
صدق -والله- وهو كذوب.
فهذه السجايا الكريمة، وهذه الخصال العظيمة، كانت هي أسباب تلك العزة، وذلكم المجد التليد.
كانت هي الأسباب التي صنعت ملحمة الجهاد الكبرى، ورسمت أقواس النصر الباهرة، وأقامت حضارة الإسلام العالمية، ومكنت القومَ من رقاب عدوهم، حتى دانت لهم الأرضُ وأهلُها، وأتتهم الدنيا وهي راغمة.
هذه الخصال الرفيعة هي التي انتقلت بأسلافنا، تلك النقلة الضخمة من عتبات اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، إلى منازل: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[الفاتحة: 5] حيث الأرواح المتطلعةُ إلى السماء، والنفوسُ السابحةُ في العلياء، ولكن.. ولكن يا لفرحة لم تستمر، ويا لبهجةٍ لم تكتمل، فقد تغيرت الأحوال، وهوت الأمة من عليائها، لتستقر في غبرائها، وأصبحنا نحن الذين نتسائل اليوم: لماذا نهوي ويرتفع خصومنا؟
الجواب -أيها الأحبة في الله- كيف لا يكون ذلك، وقد ضاعت تلك الخصال الرفيعة، والقيم السامية، وليت الأمر توقف عند ذلك، ليت الأمر توقف عند قيام الليل الذي أضعناه، وصيام النهار الذي افتقدناه، لهان الأمر، وما هو بهين -ورب الكعبة- ولكننا أضعنا ما هو أكبر من ذلك بكثير، فالصلاة المفروضة عماد الدين، وركنه الركين، أصبحت اليوم محل استخفاف البعض، وسخريتِهِم واستهزائهم وتندرِهِم.
فهي ضائعةٌ مهملةٌ لدى الكثيرين، منسيةٌ مؤخرةٌ لدى آخرين، وتفعل في غير الجماعة لدى الباقين، وما أشد خوفي أن يكون بعضنا قد اقترب من وعيد الجبار -جل جلاله-: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)[مريم: 59].
وإذا كنا جادين -أيها الأحبة الكرام- إذا كنا جادين في محاولة إصلاح الأمة، وبعث عزتها من جديد، فنحن مدعوون اليوم إلى بحث هذا الموضوع الشائك، ومناقشة هذه القضية الجلل، ومعالجة هذه المسألة المهمة، كونها من كبريات القضايا، وأمهات المسائل، وذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع فهو شهيد.
أيها المسلمون: ولو استعرضنا أحوال الناس ومواقفهم من الصلاة لوجدناهم أصنافاً وأحزاباً: (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [المؤمنون: 53].
فأما صنف من الناس، فقد غرتهم أنفسهم، وغرتهم الحياةِ الدنيا، وظنوا أنهم إلى ربهم لا يرجعون، هؤلاء لا يعرفون للصلاة قيمةً ولا وزناً، فلا يصلونها بالمرة أو يصلونها أحياناً، أو عند المناسبات فقط، فهم بحاجة -والله- ماسَّه إلى تصحيح أصل الإيمان في قلوبهم، هم بحاجة إلى دعوتهم إلى الإسلام، ومحاولة إقناعهم به كغيرهم من الكفار الخارجين عن دائرة الإسلام، وإطاره المحدود، ومهما كان الحكم قاسياً، فهي حقيقة لا تحتمل الجدال، أو المناقشة، فالذي حكم بكفرهم هو الله ورسوله، فأما الله -جل جلاله- فيقول: (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)[التوبة: 11].
ومفهوم الآية واضح، ويعني باختصار شديد: إن لم يقيموا الصلاة، فليسوا إخوة لنا في الدين-أي أنهم مرتدون خارجون عن الإسلام وأهله- أفهمتم يا من تتركون الصلاة وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم؟!
وفي القرآن الكريم: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)[المدثر: 42-48].
وما حرمانهم من الشفاعة إلا دليل واضح على كفرهم وردتهم، وخسارتهم للدنيا والآخرة، ذلك هو الخُسران المبين.
وأما رسولنا -صلى الله عليه وسلم- فقد أعلنها صريحة لا تقبل التأويل، فقال صلى الله عليه وسلم: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر".
وقال أيضاً: "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة".
وأما عبد الله بن الشخير -رضي الله عنه- فينقل موقف صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-، من تارك الصلاة، فيقول: "ما كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يعدون شيءٌ تركه كفر إلا الصلاة".
