اقتباس
تحول المسلمون إلى ضفاف بحر المرمره واستمروا في حصار المدينة بحرًا من أبريل إلى سبتمبر، وعند الشتاء يخيموا في جزيرة كيزكوس، وظلوا على هذا الحال من سنة 55هـ حتى سنة 60هـ، في حصار وقتال مستمر من أجل فتح القسطنطينية، ولكن مع انتشار الأمراض والأوبئة في صفوف الجيش الإسلامي بدأت العزائم تقل وقرروا في النهاية الانسحاب بعد أن فقدوا في تلك الملحمة زهاء ثلاثين ألف مقاتل منهم عدد من الزعماء والصحابة مثل أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -.
أثارت الصلاة التي أقامها الأتراك على أبواب مسجد أيا صوفيا باسطنبول منذ أيام الكثير من الشجون، وحركت كثيرا من الذكريات عن أمجاد السابقين، وتاريخ الفاتحين، وأعادت للأذهان شكل الخلافة الإسلامية وهي تحكم العالم القديم، ونفوذها وراياتها ترفرف على الكثير من البلدان والممالك في القارات القديمة الثلاث . كما حركت أيضا كثيرا من الضغائن والأحقاد الدفينة عند الصليبيين في أوروبا والغرب ممن تأججت عندهم نار الماضي المهين والهزائم المريرة . فهل يعلم المسلمون اليوم كيف كان طريق المسلمين إلى فتح القسطنطينية قبل أن يدخل السلطان العظيم محمد الفاتح كنيسة أيا صوفيا سنة 857 هـ ـ 1453 م ويحولها إلى جامع القسطنطينية الكبير الذي صار بعد ذلك رمز الدولة العثمانية الرسمي، ومحل تنصيب الخلفاء ؟ في هذه المقالة نرسم معا الطريق إلي القسطنطينية منذ عهد الراشدين إلى عهد محمد الفاتح
معركة القسطنطينية الأولى (54 هـ ـ 673 م):
وثب المسلمون وثبتهم الأولى بالدولة البيزنطية القديمة وانتزعوا درة مستعمراتها في مصر والشام وإفريقية ( تونس )، ثم قارعوهم في عباب البحر المتوسط، وأحكموا سيطرتهم على الممرات المائية وجزر البحر المتوسط. ومنذ أن كان معاوية بن أبي سفيان واليًا على الشام وهو يتبع نظام الغزو في الصيف والشتاء أو ما كان يطلق عليه نظام الصوائف والشواتي على الحدود البيزنطية، من أجل التمهيد لأكبر أهداف الدولة الإسلامية، إلا وهو فتح القسطنطينية والقضاء على الدولة البيزنطية القديمة الخصم الأكبر للدولة الإسلامية، بعد سقوط الإمبراطورية الفارسية سنة 30هـ.
وكانت أول محاولة قام بها المسلمون لفتح القسطنطينية في أواخر سنة 32هـ/ 653م في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقصدها من البر جيش بري بقيادة معاوية والي الشام، فاخترق آسيا الصغرى حتى ضفاف البسفور، وفي نفس الوقت انطلق أسطول إسلامي يقوده بسر بن أرطاة من طرابلس الشام نحو القسطنطينية، وهزم الأسطول البيزنطي المرابط تجاه جبل فينقية، ولكن لسوء الأحوال الجوية لم يستطع الأسطول الإسلامي مواصلة القتال فاضطر للرجوع، وبالتالي فشلت الحملة البرية أيضًا والتي كانت تعتمد على مساعدة الحصار البحري في فتح المدينة.
توقفت حركة الجهاد قليلاً بسبب أحداث الفتنة ثم ما لبثت أن عادت للدوران بعد عام الجماعة سنة 41 هـ، واستأنف معاوية العمل بنظام الصوائف والشواتي، فتحرك بسر بن أرطاة سنة 44هـ، ثم شاتية مالك بن عبيد الله سنة 46 هـ، وشاتية مالك بن هبيرة سنة 47هـ، وصائفة عبد الله بن قيس الفزاري بحرًا، وغزوة عقبة بن عامر الجهني بأهل مصر بحرًا سنة 48هـ، وفي سنة 49هـ أرسل معاوية حملة برية ضخمة بقيادة سفيان بن عوف ثم أردف بعده ابنه يزيد بعدما أصاب المسلمين في غزاتهم جوع ومرض شديد، وقد اشترك العديد من كبار الصحابة في هذه الغزوة مثل ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبي أيوب الأنصاري، وقد أوغلت هذه الحملة حتى بلغ المسلمون أسوار القسطنطينية واشتبكوا مع البيزنطيين في قتال عنيف كان الأول من نوعه تحت أسوار القسطنطينية، واستشهد الكثير من المسلمين، وقد توفى أبو أيوب الأنصاري أثناء الحصار ودفن تحت أسوار المدينة، وقد عاد يزيد بن معاوية بعد ذلك بالجيش إلى الشام.
