عناصر الخطبة
1/ الحاجة إلى مدارسة السيرة النبوية 2/ أهم الدروس والعبر المستفادة من قصة الثلاثة الذين خلفوا 3/ وصايا للتائبين.اهداف الخطبة
اقتباس
الله أكبر يا عباد الله! مَن يتحمل أن يتواطأ أهلُ بلدٍ كاملة على هجره فلا يكلمه أحد، ولا يُرَدُّ سلامه! ولك أن تتصور من هذه البلدة؟ ومن أميرها ورئيسها؟ ومن سكانها؟ إنها المدينة! أما رئيسها وأميرها فهو محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأما سكانها: فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وبقية الصحب الكرام! ابتلاء لو طبّق على أحدنا من أهل حارته الذين يعاصرهم بضعةَ أيام لما أطاق! ولكن: "إن عِظَم الجزاء مع عظم البلاء"...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...، أما بعد:
فما أحوجنا - عباد الله - أن نتأمل في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام، الذين ترجموا القرآن عملياً.
أيها الإخوة: ما أسهل الحديث عن الأخلاق والقيم الفاضلة! وما أصعب تطبيقها عند المحكّات الحقيقية التي تظهر قوة التربية، وأصالة المعدن.
وإن قصة كعب بن مالك وصاحبيه -رضي الله عنهم، اللذين تخلفا عن غزوة تبوك بلا عذرٍ- نموذج واضح في هذا الباب (انظر قصتهم في: صحيح البخاري ح(4418)، وصحيح مسلم ح(2769)، فتلك القصةُ مليئةٌ بالدروس والعبر، التي نحتاجها في واقع حياتنا اليومي، وإن مقاماً كهذا لا يمكن أن يُؤتى فيه على جميع الدروس أو العبر، ولكن حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق:
1 - قال كعب -رضي الله عنه-: "لم أكن قطُّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلَّفتُ عنه في غزوة تبوك، والله ما جمعتُ قبلها راحلتين قط، حتى جمعتهما في تلك الغزوة، فغزاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حر شديد، وحين طابت الثمار والظلال، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا، واستقبل عدوا كثيرا، فتجهز -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئًا، وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردتُ، فلم يزل ذلك يتمادى بي ذلك حتى أسرعوا وتفارط الغزو"!
وفي هذا من العبرة: ترك التسويف في فعل الخير إذا تيسرت الفرصة، وعدمُ تأجيله؛ فإن المرء لا يدري ما يعرض له! ولا يدري عن عزم نفسه أصلاً، أيستمر كما هو أم لا!
وكم دمّرت (سوف أفعل) من مشاريع نافعة، سواءٌ دينية أم دنيوية!
كم سوّف بعضُ الناس في اتخاذ أخطر قرار في حياتهم -وهو التوبة-! فيسوّف ويسوّف، حتى يفجأه الموتُ دون توبة!
2 - قال كعب -رضي الله عنه-: "فلما بلغني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد توجه قافلاً من تبوك؛ حضرني بثي، فطفقتُ أتذكر الكذبَ وأقول: بم أخرج من سخطه غدًا؟ وأستعين على ذلك كلَّ ذي رأي من أهلي، فلما قيل لي: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أظلّ قادمًا؛ زاح عني الباطلُ، حتى عرفتُ أني لن أنجو منه بشيء أبدًا، فأجْمعتُ صدقه.
ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءَه المخلَّفون، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبِل منهم رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- علانيتهم، وبايعهم واستغفر لهم، ووكَل سرائرهم إلى الله، حتى جئتُ، فلما سلّمتُ تبسَّم تبسُّم المغضب، ثم قال: «تعال» فجئت أمشي حتى جلستُ بين يديه، فقال لي: «ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعتَ ظهرَك؟».
قال: قلت: يا رسول الله! إني والله لو جلستُ عند غيرك من أهل الدنيا لرأيتُ أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أُعطيت جَدَلا، ولكني والله لقد علمتُ لئن حدّثتك اليوم حديثَ كذبٍ ترضى به عني؛ ليوشكن اللهُ أن يُسخِطك عليّ! ولئن حدّثتك حديثَ صدق تجد عليّ فيه؛ إني لأرجو فيه عقبى الله، والله ما كان لي عذر، والله ما كنتُ قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفتُ عنك، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أما هذا، فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك»".