وهو كما ترى -أخي المسلم- موقف صارم لا ميوعةَ فيه ولا تردد.
فترك الصلاة -أيها الناس- كفرٌ وردة، وسفهٌ وجنون.
وأما الذين لا يعرفون الكفر وما معناه، فالكفر جحيم لا ينقضي، وعذاب لا ينتهي، الكفر بئس وعناء، ودماءً وأشلاء، الكفر زفرات وآهات، دموع وعبرات: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ)[الحج: 19-22].
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ)[فاطر: 36-37].
إن ترك الصلاةِ والاستخفاف بها خطأ فادح بكل المقاييس، وجناية مخزية بكل المعايير، لا ينفع معها ندم ولا اعتذار عند الوقوف بين يدي الواحد القهار.
إننا ندعو هؤلاء بكل شفقة وإخلاص، ندعوهم والألم يعتصر قلوبنا خوفاً عليهم، ورأفة بهم، ندعوهم إلى إعادة النظر في واقعهم، ومجريات حياتهم، ندعوهم إلى مراجعة أنفسهم، وتأمل أوضاعهم قبل فوات الأوان.
إننا ننصحهم بأن لا تخدعهم المظاهر، ولا يغرهم ما هم فيه من الصحة والعافية، والشباب والقوة، فما هي إلا سرابٍ بقيعة يحسبهُ الظمآن ماءً، أو كبرقٍ خُلَّب سرعان ما يتلاشى وينطفئ ويزول، فالصحة سيعقبها السقم، والشباب يلاحقه الهرم، والقوة آيلةٍ إلى الضعف، ولكن أكثر الناس لا يتفكرون.
ليتذكر تارك الصلاة أنهم سائرون إلى قبورٍ موحشة، وحفرٍ مظلمة، أنه لا ينفعه ساعتها مالٌ ولا بنون، ولا صديقٌ ولا صاحب.
ليعلمَ تاركَ الصلاة أن أصحابه الذين غرّوه، غرّوه في ترك الصلاة، وإضاعة فريضة الله، وزينوا له محاكاتهم وتقليدهم، ليعلم جيداً أنه حين يفارقهم فلن يذرفوا عليه سوى دموع التماسيح، يعودون بعدها إلى مزاميرهم وطربهم وأُنسِهِم، غير مكترثين به ولا بألفٍ من أمثاله، إنهم أنانيو الطباع، ميتو الإحساس، لا همّ لهم إلا أنفسهم وملذاتهم، ولو فقدوا الآباء والأمهات فضلاً عن الأصحاب والخلان.
فاستيقظ -يا هذا- من غفلتك، وتنبه من نومتك، فالحياةُ قصيرةٌ وإن طالت، والفرحةُ ذاهبةٌ وإن دامت: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)[الانشقاق: 4-6].
الإسلام -يا هؤلاء- ليس بالأسماء والصور، وليس بالدعاوي والأماني، ولكنه قول واعتقاد وعمل.
وأما الدعاوي، فستذهب أدراج الرياح هباءً منثوراً، لا تزيد صاحبها إلا حسرةً وثبوراً.
هذا هو الصنف الأول.
وصنفٌ آخر، يؤخرون الصلاة عن وقتها، فهم يؤدونها حسب أهوائهم، وتبعاً لأمزجتهم، ووفقاً لظروفهم، فإذا كانوا نائمين أدّوها عند الاستيقاظ، وإذا كانوا مشغولين أدّوها عند الفراغ، فالصلاةُ أمرٌ ثانويٌ في حياتهم، وشيءٌ ساذجٌ في أذهانهم، وما يدرى هؤلاء أنهم المعنيون بقوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ)[الماعون: 4-5].
قال مسروق -رحمه الله-: "أي لا يفعلون الصلاة في وقتها المشروع".
وعند البخاري عن الزهري قال: "دخلت على أنس ابن مالك بدمشق، وهو يبكي، فقال: ما يبكيك؟ قال: "لا أعرفُ شيئاً مما أدركتُ إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيعت" -يعني أُخرت عن وقتها-.
فتأمّل -رعاك الله- مشهد صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعيناه تذرفان ألمٌ وحسرة حين أخذ بنو أمية يؤخرون الصلاة عن وقتها، مما أدمى قلوبَ الغيورين على الصلاة، وأسخن دموعهم، وأثارَ حفيظتهم، ومع ذلك كله فقد حرص الأسلاف على أدائها في وقتها المشروع، وإن عرَّضوا أنفسهم لبطشِ بني أمية وانتقامهم، فعند عبد الرزاق عن عطاء أنه قال: "أخّر الوليد بن عبد الملك الجمعة حتى أمسى فجئت فصليتَ الظهر قبل أن أجلس، ثم صليتُ العصر وأنا جالسٌ إيماءً، وهو يخطب".