لم يفت ما جرى في حملة سفيان بن عوف ويزيد بن معاوية على القسطنطينية سنة 49هـ في عضد الخلافة الإسلامية، وظل المسلمون على نظام الصوائف والشواتي برًا وبحرًا حتى استطاع الأسطول المصري فتح أزمير ثم ثغر ليكيا، كما فتحوا جزر رودس وكوس وخيوس، وبالتالي أصبح لدى المسلمين قاعدة هجومية متقدمة في الأراضي البيزنطية. في سنة 54هـ بدأ المسلمون أعظم معاركهم البحرية بمحاصرة القسطنطينية برًا وبحرًا بأعداد ضخمة، ولبثوا عدة أيام من الفجر إلى المساء يهاجمون واجهها الشرقية حتى القرن الذهبي، ولكن لمناعة أسوار المدينة وتحصيناتها القوية فشل المسلمون في اقتحامها، واشتبك الأسطول الإسلامي بقيادة جنادة بن أبي أمية مع الأسطول البيزنطي في معركة حامية دون نصر حاسم.
اضطر المسلمون لرفع الحصار عن القسطنطينية عندما حل الشتاء، وأقام المسلمون في جزيرة أرواد انتظارًا لحلول الربيع لكي يستأنفوا عملياتهم، الحربية، ثم عاودوا القتال في الربيع وضربوا الحصار المحكم على المدينة، واستبسل البيزنطيون في الدفاع عن مدينتهم، ولكن كان لسلاح النار اليونانية كلمة الحسم في صمود المدينة، والنار اليونانية عبارة عن خليط كيميائي من الكبريت والقار والأحماض، يزداد اشتعالاً عند ملامسته الماء، ولا يخمد إلا باستخدام الرمل والخل، وهي من اختراع مهندس سوري الأصل، وقد فتكت تلك النار بسفن المسلمين وصفوفهم وعتادهم.
تحول المسلمون إلى ضفاف بحر المرمره واستمروا في حصار المدينة بحرًا من أبريل إلى سبتمبر، وعند الشتاء يخيموا في جزيرة كيزكوس، وظلوا على هذا الحال من سنة 55هـ حتى سنة 60هـ، في حصار وقتال مستمر من أجل فتح القسطنطينية، ولكن مع انتشار الأمراض والأوبئة في صفوف الجيش الإسلامي بدأت العزائم تقل وقرروا في النهاية الانسحاب بعد أن فقدوا في تلك الملحمة زهاء ثلاثين ألف مقاتل منهم عدد من الزعماء والصحابة مثل أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -.
معركة القسطنطينية الثانية ( 98 هـ ـ 717 م ):
لم يثبط الفشل الذي صاحب محاولات الصحابة في فتح القسطنطينية أيام معاوية - رضي الله - عنه عزم خلفاء بني أمية في مواصلة السعي لفتح العاصمة القديمة، وكانت محاولات الخلافة لغزو القسطنطينية تحمل أهدافًا أكبر من فتح عاصمة الدولة الشرقية القديمة، حيث كانت ترمي لعمل دعوة الإسلام إلى الأمم النصرانية في أوروبا كلها.
