عناصر الخطبة
1/ الأفئدة تهوي إلى المحبوبات والملذات 2/ تطلع الإنسان إلى الشرف لا ينتهي 3/ اختلاف الإنسان في معاني الشرف الزائف 4/ سبل الوصول إلى الوجاهات والمناصباهداف الخطبة
اقتباس
كثيرون أولئك الذين يسعون للشرف الزائف من دينهم وأخلاقهم ومبادئهم وأعراضهم، ويضربون عرض الحائط بكل القيم والشيم والأعراف والضمائر، كي يصلوا إلى جاهٍ أو منصب أو حفنة من المال أو لقب أو اسم من الأسماء، فنراه بعد شرفه المزعوم قد تغيَّر عمِّا كان عليه، فأصبح...
الخطبة الأولى:
حينما خلق الله هذه الدنيا وجعل فيها أنواع الملذات والشهوات، وكساها بالأموال والأولاد، وجعل الأفئدة تهوي إلى زينتها ولهوها، وجعل كل ذلك اختبارًا للإنسان، وابتلاءً باعتبار أنه في دار بلاء، هل يحسن التعامل مع هذه الدنيا بحيث يتمتع بها بلا غواية!!
ومع ذلك فإن الله تعالى من فضله علينا جعل يُذكرنا بقيمة هذه الحياة وقيمة الحياة الآخرة، ويضرب لنا الأمثال على نهاية هذه الدنيا، وأنها كالظل الزائل الذي لا ينبغي الركون إليه كما قال تعالى مبينًا حقيقتها: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ).
فهذا مثل الدنيا في القرآن، وهو مثل عظيم، وذكر تحقير الدنيا وشأنها، فهي تتضمن اللعب واللهو والزينة التي تغري الضعيف، فيقع في شباكها ويلهو ويعبث فتلهيه عمَّا خُلق له.
فإن لم يجد مذكرًا ولا ناصحًا هلك في أوديتها ولم يفق إلا بملك الموت وهو يخرج روحه إلى باريها الذي غفل عنه غفلة أضاعت رضوانه ومغفرته، وأوقعته في سخطه ومقته.
ويجد الإنسان في دنياه التطلع إلى الشرف والرفعة التعالي على أبناء جنسه -هذا التفاخر المذكور في الآية-، وتطلع الإنسان إلى الشرف لا يكاد ينتهي، ويدفع في طريق تحصيله كل ما عنده من غالٍ ورخيص.
ويختلف الناس في معاني هذا الشرف الزائف، فمنهم من يراه في تشييد البنيان والتعالي في القصور وكثرة الخدم والحشم، وآخرون يرون الشرف في كثرة المال وإيداعه في البنوك، وكيف يظهر تبذيرها هنا وهنالك ليصنع له شرفًا ومنزلة عند الناس، وآخرون يرون الشرف في الألقاب الرفيعة والرُّتب العالية والأسماء الرنَّانة، فيُذكر بها هنا وهناك وفي أجهزة الإعلام المختلفة.
ومنهم من يجعل الشرف في قدرته على اصطياد النساء والبنات وإحراجهن من بيوت أزواجهن وآبائهن والعبث بهن، فهذا قمة ما يشعر به من النشوة التي سيذوق بها ما لا يخطر على باله من العذاب، وله في الدنيا ما يحرق كبده ويفضحه بين الناس؛ قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
ومن الناس من يرى الشرف في قدرته على الاحتيال على إخوانه فيسلب أموالهم، وينهب ثرواتهم، ليشيد بذلك السحت البيوت، ويركب السيارات ويتزيا بلبوس السحت، ويشعر أنه في شرف لم يصبه غيره، وكل أولئك وغيرهم يسعون إلى ذلك الشرف الزائف من كل طريق، ولا ينظر إلى حله أو حرامه وإن أدى ذلك إلى خراب بيته وذل نفسه وأهله، أو أدى إلى تمزيق دينه -الذي هو أعظم وأقدس ما يملك- كل ذلك أخذًا بالشعار الشيطاني: "الغاية تبرر الوسيلة"، ولو كانت الوسيلة غدرًا أو فتكًا أو ظلمًا وعدوانًا منهم، يتمرغون بأخلاقهم في أوحال الباطل ليصلوا إلى غايتهم ويكونون في المجتمع كالدود لا يقع في شيء إلا أفسده، أو كالسوس لا ينال شيئًا إلا نخره وعابه، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما ذكر أصدق الأمثلة في طلب الشرف والمال وإفسادهما لدين المرء فقال: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لهما من حرص المرء على المال والشرف لدينه"، فهذا المثل العظيم يبين كيف يكون فساد المرء لدينه بالحرص على المال والشرف، وأن فساد الدين بذلك ليس أقل من فساد الغنم بذئبين جائعين باتا في غنم قد غاب عنهما رعاتها، فهما يأكلان ويفترسان فيها ويفسدان فيها فتكًا ذريعًا حتى لا يكاد يخلو منه إلا القليل!
