اقتباس
وهو يحتشد لخطبته، يعدُّ لها ويحضِّرها، ويزوِّر الكلام في جنانه قبل أن يتفوه به بلسانه. بل إنه ليبدأ هذا الإعداد والتحضير من لدن فراغه من خطبة سابقة، لا يني ولا يفتر، يجيل الفكر فيما سيقوله في الخطبة اللاحقة، ويتبع الفكر القلم ليضع لخطبته مخططا يُحكم فيه محاورها، ويبرز أركانها، ويعدد فروعها، ويربط كل فرع بأدلته وشواهده وأمثلته، من الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة، والشعر الرائق، والمثل السائر،والحكمة البينة. حتى إذا ارتقى ذرا المنبر هزَّه هزّاً بكلام بليغ، وإلقاء...
لا أعرف فيمن عرفت خطيباً يتوفر على خطبته كما يتوفر عليها الشيخ هشام.
ولا أعرف فيمن عرفت راوية للشعر والحكمة والأدب والطرفة يحفظ منها كما يحفظ الشيخ هشام ويروي منها كما يروي الشيخ هشام.
ولا أعرف فيمن عرفت عالما يتفرّد بالرأي ويقدح في زناد الفكر، ولا يهاب من جهره فيما تفرد أو اجتهد كما يتفرّد الشيخ هشام وكما يجتهد الشيخ هشام.
فملاك أمر الشيخ إذن أمور ثلاثة تميزه فيما أحسب عن كثير ممن عاصره، وهي: خطابة محكمة.. ورواية مرسلة.. وفكر حر أصيل.
أما الخطابة المحكمة فقد شهد لها القاصي والداني، وتوافدت لسماعها والإفادة منها الجموع الغفيرة من كل حدَب وصوب، وحيثما حل الشيخ أو ارتحل، بدءاً بمسجد الفردوس، ومرورا بالبدر وسعد بن معاذ، وانتهاءً بالثناء. وما أظن مسجدا من مساجد الشام يكتظّ فيه المصلون، أو يزدحم رواده في صلاة كما يكتظون ويزدحمون في هذه المساجد التي حل بها الشيخ هشام خطيبا، حتى إن دوريات المرور لتحفُّ بالمسجد من كل جانب تنظم وقوف السيارات، وتتابع الأرتال التي تتكدس في الشوارع المحيطة بالمسجد أو القريبة منه، بل إن بعض الجوار ليتأذى من كثرة الوافدين على تلك المنطقة إبان كل صلاة جمعة.
ولا تحسبن هذه الجموع – على كثرتها واختلافها وتنوع مشاربها ومواردها – من طَغام الناس وغوغائهم، بل هم النخبة علما وثقافة وفهما وحذقا، فيهم الطبيب والمهندس، والقاضي والمحامي، والوزير والسفير، والأستاذ الجامعي والمدرس المتميز، والضابط والطيار، وما لا أحصي من كرام الناس وعلية القوم، يجمعهم جميعا هم واحد هو الفوز بسماع خطبة بأوجز عبارة، وأحلى بيان، وأحسن استدلال، وأحكم تسلسل، وأجمع موضوع.
وكان والدي رحمه الله وأحسن إليه – وهو الأزهري الذي لم ينقطع عن طلب العلم وتعليمه - واحدا من المفتونين بخطبة الشيخ هشام، لاحقه في مساجده الأربعة، برغم كبر سنه وتعسر وجود المكان المريح لمثله، فقدكان يشق طريقه إلى مسجده مبكرا، متوسلا للوصول إليه كل وسيلة ممكنة، لا يصرفه عنه بعد، ولا يقعد دون غايته مرض أو عجز، حتى إنا كنا مرة بصحبته في نزهة بعين الفيجة – وهو منتزه جميل يبعد عن دمشق نحوا من عشرين كيلا- فلما لاحت تباشير الصلاة –أعني صلاة جمعة – هم بالقيام طالبا أن نيمم شطر الشيخ هشام، وأين منا الشيخ هشام، إنه على بعد ساعة من الزمان، وأقسم لولا إلحاحنا لمضى، فخطبة الشيخ عنده أحلى من أحلى سيران، وأجمل من أجمل بستان!
ولا غرو فالشيخ يحترم هذه العقول التي تفد إليه، ويقدرها حق القدر، باذلا وسعه ومستفرغا جهده في سبيل إفادتها بكل مفيد، وإطرافها بكل ماتع وجديد. ما أعلم أني حضرت له خطبة من خطبه، إلا خرجت بعلم غزير، وشعر وفير، وبيان عال، وفصاحة معجبة، وبلاغة مطربة.