وأخرج أبو نعيم من طريق محمد بن أبي إسماعيل قال: "كنت بمنى وصحفٌ تقرأ للوليد، فأخروا الصلاة، فنظرت إلى سعيد بن جبير وعطاء يومئان إيماءً، وهم قاعدان".
كما أخرج عن بن عمر: "أنه كان يصلي مع الحجاج، فلما أخر الحجاج الصلاة ترك الصلاة معه".
وهذه آثارٌ عن السلف تبينُ شدة حرصهم على أداء الصلاة في وقتها، بالرغم من شدةِ بطش الوليد، والحجاج بن يوسف الثقفي الذي كان يسفك الدم الحرامَ بمجرد الشبهة.
فالحالة النشاز التي كان يصنعها بنو أمية لم تجعل فقهاء السلف وعلمائهم، لم تجعلهم يوافقونهم في شذوذهم ذاك، ولكنهم حرصوا كل الحرص اجتهدوا غاية الاجتهاد في حفظ صلواتهم وصيانتها ورعايتها، مع أن حرصهم ذاك كان سيكلفهم حياتهم وأرواحهم، فأين المؤخرون اليوم لصلاتهم؟ أين هم عن تلك القمم السامقة، والقدوات النادرة؟ بل أين هم عن غيرة عمر يوم الخندق يوم جاءَ مغضباً حزيناً مهموماً مغموماً بسب المشركين، ويقول: "يا رسول الله ما كدت أُصلي العصر حتى غربت الشمس"؟ أين هؤلاء من غيرة عمرَ هذه".
أما يسأل الواحد نفسه تُرىما الذي أهمه؟ ما الذي أغمه؟ ما الذي أضاق صدره وكدر خاطره وأحزن قلبهُ وألهب فؤاده؟ ثم ما الذي جعله يؤخر الصلاة عن وقتها؟ ألأنه مشغولٌ بسقي حديقة منزله؟ أم لأنه مشغولٌ بإصلاح عطلٌ في سيارته؟ أم لأنه مشغولٌ محرجٌ بضيفٍ ثقيلٍ يتناول الشاي في مجلسه؟!
والجواب: حاشا لله أن تحول أمورٌ تافهةً كهذه بين الفاروق وبين أدائهِ الصلاة في وقتها المعلوم المشروع، ولكن شغله الذي شغله هو جهاده في سبيل الله، ودفاعه عن مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومع ذلك فهو مغضبٌ محزون، مهمومٌ مغموم، فقد كان حبُ الصلاةِ، وحرصهِ عليها يجري في دمِهِ، وينبض مع عروقِه، أليس هو الذي يُطعن بخنجرِ أبي لؤلؤةِ المسموم؟ فيُحملُ إلى بيته بين الحياة والموت، فيقولون: يا أمير المؤمنين، الصلاة الصلاة، فيقول: نعم، الصلاة.
"لاحظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة".
لم ينس المسلمون الصلاة، ولم ينسها عمر مع شدة الكرب، وهولُ الفجيعة.
وإن تعجب -أخي المسلم- من مواقف عمر هذه، فعجب من موقف بن الزبير والحجاج محاصرٌ لهُ في البيت الحرام، ويتخلى عنه أكثرَ أعوانه، فلا يمنعه ذلك من النهوض إلى مصلاه في كل وقت غير مكترثٍ ولا مبال بعدوهِ الحقود الذي كان يطلبُ حياته بأي ثمن، حتى لو أُحرقت الكعبة، وسالت أروقة المسجدِ الحرامِ دماً زكياً، ولعمر الحق ما ترك ابن الزبير صلاة واحدة في وقتها طيلةَ حصارِ الحجاج له، حتى هوت عليه قذيفةٌ ألزمته الأرضَ بعد ذلك، لقد كانوا يقدرون الصلاة حقَ قدرِها، ويرعونها حقَ رعايتِها، ويؤدونها في أوقاتها مهما أدلهم الخطب، وتأزمت المواقف، ولماذا لا يؤدونها في أوقاتها وصوتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجلجل في آذانهم، ويصولُ في قلوبهم، وهو يقول كما عند البخاري من حديث بريدة: "من ترك صلاة العصرِ فقد حبط عمله"؟
فرحماك يا إلهي من ترك صلاة واحدة حبط عمله، فكيف بمن ترك صلاتين أو ثلاثة أو خمس صلوات كل يوم؟!