هنا - يا عباد الله - عاش كعبٌ معركةً قاسية بينه وبين نفسه والشيطان! أيصدُقُ فيخسر رضى أحب الخلق إليه -صلى الله عليه وسلم-؟ أم يكذب ويتحايل في سرد جملة من الأعذار ليرضي رسولَ -صلى الله عليه وسلم- مؤقتاً؟ فحسم هذا الأمر، واتخذ قراره الشجاع بكل صدقٍ، مع مرارة التبعات الآنيّة، لكن العاقل الموفّق إنما يفكّر في النجاة غداً يوم القيامة، أما خسائرُ الدنيا –وإن كانت في علاقات أخوية- إذا كانت في مقابل رضا الله فيمكن الاعتياض عنها.
لقد آثر كعبٌ وصاحباه رضى الله بالصدق؛ فآثرهم الله بأن جعلهم الله قدوةً للصادقين إلى يوم الدين؛ حيث أنزل عنهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة: 119].
وفي هذا عبرةٌ أخرى -خصوصاً لمن أوتي قدرةً على البيان والفصاحة-: ليست العبرة بذلك، فالمنافقون مِن المتخلفين سخّروا هذا البيان في الأعذار والأيمان الكاذبة، أما كعب فلا، فيا من أوتي بياناً -مِن كاتب أو إعلامي- سخّر قلمَك وبيانَك لقول الحق والذب عنه، ودحض الباطل وكشفه.
3 - قال كعب -رضي الله عنه-: "فقمتُ، وثار رجالٌ من بني سلمة فاتبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبتَ ذنبًا قبل هذا، لقد عجزتَ في أن لا تكون اعتذرتَ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما اعتذر به إليه المخلّفون! فقد كان كافيك ذنبَك استغفارُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لك، قال: فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردتُ أن أرجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأكذّب نفسي"!
وفي هذا من العبر: أن الإنسان - مع ضغط الواقع - قد يجد من يزيّن له - ولو بحسن نية - أن يترك الحق، أو يقول الباطل؛ فليحذر اللبيبُ من ذلك!
4 - قال كعب -رضي الله عنه-: "ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي مِن أحد؟ قالوا: نعم، لقيه معك رجلان، قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، قال: قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيعة العامري، وهلال بن أمية الواقفي، قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً، فيهما أسوة، قال: فمضيتُ حين ذكروهما لي".
وفي كلام كعبٍ هذا: أن مِن لطف الله بعبده: أن يكون معه في مصابه أحدٌ؛ ليخفّ عليه الأمر، وليكون عوناً له على تجاوز الأزمة، وقد قالت الخنساء:
ولولا كثرتُ الباكين حولي ** على إخوانهم لقتلتُ نفسي
ويقول آخر:
إن المصائب يجمعنَ المصابينا
5 - قال كعب -رضي الله عنه-: "ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة، مِن بين من تخلّف عنه، قال: فاجتنبَنا الناسُ، وقال: تغيروا لنا حتى تنكرتْ لي في نفسي الأرضُ، فما هي بالأرض التي أعرف!
فلبثنا على ذلك خمسين ليلة! فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلدَهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاةَ، وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد! وآتي رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فأسلّم عليه -وهو في مجلسه بعد الصلاة- فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريبًا منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي نظر إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني.
حتى إذا طال ذلك عليّ من جفوة المسلمين؛ مشيت حتى تسوّرت جدارَ حائط أبي قتادة -وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي- فسلمتُ عليه، فوالله ما رد عليّ السلام. فقلت له: يا أبا قتادة! أنشدك بالله هل تعلمَنّ أني أحب الله ورسوله؟ قال: فسكت، فعدتُ فناشدته، فسكت، فعدتُ فناشدته، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي! وتوليتُ حتى تسورت الجدار".
الله أكبر يا عباد الله! مَن يتحمل أن يتواطأ أهلُ بلدٍ كاملة على هجره فلا يكلمه أحد، ولا يُرَدُّ سلامه! ولك أن تتصور من هذه البلدة؟ ومن أميرها ورئيسها؟ ومن سكانها؟ إنها المدينة! أما رئيسها وأميرها فهو محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأما سكانها: فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وبقية الصحب الكرام! ابتلاء لو طبّق على أحدنا من أهل حارته الذين يعاصرهم بضعةَ أيام لما أطاق! ولكن: "إن عِظَم الجزاء مع عظم البلاء" (سنن ابن ماجه ح(4031)، سنن الترمذي ح(2396) وقال: حسن غريب).
وفي هذا دليل على ما كان عليه الصحابةُ من تعظيم أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهذا أبو قتادة -رضي الله عنه-، وفي داخل الأسوار، ولا يطّلع عليهما أحدٌ إلا الله! ومع ذلك لم يتكلم مع ابن عمه، الذي هو من أحب الناس إليه! إنما أحال الأمر إلى الله ولم يجبه، بل اقتصر على قوله: "الله ورسوله أعلم"! كل ذلك تعظيماً لأمره -صلى الله عليه وسلم- –سرًّا وعلانية، ظاهرًا وباطنًا- وبهذا ارتفع القوم؛ بتعظيم أمر الله ورسوله في الشدة والرخاء، وفي السر والعلن، وإن كانت تلكم الأوامر أو النواهي قد يكون فيها ثقلٌ على النفس.