وهو يحتشد لخطبته، يعدُّ لها ويحضِّرها، ويزوِّر الكلام في جنانه قبل أن يتفوه به بلسانه. بل إنه ليبدأ هذا الإعداد والتحضير من لدن فراغه من خطبة سابقة، لا يني ولا يفتر، يجيل الفكر فيما سيقوله في الخطبة اللاحقة، ويتبع الفكر القلم ليضع لخطبته مخططا يُحكم فيه محاورها، ويبرز أركانها، ويعدد فروعها، ويربط كل فرع بأدلته وشواهده وأمثلته، من الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة، والشعر الرائق، والمثل السائر،والحكمة البينة. حتى إذا ارتقى ذرا المنبر هزَّه هزّاً بكلام بليغ، وإلقاء محكم، وإعراب لأواخر الكلم، لا يكاد يغفل واحدة منها، حتى تلك التي يقف عليها، إمعانا في البيان، وإبلاغا للكلام، وإحكاما للقول.
وله في الإلقاء عناية بالغة، تشد كل من يستمع إليه، وتأخذ بمجامع لبه، وتملك عليه قلبه وعقله، فهو يشتد في مواطن الشدة، ويلين في مواطن اللين، ويذكرني بعبارو كنت كتبتها في الخطابة جاء فيها: "إن الخطيب الحق هو الذي يأسر سامعه بسلامة لغته.. وعلو بيانه.. وجمال أدائه.. وتناغم صوته مع مضمون كلامه.. يعلو فيه ويجهر في مواضع الإنذار والوعيد حتى كأنه هدير الفحل..أوهزير الريح.. أو هزيم الرعد. ويلين في مواضع اللين والتبشير حتى يمتزج بأجزاء النفس لطافةً.. وبالهواء رقّةً.. وبالماء عذوبةً.. وبالطيب أريجاً..وبالنغم إيقاعاً وجرساً" وكذا هو الشيخ هشام.
فإذا تكلَّم خِلْتَهُ متكلّماً *** بجميع عِدَّةِ أَلْسُنِ الخطباءِ
فكأن آدم كان علّمه الّذِي *** قد كان عُلِّمَهُ مِنَ الأسماءِ
أذكر أنه تناول في إحدى خطبه موضوع القضاء والقدر، فأشفقت عليه وربي من تشعب هذا الموضوع ووعورة مسلكه، ثم راعني فيه أنه بينه وأحكمه وأوجزه في ثلث الساعة التي يلتزم بها في خطبه لا يكاد يزيد عليها إلا دقيقة أو اثنتين، فلما فرغ وجلسنا مجلسنا الذي يخصنا الشيخ به، أثنيت على الخطبة معجبا بحسن إحكامها، وروعة إيجازها، قائلا له: إنه إيجاز قارب حدّ الإعجاز، فأكد لي – حرس الله مهجته – أنه توفَّر عليها أسبوعا كاملا، وكتب فيها ثلاث خطط، لتأتي بهذه الحلة القشيبة.
سحبان يقصر عن بحور بيانه ***عجزاً ويغرق منه تحت عباب
وكذاك قس ناطق بعكاظه *** يعيا لديه بحجة وجواب
ومن بديع أمر الشيخ أنه – على كثرة محفوظه من الشعر ووفرة ما تحصل لديه منه- لا يكتفي بما لديه، بل يتعهده ويزيد دائما عليه، قرأت في مجلة الفيصل مرة أبياتا رقيقة تعبر عن غيرة المرأة من الكتاب، لأنه يزاحمها على الاستئثار بزوجها، مطلعها:
تغار من الكتاب إذا رأتني *** أقلبه وأترك وجنتيها
فلما كانت الجمعة سمعتها من شيخنا على منبر الفردوس، وهي الخارجة لتوها من فرن قائلها،إلا أنه أدخل عليها تعديلا لتليق بالمنبر فقال:
تغار من الكتاب إذا رأتني *** أطالعه ولا أرنو إليها
فعجبت لفطنة لشيخ وقوة حافظته وحضورها، أمتعه الله بها وزاده من فضله.
وصعد المنبر يوما في يوم مثلج، والشام ترفل بحلة بيضاء من غيث السماء، فاستهل خطبته بقصيدة القواس:
طوفانُ ثلجٍ طَغَى، جلَّ الذي خَلَقَا *** ونحن في فُلْكِ نوحٍ، نأمنُ الغَرَقا
أين السماءُ؟ وأين الأرض إنهما ***رَتْقٌ، كما كانتا من قبلِ أن فُتِقا
هلِ الكواكبُ والأفلاكُ عائدةٌ؟! *** وهل نرى قَمَرَيْها بعد أن مُحِقا؟!
لا فوقَ لا تحتَ لا أرجاءَ، قد مُزجَتْ، ***مرأًى جميلٌ، ولكن يبهرُ الحَدَقا
الثلجُ ثوبٌ أنيقٌ، لا يُقاسُ به *** ثوبُ العذارى، وإن غالتْ به أَنقا
قد جلَّلَ الأرضَ، دانِيها وقاصِيَها *** كأنما اللهُ ألقى فوقَها طَبَقا
لما مشيتُ عليه خفْتُ أُفسدُه *** إن الجمالَ حبيبٌ حيثما خُلِقا
***
وللحديث بقية نلقاكم في مقالة أخرى
التعليقات