فاتقوا الله يا من تؤخرون الصلاة عن وقتها، وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم، فاستيقظوا من سباتكم -يا هؤلاء-، وأفيقوا من أحلامكم، واعتقوا رقابكم من غضب الله، وناره وجحيمهِ ونكالِه.
وأما النائمون عن صلاة الفجر والعصر خاصة، فعند البخاري وأحمد من حديث سمرة قال صلى الله عليه وسلم من حديث الرؤية الطويل: "أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق، فانطلقت معهما، وإنَّا أتينا على رجلٍ مضطجع، وإذا آخر قائمٌ عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة على رأسه، فيثلغ رأسه، ثم يتبع الحجر، فيأخُذَه فلا يرجع إليه، حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعودُ عليه فيفعل به مثل ما فعل المرةِ الأولى".
وفي آخر الحديث: أُوِّلَ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا الذي يضربُ رأسهُ بالصخرة، فقيل له: "هو الرجلُ يأخذُ القرآنُ فيرفضُه، ثم ينام عن الصلاةِ المكتوبة".
أرأيت يا من تنام عن الفجر، ويا من تنام عن العصر: أرأيت ماذا ينتظرك من العذاب وأنت غافلٌ لاهٍ لا تدري ماذا يرادُ بك؟ وماذا يهيأ لك؟
فاتقِ الله، وألقِ عن نفسك الكسل والخمول، فالمسألة ليست أحاديثُ صبيان، ولا ألاعيب مراهقين، ولكنها جدٌ -وربِ الكعبة-، وإن غداً لناظرهِ لقريب.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما في كتابه وسنة نبيه من الآيات والذكرِ الحكيم.
أقولُ ما تسمعون، وأستغفرِ الله لي ولكم فاستغفروه...
الخطبة الثانية:
الحمد لله يعطي ويمنع، ويخفِضُ ويرفع، ويضرُ وينفع، ألا إلى الله تصيرُ الأمور، وأشهد أن لا اله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
أما بعد:
أيها الناس: فأما الصنفُ الثالث من الناس، فهم حريصون كل الحرصِ على أداء الصلوات في أوقاتها في كل حماسٍ وإصرار، ولكن حماسهم يخبو، وإصرارهم يضعُف عن أداء الصلاة مع جماعة المسلمين في المساجد، فإبراءً للذِّمة، وإخلاءً للعهدة أمام الله -تبارك وتعالى- نسوقُ إليهم هذه الأدلة الثابتة، والحجج الراسخة، التي تؤكد وجوب صلاة الجماعة في المساجد، وأن من يظنُ غير هذا فهو يعيشُ وهماً كبيراً، ويرتكبُ خطأً فادحاً، وفي مقدمة تلك الأدلةِ وأبلغها أثراً: ما أوجبه الله -تعالى- على المجاهدين، وهم يخوضون غمارَ المعركة، في أحلك ساعات النزال، ما أوجبه الله -تعالى- عليهم من لزوم الجماعة، فهو القائل جل وعلا: (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ)[النساء: 102].
أرأيت أيها المبارك؟أرأيت كيف فرض الله الجماعة في أحلك الظروف، وأحرج المواقف؟
طائفةٌ تصلي، وأخرى تحرس، ثم تتغير المواقف، فالتي كانت في الصلاة تنتقلُ للحراسة، والتي كانت في الحراسة تنتظمُ للصلاة جماعة.
كل ذلك والعدو متربصٌ متحفز قد أقبلَ بخيلِهِ ورجَلِه، وقظِهِ وقضيضِه.
تأمل -أيها الأخُ الكريم- بعين الإنصافِ والتجرد، كيف أوجب الله الجماعة في تلك الظروفِ العجيبة، حيثُ تخضبت السيوفِ بدمائِها، وتطايرت الرؤوسُ عن أعناقِها؟ فكيف يكون الحال إذن في الآمنين في بيوتهم المطمئنين بين نسائهم وذراريهم؟
ندعُ الإجابة لك -أيها الحبيب- فما نحسبُك إلا منصفاً، تقول الحق ولو على نفسك.