أسباب معركة القسطنطينية الثانية:
لضخامة المشروع وخطورته أخذ خلفاء مروان بن الحكم في إعداد العدة اللازمة وعمل دراسة وافية تتلافى أخطاء المرة السابقة، ولكن تضافرت بعض الأسباب والعوامل التي ساعدت على دخول المشروع حيز التنفيذ الفعلي، من هذه الأسباب:
1- الطفرة الكبيرة التي حدثت في حركة الفتوحات الإسلامية على الجبهة الغربية، حيث استطاع المسلمون الوصول إلى أقصى المعمورة المعلومة ناحية الغرب، ثم وثبوا وثبتهم الكبرى وفتحوا الأندلس سنة 92هـ بقيادة موسى بن نصير وطارق بن زياد، واقتحم المسلمون جبال البرانس [ ألبرت] واكتسحوا جنوب فرنسا، وقد فكر موسى بن نصير أن يخترق أوروبا من الغرب إلى الشرق ويصل إلى دمشق من طريق القسطنطينية، وكانت تلك الفكرة العبقرية إشارة بدء للتفكير في إعادة الهجوم على العاصمة القديمة.
2- وصول الدولة الأموية لذروة مجدها وقوتها في أواخر عهد الوليد بن عبد الملك وأوائل عهد أخيه سليمان، وبلغت أقصى اتساعها ناحية المشرق والمغرب، وكان الوليد بن عبد الملك قد اتبع سياسة تقوية الأسطول الإسلامي وعمل على تدعيم التعاون بين القوتين البرية والبحرية وتهيئة الأجواء الملائمة للعمليات الحربية ضد الإمبراطورية البيزنطية، وذلك باتخاذ منطقة الثغور بآسيا الصغرى مجالاً لتدريبات قواته، وكان الوليد نفسه يخطط لغزو القسطنطينية وأعد العدة كاملة لذلك الهدف العظيم ولكن المنية عاجلته قبل أن يدخل مشروعه حيز التنفيذ.
3- انتشار الانحلال والفوضى والضعف داخل الدولة البيزنطية، بسبب الصراع على كرسي الإمبراطورية، وغدا عرشها فريسة سهلة لعواصف الولاية والعزل بسرعة، حتى عزل من قياصرتها ستة في نحو عشرين عامًا فقط، واقتحم البلغار والصقالية أقاليمها الشمالية وأشرقوا على أسوار العاصمة، واقتحم المسلمون آسيا الصغرى ، وامتدت غزواتهم إلى ضفاف البسفور، وكانت القسطنطينية حينما ارتقى سليمان كرسي الخلافة مسرحًا للثورة والحرب الأهلية، وقد تعاقب على عرشها ثلاثة من القياصرة الغاصبين في ستة أعوام فقط.
تفاصيل المعركة:
ورث سلميان ملكًا قويًا وخطة جاهزة للهجوم على القسطنطينية، وكان بعض المشايخ قد ذكر له أن الذي سيفتح القسطنطينية اسمه اسم نبي، ولم يكن في خلفاء بني أمية من ينطبق عليه هذا الوصف غيره، فقوى عزمه وأجمع رأيه على الغزو، ومهد لذلك بغزوة بحرية بقيادة عمر بن هبيرة الفراري على ثغور الدولة سنة 97هـ، كشفت عن استعدادات قوية من جانب البيزنطيين تحسبًا للهجوم الإسلامي، وتحصينات دفاعية متينة، كما كشف تلك الغزوة عن تقوية البيزنطيين للدفاع البحري تمهيدًا واستعدادًا لحصار قد يطول أمده كما حدث في الحصار الأول.
في سنة 98هـ حشد سليمان بن عبد الملك قوات ضخمة في البر والبحر وزودها بكميات هائلة من المؤن والذخائر والعدد وآلات الحصار لحرب الصيف والشتاء، وخرج على قيادة هذا الجيش العرمرم حتى وصل إلى مرج دابق، وأقام سليمان بها وأعطى الله عز وجل عهدًا :أن لا ينصرف حتى يدخل الجيش الذي وجهه إلى القسطنطينية، وانتدب أخاه مسلمة بن عبد الملك الملقب بالجرادة الصفراء لكثرة غزواته بأرض الروم لقيادة الحملة، وأمره ألا يبرح القسطنطينية حتى يفتحها أو يأتيه أمره.
