اقتباس
إن أولادكم أمانة في أيديكم، إن رعيتموها حق رعايتها فزتم برضا ربكم وثواب خالقكم، وتمتعتم بالراحة في دنياكم، وكسبتم الذكرى الحميدة فيما بعد، وإن ضيعتم أولادكم فيا ويلكم ويا ويلهم، فإنكم ستجنون عواقب الإهمال والتضييع صاباً وعلقماً ومراً وحنظلاً، وسيكون أولادكم وبالاً عليكم اليوم أو غداً، ثم يخلفون
شبابنا هم عماد بلادنا، ومعقد آمالنا، وأبطال مستقبلنا، ولذلك كانوا أهلاً للرعاية الواقية، والهداية العاصمة، وإذا كانت فترة الشبيبة ـ بصفة عامة فترة خطيرة مبلبلة، فإن خطرها يشتد إذا اقترنت بالفراغ والبطالة وقلة التوجيه.
وقد أغلقت المدارس والمعاهد أبوابها، وانتهى موسم المذاكرة والامتحان، و أقبلت العطلة الصيفية بطولها وعقابيلها، وبدأ الطلاب والتلاميذ يفتحون مدارسهم الخاصة المعروفة في الشوارع والحارات، فأنت ترى على أفواه الأزقة وملتقى الطرق جموعاً من الشبان اللاهين الفارغين المتبطلين الذين يلتقون لكي يتبادلوا فاحش الكلام وخطير الأحاديث، أو ليتواعدوا على الذهاب إلى الأفلام السينمائية القذرة، أو ليتآمروا على غير ذلك من العبث الواضح والتصرف الفاضح، أو ليعترضوا طريق الفتيات والنساء بالنظرات الوقحة والكلمات البذيئة والحركات السمجة التي تدل على سوء التربية وتحلل البيئة وتميع الأخلاق.
وترى الرقعاء من هؤلاء فيخيل إليك من استهتارهم وتوقحهم كأنهم لا آباء لهم يرعونهم، ولا أمهات يقلن لهم كلمة توجيه، ولذلك لا يتورعون عن الجهر بأسماء العورات والحرمات، أو عن سب الآباء والأمهات، أو عن لعن الدين والتطاول على الناس.
وبالرغم من استنكارنا الشديد لمسلك هؤلاء الشبان لا يمكننا أن نلقي التبعة كلها في هذا الأمر على عواتقهم، لأنهم في الواقع ضحايا النشأة المنحرفة، والإهمال الموصول، وعدم ربطهم من أول الطريق بالدين والاستقامة ومكارم الأخلاق، ولو قام آباؤهم وأولياء أمورهم والمشرفون عليهم بما يجب لهم من تأديب وتهذيب، وإرشاد وتوجيه، لما بلغوا هذا الوضع الأليم الوجيع.
وهؤلاء هم الشبان مثلاً يقبلون على عطلة الصيف، فيجدون أمامهم هذا الفراغ اللعين الخبيث، الذي يضيع العمر، ويقتل المواهب، ويثير الأفكار السود، ويبعث على الجريمة، والرسول -صلى الله عليه وسلم - يقول: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ". لأن المرء إذا لم يستغل صحته في الإنتاج، وفراغه في العمل، أضاعهما وأضاع فائدتهما، وإذا أضاع المرء صحته و أضاع عمره فماذا بقي له؟ وأي غبن بعد هذا الغبن؟ أو خسارة بعد تلك الخسارة؟
وهؤلاء اللاهون الفارغون من فتياننا يجدون في الغالب الوسائل الثلاث التي تؤدي إلى الفساد والضلال، وهي: الفراغ والشباب والمال، وقديماً قال أحد حكماء هذه الأمة:
إن الفراغ والشباب والجدة****مفسدة للمرء أي مفسدة!
وتعالوا بنا نستعرض في عجلة المنهاج اليومي لهؤلاء الفارغين المتبطلين في الصيف:
إن الواحد منهم يقوم من نومه في نحو التاسعة صباحاً؛ لأنه كان ساهراً إلى منتصف الليل، ثم يغسل رأسه ورجليه للتنشيط لا للوضوء ولا للصلاة، ثم يتناول طعام الفطور في تراخ وكسل، ثم يخرج إلى شرفة المنزل وربما وقف بالسروال والقميص وإن تأدب وقف فيها بثوب المنامة (البيجامة) ويظل يحملق في بيوت الجيران ونوافذهم وأفرادهم، فنظرة سمجة هنا، وابتسامة وقحة هناك، ومغازلة منحطة هنالك، ثم ينزل إلى الشارع ليقف مع أنداده، يبصقون وراء هذا، ويسخرون من ذاك، ويعتدون على ذلك، ثم يعود فيتناول غذاءه وينام ـ
ولست أدري أهو نوم العافية أم نوم البلاء؟ ـ ثم يقوم قبيل الغروب فيرتدي ملابسه ويذهب إلى السينما أو الملهى أو السهرة العابثة الممتدة إلى نصف الليل، فأي اختلال بعد هذا الاختلال؟ وأي ضياع وراء هذا الضياع؟ وماذا يبقى في نفس الشاب مما بنته المدرسة طيلة العام في حسه أو نفسه ما دامت معاول الهدم والإفساد تتناول حياته بهذه الصورة المؤلمة؟!.