وبهذا أيضا نعلم سببًا عظيمًا من أسباب ضعف المسلمين وتسلط أعدائهم عليهم؛ فبقدر ضعف تمسكهم بدينهم، وضعف تعظيمهم لأوامر الله ورسوله؛ يضعفون ثم يضعفون ثم يضعفون، ثم يتسلط عليهم أعداؤهم!
وللحديث بقية، بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم....
الخطبة الثانية:
الحمد لله...، أما بعد:
6 - فيقول كعب -رضي الله عنه-: "فبينا أنا أمشي في سوق المدينة، إذا نبَطي من نبَط أهل الشام - أي: من مزارعي الأعاجم -، ممن قدِم بالطعام يبيعه بالمدينة، يقول: مَن يدل على كعب بن مالك؟ قال: فطفق الناس يشيرون له إليّ، حتى جاءني فدفع إلي كتابًا من ملك غسان، فقرأتُه فإذا فيه: أما بعد، فإنه قد بلغنا أن صاحبَك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوانٍ ولا مضيعة؛ فالحق بنا نواسك! قال كعب: فقلتُ حين قرأتها: وهذه أيضًا من البلاء! فتياممت بها التنور فسجرتها بها".
وفي هذا المقطع من قصته -رضي الله عنه- دروس عظيمة منها:
- أن الأعداء لهم عيون، واستخبارات أجنبية كما يقال، تَستغل الفرصَ لاقتناص النابهين من الشباب ليكونوا أعواناً لهم ضد أمتهم وبلادهم الإسلامية، متى؟ حين يقع بينهم وبين ولاتهم أو مجتمعهم أدنى خلاف أو خصومة!
- ويلاحَظ أن العدو استغلّ ذلك ببراعة، فملك غسان أغراه ببعض المغريات، منها: أن يكون مواطناً من الدرجة الأولى (الحقْ بنا نُواسك)! لك ما للغسانيين، وعليك ما عليهم، وهو اليوم قد يتمثل بمنح الجنسية، وحقوق المواطنة من الدرجة الأولى... إلى غير ذلك من المزايا، لكن دينَ كعب ووعيَه كان أكبر من ذلك كلّه، وقد تمثّل ذلك في أمرين:
الأول: أن كعبًا لم يفرح بذلك الخطاب، بل اعتبره من البلاء الذي يحتاج إلى صبر وحسن تعامل..! فلم يعتبر كعبٌ القربَ من الأعداء، أو التخابرَ والتعاون مع السفارات الأجنبية ميزةً له، بل سمّاه بلاءً!
الثاني: أن كعباً -رضي الله عنه- قطع الطريق على العدو؛ حيث أخذ خطابَ الملك الغساني فأحرقه بالنار؛ لئلا يكون له نظر ولا تطلّع مرةً أخرى.. وفي هذا عبرةٌ عظيمة: وهي قطعُ كل سبب يوصل إلى المنكر والمحرّم.
وهذا مما يقع فيه الخللُ من بعض التائبين، الذين يحتفظون ببعض مخلفات الماضي المرتبط بحياة المعاصي والغفلة؛ فتجد بعضَهم قد يحتفظ بصورٍ، أو آلات موسيقية، أو أيَّ شيء يذكّره بالماضي ورفقته، فلا يلبث - بعد خفوت حرارة التوبة والندم - إلا أن يحنّ إلى الماضي، فربما عاد وانتكس..!
فيا أيها التائب: اقطع صِلات الماضي تماماً، وأَقبِل على حياتك الجديدة، وتأمل في فعل كعب، ومِن قبله موسى -عليه الصلاة والسلام- حين رجع إلى قومه فوجد بعضَهم قد عَبَدَ العجل بقيادة السامري، فقال له موسى: (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا)[طه: 97]، فقطع كلَّ صلة بهذا العجل، مع أنه كان من ذهب! فلم يقل موسى -عليه السلام-: إن هذا ذهب! ويمكن الاستفادة من ذلك الحلي بإذابته وصياغته من جديد، بل بادر لرميه ونسفه في اليم نسفًا، وقد قال الله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)[الأنعام: 90].
لم ينته ما أردتُ الإشارة إليه من دروسِ وعبرِ هذه القصة، فللحديث بقية وصلة إن شاء الله.
اللهم تب علينا في التائبين، واجعلنا من عبادك الصادقين.
التعليقات