كثيرون أولئك الذين يسعون للشرف الزائف من دينهم وأخلاقهم ومبادئهم وأعراضهم، ويضربون عرض الحائط بكل القيم والشيم والأعراف والضمائر، كي يصلوا إلى جاهٍ أو منصب أو حفنة من المال أو لقب أو اسم من الأسماء، فنراه بعد شرفه المزعوم قد تغيَّر عمِّا كان عليه، فأصبح وحشًا بعد أن كان وديعًا شريرًا بعد أن كان خيَّرًا، ونصَّابًا بعد أن كان أمينًا، شيطانًا بعد أن كان تقيًا، كل ذلك في سبيل شرف زائف، وأخوف ما يخاف زواله، حتى لو عرض له وهم يهدد ذلك لدافع بكل ما يملك لصدِّ ذلك السبب خشية على حياته وشرفه، ويتحمل كل شيء لبقائه وديمومته، وحينما يتصور ذهاب ذلك الشرف فهو يتصور حقارته وعجزه وهوانه وذلته.
ماذا يشعر به من المفاخر بنفسه وجاهه وماله ورياسته إذا تجرَّد عنها؟!
إن المرء إذا لم يكن له في نفسه فضيلة تزيِّنه وأدبٌ يجمِّله وخلق يسمو به مما لا ينفصل عنه فلا تنفعه تلك الأسماء والألقاب إذا ذهبت يومًا من الأيام، إنَّ كل ذلك معرَّض للزوال فتذهب تلك الأوسمة والأوشحة والألقاب ويتجرَّد منها، فليس له منها إلا ما فضل في نفسه من أخلاقه وشيمه وأدبه؛ قال تعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْض).
نسأل الله أن يرزقنا رضا النفس وقناعتها...
الخطبة الثانية:
طلب الشرف والجاه مما هو مغروز في طبيعة النفس البشرية، وليس مذمومًا حصول ذلك الشرف في الدنيا، ولكن المذموم وسيلة الحصول عليه ثم الأثر المترتب على ذلك مما يعود على دين الإنسان بالضرر بسبب الحرص عليه.
فمن يطلب الولاية والرياسة ويسعى لها لا يعان عليها لو حصل عليها، وهو في الغالب يمنع خير الآخرة وشرفها وكرامتها؛ قال النبي –صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمن بن سمرة: "يا عبد الرحمن: لا سأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها".
وغالب من يصل إلى مثل هذه الوجاهات يصلها بطريق مذموم، ويحرص على علو منزلته والتعاظم على الناس وفرض أمره ونهيه، ذلك شأن أهل الكبرياء من أهل الدنيا؛ قال تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ). ولهذا كان الأخيار الذين لا يريدون إلا الآخرة أكثر تواضعًا للناس وسكينة وبعدًا عن تعظيم نفوسهم عن منازعات أهل الدنيا.
ثبت في صحيح مسلم أن عمر بن سعد بن أبي وقاص انطلق إلى أبيه وهو في غنمٍ له خارجًا عن المدينة، فلما رآه قال: أعوذ بالله من شرِّ هذا الراكب، فلما أتاه قال: يا أبتِ: أتريد أن تكون أعرابيًا في غنمك والناس يتنازعون الملك في المدينة؟! فضرب سعد صدره وقال: اسكت، إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنَّ الله يحب العبد التقي الغني الخفي"، وكانوا يكرهون أن يجتمع الناس عليهم لفضلهم وعلمهم من عزة النفوس، ودرءًا لخطر الرياء والعظمة، فهذا ابن مسعود -رضي الله عنه- خرج من منزله وتبعه جماعة، فالتفت إليهم فقال: "علام تتبعوني؟! ارجعوا فإنه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع". منهاج القاصدين ص227.
وكان أبو العالية من علماء السلف -رحمه الله- إذا جلس إليه أكثر من أربعة قام. وكان خالد بن معدان -رحمه الله- إذا عظمت حلقته قام وانصرف كراهة الشهرة.
فالدنيا كلها خلقت للفتنة والابتلاء، وليس فيها ما يحرص الناجي عليه إلا الإيمان والعمل الصالح، وفي حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا إنَّ الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالمًا ومتعلمًا".
فيحرص المؤمن على ما يقوي إيمانه ويصلح عمله ويعمل للدار الآخرة التي هي المسكن الحقيقي، ولا تغره الدنيا بزخارفها، فإن من ينجو من غدر الدنيا قليل.
نسأل الله أن يعافينا وإياكم من فتنة الدنيا وغرورها...
اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه...
وصلوا وسلموا...
التعليقات