ليت هؤلاء يقفون على المنهاج اليومي الذي كان يسير عليه الشاب المؤمن إلى عهد قريب في الريف وفي البيئة المتدينة الصالحة أثناء عطلة الصيف... إن هذا الشاب المستقيل ينهض قبل الشروق فيتوضأ ويصلي لربه، ثم يقرأ ما تيسر من القرآن الكريم للحفظ أو الاستذكار، ثم يشارك أهله عملهم في الحقل أو غيره، ثم يأخذ حظه من المطالعة في الكتب الدينية والعلمية والأدبية، ثم هو يعظ الناس ويخطبهم ويدرس لهم في أيام الجمع وفي غيرها من المناسبات...
ولسنا نقصد أن الشباب كلهم في الريف على هذا المنوال؛ ولكننا نتكلم عن بقايا الخير، والخير قليل غريب بجوار الباطل الكثير العربيد، كما أننا لا نعمم الحكم القاسي على جميع الشباب في المدن، فهناك من غير شك شباب صالحون منهم، وإنما نقصد الضالين المنحرفين وهم مع الأسف كثرة غالبة...
والأمة المسلمة منذ أقدم عصورها تتواصى بتربية الأبناء تربية دينية دنيوية رشيدة عامرة بالخلق والاستقامة، وهذا مثلاً: الحاكم العادل عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- يوصي مؤدب أولاده بالحزم معهم والرقابة لهم، وبأن يعودهم قلة الضحك لأن كثرته تميت القلب، وبأن يبغضهم في الملاهي لأنها تبدأ من الشيطان وتنتهي بغضب الرحمن، وأن يعودهم افتتاح كل يوم من أيامهم بجزء من القرآن الكريم يطالعونه في تثبت وفهم؛ فإذا فرغوا من الدرس فليتناولوا الأقواس والسهام والنبال أو غيرها من أدوات الجندية وآلات التدريب، وليخرجوا إلى الرياضة والتمرين الجسمي والعسكري...
وهكذا يجمع الحاكم العادل عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- في تربيته لأولاده بين الدين والدنيا، وبين العلم والرياضة، وبين الروح والبدن، وبين القول والعمل، ويكتب إلى ابنه عبد الملك وصية طويلة منها قوله له: "فراع نفسك وشبابك وصحتك، وإن استطعت أن تكثر تحريك لسانك بذكر الله تسبيحاً وتحميداً وتهليلاً فافعل"، ومتى ترطب لسان الشاب بذكر الله صدق وإخلاص لم يكن منه ولم يصدر عنه غير الخير والصواب في القول والعمل.
وإنما تحرص الأمة المسلمة على حسن التوجيه لشبابها ومواصلة تهذيبهم لعلمها بأن ريح الجنة في الشباب المؤمن، وأن الخير كله في الشباب الصالح وهذا هو سيد الإنسانية محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول فيما ينسب إليه: "إن الله ليباهي ملائكته بالشاب الصالح" ويقول: "إن الله ليعجب بالشاب ليست له صبوة"، ويقول: "إن الله تعالى يحب الشاب الذي يفني شبابه في طاعة الله"، ولا عجب فالله تبارك وتعالى يقول في أمثال هذا الشاب: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا) [الكهف:14].
يا أتباع محمد عليه الصلاة والسلام...
إن أولادكم أمانة في أيديكم، إن رعيتموها حق رعايتها فزتم برضا ربكم وثواب خالقكم، وتمتعتم بالراحة في دنياكم، وكسبتم الذكرى الحميدة فيما بعد، وإن ضيعتم أولادكم فيا ويلكم ويا ويلهم، فإنكم ستجنون عواقب الإهمال والتضييع صاباً وعلقماً ومراً وحنظلاً، وسيكون أولادكم وبالاً عليكم اليوم أو غداً، ثم يخلفون لكم أسوأ الذكر وأقبح الأحدوثة بين الناس، فاتقوا الله في أولادكم، وأريحوا الناس من تطاولهم وسوء أدبهم وفراغ أوقاتهم...
وذكروهم أن شباب الأمم الدائبة العاملة الناهضة يجمعون من عملهم في العطلات الصيفية وغيرها ما ينفقونه على أنفسهم طيلة العام الدراسي، وأن كثيرين منهم ينتهزون فرصة هذه العطلات للقيام برحلات واسعة منظمة مفيدة، ينفقون فيها أقل النفقات، ويكسبون منها أعظم الثمرات، وأن كثيرين منهم ينتهزون أوقات الفراغ لتنمية الملكات واستغلال المواهب وتوسيع الأفكار وتثقيف العقول بالجديد من العلوم والمعارف والآداب، وأن هؤلاء الشباب يشعرون برسالتهم وواجباتهم، فيقبلون على حياة الجد والاستقامة والإنتاج، لا على حياة اللهو والعبث والفرار من رقابة الأهل لاحتساء الخمر أو تدخين الحشيش أو معاشرة البغايا أو غير ذلك من ألوان الشذوذ، ولا يخجل الواحد من شباب هذه الأمم الناهضة أن يعمل أي عمل شريف يكسب منه، مهما كان هذا العمل ضئيلاً أو قليلاً، حتى أقدم بعضهم على غسل الأطباق في بعض المطاعم ليجمع من ذلك ما يتمم به دراسته الجامعية...
ذكروا أولادكم بهذا وذكروهم بأسلافهم الأوائل الأماثل الذين لم يعرفوا تضييع شيء من أوقاتهم في لغو أو باطل... واخلطوا الحزم بالحكمة في هذا التوجيه، وامزجوا القسوة بالرحمة في ذلك التأديب، واشغلوهم بالرياضة والمطالعة والعبادة والرحلة والأعمال المفيدة المنتجة، وخففوا ما قد يعرض لحياتهم من جفاف ببعض الفنون النظيفة كالأدب، أو الرسم، أو التصوير، أو تتبع الآثار، أو غير ذلك من الأعمال.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
التعليقات