أما الحديث المتفق على صحته، ففيهِ يقول عليه الصلاة السلام: "لقد هممتُ أن آمر بالصلاة، فتقام ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلقُ معي برجالٍ معهم حزمٌ من حطب إلى قومٍ لا يشهدون الصلاة -يعني لا يشهدون الجماعة- فأُحرِّق عليهم بيوتهم بالنار".
وجاء بصيغةِ: "أُحرِّق"؛ لإفادة التكثير والمبالغة.
يا سبحان الله! رسول الله الذي وصفهُ ربُه بأنه بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم، يهمُّ بإحراق البيوتِ على أهلها حين تَخَلّوا عن الجماعة، فأي شيءٍ يدلُ عليه ذلك إلا أنها واجبةً متعينة في المسجد، وأن أداءها في البيوت ذنبٌ عظيمٌ، وجرمٌ خطير، وخطأٌ فادحٌ بكل المقاييس؟ كيف لا، وقد جاءَ عن بن عباس -رضي الله عنه مرفوعاً-: "من سمع النداء فلم يأتهِ فلا صلاة له إلا من عذر"[رواه الحاكم، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي"].
وعند أبي داود وابن حبان: "قالوا: يا رسول الله وما العذرُ؟ قال: "خوفٌ أو مرض".
إذن، فليس من العذرِ في تركِ الجماعة -يا مسلمون- حبُ الراحة والاسترخاء، أو شربُ القهوةِ أو الشاي، أو مطالعةُ الصحف والمجلات، أو استقبال الضيوفِ، أو تودعيهم، بل ليس من العذرِ في ترك الجماعة قراءة القرآن، أو الطواف بالبيت الحرام.
وأي عذرٍ لهؤلاء، وقد جاء الأعمى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-يشكو بُعدَ دارِه، ووعورة طريقه، وفقدانهِ لقائدٍ يلائمه، ويسألُ رخصةً أن يصلي في بيته؟ فيقول له الرؤوف الرحيم -عليه الصلاة السلام-: "أتسمع النداء؟" قال: نعم، قال: "أجب، فإني لا أجدُ لك رخصة".
أفتكونُ الرخصةُ إذن لذوي السمع القوي والبصر الحاد؟! أفتكون الرخصة لمن أحاطت بهم المساجد من كل جانب، وذللت لهم الطرق، وعبدت لهم الشوارع؟!
سبحانك هذا بهتانٌ عظيم.
فاتقوا الله -أيها الزاهدون في الجماعة- وتذكروا حال أسلافكم كيف كانوا شديدي الاهتمام بها، عظيمي الخوفِ عليها، تذكروا موقف الخليفة الشهيد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وقد حاصره السبئيون في المدينة، يطلبون دمه، ويمنعونه من إمامة الناس، فلا يمنعه حصارهُم إياه، وظلمهم له، وخروجهُم عليه، من الصلاة خلفهم، حرصاً على الجماعة، وإبراءً للذِّمّة.
فعند البخاري من حديث عبيد الله بن عدي: أنه دخلَ على عثمان وهو محصورٌ، فقال له: يا إمام إنك إمامُ عامّه، ونزلَ بنا ما ترى، ويصلي لنا إمامُ فتنة فنتحرج، فقال رضي الله عنه: "الصلاةُ أحسنُ ما يعملُ الناس، فإذا أحسن الناس فأحسنوا، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم".
أيها المسلمون: لقد آن الأوان أن نُعيد النظر في أوضاعنا، ونصحح مفاهيمنا وأخطائنا، ونُقِّومَ سلوكنا وتصرفاتِنا، فنحن أمةٌ خلقت لتكون قائدة، ووجدت لتكون رائدة، القيادة والريادة لا تحصلانِ لأمةٍ مازالت تناقش أعظمَ شعائر دينها، هل هي واجبةٌ في الجماعة أم لا؟ وهي مسألةٌ محسومة منذُ زمنٍ طويل، محسومة في كتاب الله، وسنة نبيه، بكل إشراقةٍ ووضوح، فلماذا يصرُ أقوامٌ على الجدالِ بالباطل والمدافعة بغير الحق جرياً وراء شذوذات بعض الفقهاء، وموافقةً لدواع النفس والهوى.
ألا إنها دعوة إلى عمارة بيوت الله بالذكر والتسبيح، وصلاة الجماعة.
ألا إنها دعوة إلى الجنة فوقَ مراكبَ من التُقى، والعمل الصالح، والتوبة النصوح: (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)[يوسف: 21].
اللهم رحمة اهد بها ...
وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى علن الفحشاء والمنكر، والله أكبر، والله يعلمُ ما تصنعون.
التعليقات