انطلق مسلمة في أوائل سنة 98هـ- أكتوبر سنة 716م مخترقًا هضاب الأناضول فافتتح عدة من مدن العدو وحصونه، ثم قصد عمورية قاعدة الأناضول فحاصرها تمهيدًا لفتحها، وكان حاكم عمورية داهية من دواهي العسكرية الرومية اسمه "ليون" وكان جنديًا مغامرًا وافر الذكاء والجرأة، وكان يتطلع إلى عرش القسطنطينية ويدبر أمره لانتزاعه من الإمبراطور "تيدوس".كان ليون انتهازيًا من الطراز الأول فقرر الاستفادة من الهجوم الإسلامي ،وتردى الأحوال الداخلية في بيزنطة للوصول إلى بغيته ومآربه، فاتصل بقائد الحملة الإسلامية مسلمة بن عبد الملك وتفاهم معه على خطة تسليم القسطنطينية نظير أن يحكمها ليون باسم المسلمين ولم يكن ليون يقصد من ذلك تسليم المدينة قط للمسلمين ولكن يمهد الطريق لنفسه بإضعاف قوات الدولة وشغلها برد الهجوم الإسلامي. وبالفعل نجح ليون في خطته الماكرة ونادى بنفسه قيصرًا في عمورية، ثم سار على رأس قواته صوب القسطنطينية وهزم الجيش الذي بعثه القيصر "تيدوس" ودخل ليون القسطنطينية بجيشه الظافر وبويع قيصرًا للبلاد، ونظم المقاومة استعداد للهجوم الإسلامي.
اغتاظ مسلمة من خديعة ليون له بعد أن ساعده على نيل القيصرية، فسار بجيشه الزاخر صوب المدينة، وسار الأسطول إلى مياه المرمرة، وأظهر الخليفة سليمان منتهى العزم والأهبة، وأمد أخاه مسلمة بقوات أخرى حشدها من جميع الجهات والثغور، فأشرف مسلمة بن عبد الملك على القسطنطينية في قوة من أكبروا أعظم القوى التي حشدها المسلمون على أوروبا النصرانية. عبر مسلمة البحر عند أبيدوس حيث التقى بالأسطول الإسلامي، ثم نقل جيشه إلى الضفة الأوروبية للدردنيل، وسار على ضفاف المرمرة حتى القسطنطينية، وطوقها من البر والبحر بقوات ضخمة، ونصب عليها المجانيق العملاقة، وحاول المسلمون بادئ الأمر اقتحام المدينة بأسلوب الصاعقة، ولكن أسوار المدينة المنيعة وقوة الدفاع البيزنطي وفعالية النار اليونانية ردت الهجوم الإسلامي، وعندها عول مسلمة على الحصار المحكم.
شدد المسلمون الحصار على المدينة وقطعوا جميع علائقها من البر، وحفروا حول معسكرهم خندقًا، وأقاموا حوله سدًا منيعًا، وانطلقت السرايا من الجنود لتدمير المزارع والمروج المحيطة لمنع دخول الأقوات لداخل المدينة، كما قطع الأسطول علائق المدينة من البحر.
كان الأسطول الإسلامي من أضخم الأساطيل التي عرفتها البحرية الإسلامية، إذ بلغت سفنه طبقًا لبعض الروايات ألف وثمانمائة سفينة كبيرة للقتال والنقل، وكان أمير الأسطول هو سليمان بن معاذ الأنطاكي، فقام بتقسيم الأسطول إلى قسمين كبيرين، رابط أولهما على الشاطئ الأسيوي في ثغري أتربيوس وأنتيموس ليقطع الإمدادات الآتية من بحر إيجة أو الأرخبيل، واحتل الآخر ساحل البسفور الأوروبي تجاه لسان غلطه ليقطع كل صلة للمدينة بثغور البحر الأسود ولاسيما شرمون وطرابزون.
تعرض القسم الثاني للأسطول الإسلامي لهزيمة طارئة بسبب عاصفة بحرية هائلة جعلت سفن المسلمين تصطدم بعضها ببعض، فانتهز البيزنطيون الفرصة وصوبوا نيرانهم اليونانية على سفن المسلمين فأحرقوا كثيرًا منها، فأراد سليمان بن معاذ أن ينتقم لتك الهزيمة العارضة فحشد أقوى سفنه وزودها بخيرة جنده وزحف بأسطول على أسوار المدينة وشن هجومًا ضاريًا وبذل أقصى جهد لاقتحامها، ولكن ليون كان على أهبة الاستعداد فرد الهجوم الإسلامي بسيل من النار اليونانية، فاضطر سليمان لسحب الأٍسطول إلى خليج سوستنيان ،انتظارًا لأوامر القائد العام للحملة مسلمة بن عبد الملك.
بعد فشل هذا الهجوم البحري بدأ المسلمون حصارهم الثاني للقسطنطينية، وكان مسلمة قد جمع الأقوات والغلال مثل الجبال، وبني البيوت الخشبية للجنود حتى لا يشتد عليهم البرد لدنو فصل الشتاء، ولم تمض أسابيع قلائل على بدء الحصار حتى توفى سليمان بن عبد الملك وذلك قبل أن يمد أخاه مسلمة بإمدادات جديدة، ثم دخل فصل الشتاء بقسوته وقره في تلك المناطق الأوروبية، وذهب كثير من خيرة الجند المسلمين ضحية البرد وأهواله، ثم اكتملت المصاعب بوفاة أمير الأسطول سليمان بن معاذ فدب الخلل في صفوف الأسطول.أما البيزنطيون فقضوا الشتاء داخل مدينتهم في دفء وأمان، ورغم قسوة الأوضاع صمد المسلمون حتى دخل الربيع فأرسل الخليفة عمر بن عبد العزيز أسطولاً ضخمًا محملاً بالأقوات من ثغر الإسكندرية، فدخل الأسطول مضيق البسفور ورسا في كالوس أرجوس، ثم جاء في أثره أسطول آخر من تونس ورسا في شاطئ بتنيا شرقي بحر المرمره.
وهنا وقعت خيانة لم تكن في الحسبان، فلقد كان معظم بحارة الأسطول القادم من الإسكندرية ومن تونس من القبط النصارى المرتزقة، فلما وصلوا إلى معسكر المسلمين ورأوا ما هم فيه من ضعف ومرض، تحركت الأحقاد الدفينة في قلوبهم وقرروا التآمر على المسلمين فركب كثير منهم القوارب الصغيرة تحت جنح الظلام، ودخلوا المدينة واجتمعوا مع الإمبراطور ليون وأطلعوه على حقيقة أحوال المعسكر الإسلامي، فانتهز ليون الفرصة وخرج بأسطوله بعد أن زوده بقاذفات النار اليونانية، فانقض على سفن المسلمين وأوقع فيها الاضطراب والخلل، وذلك كله بسبب خيانة القبط.
ازداد وضع المسلمين سوءً بسبب تلك الخيانة، وانعدمت الأقوات، ومع ذلك أصر مسلمة على مواصلة الحصار من ناحية البر، وعمت المجاعة والقحط في المعسكر الإسلامي، ولقي المسلمون أشد صنوف البلاء وأكلوا كل شيء غير التراب، وعندها قرر الخليفة عمر بن عبد العزيز رفع الحصار وعودة الحملة وذلك في المحرم سنة 100هـ، فارتدت الحملة البرية جنوبًا حتى وصلت إلى دمشق، أما الأسطول الإسلامي فقد كان خطه عاثرًا فقد دهمته العواصف في بحر الأرخبيل ففرقت شمله، ثم أكمل سكان جزر بحر الأرخبيل النكبة على الأسطول بنهب ما تبقى من وحداته.
آثار المعركة:
كانت معركة القسطنطينية الثانية فاصلة في مصاير العالم القديم، فلقد كان حصار القسطنطينية مقرونًا بأقصى جهد بذلته الدولة الإسلامية وحشدته من أجله أكبر وأعظم قوة بحرية وبرية في أوائل العصور الوسطى، لذلك كان الفشل فيه إيذانًا بتوقف مشاريع الخلافة نحو التوغل الأوروبي، ولو ظفر المسلمون في معركتهم تلك وفتحوا القسطنطينية لتغير التاريخ الإنساني كله، ونشأت في أوروبا أمم مسلمة، ولساد الإسلام والعربية أمم الشمال.وربما يرجع إخفاق المسلمين في الفتح لحداثة عهدهم بمعارك الحصار البحرية، وقسوة الظروف الجوية على جنود نشأوا في أقاليم حارة، كما حصانة دفاعات القسطنطينية وبراعة أهلها في الدفاع ومهارتهم في استخدام النار اليونانية، كلها أمور أدت لإخفاق المسلمين في تحقيق مشروعهم الطموح.
ويعتبر كل مؤرخي أوروبا معركة القسطنطينية الثانية حدثًا من أهم أحداث التاريخ الوسيط، إذ بقيت الدولة البيزنطية بعدها قرابة الثماني قرون، وظلت تحتفظ بهيبتها أمام دول الغرب الأوروبي لفترة طويلة.
التعليقات