عناصر الخطبة
1/ عدم استطاعة الإنسان العيش منعزلا 2/ اهتمام العاقل بسمعته الحسنة 3/ أثر السمعة الحسنة في الحياة وبعد الموت 4/ حرص الرسل على السمعة الحسنة 5/ بم تكون السمعة الحسنة؟ 6/ أسباب السمعة السيئة ومفاسدهااهداف الخطبة
اقتباس
إن السمعة والذكر محصلة عمل المرء وثمرة تصرفاته وسلوكياته؛ فإما أن تكون حلوة خضرة لذيذة يفرح بها في دنياه، ويبشر بها في أخراه، وإما أن تكون مرة علقماً تخرجه في دنياه وتؤسفه في...
الخطبة الأولى:
الحمد لله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ويرزق من يشاء بغير حساب، أحمده سبحانه وأشكره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله غيره ولا رب سواه، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه وشريعته، صلى الله عليه ما دامت السموات والأرض، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الأبرار، والتابعين الأخيار، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى- حق تقاته، واعتصموا بحبله المتين دينه القويم؛ فإنه لا مقام ولا منجا ولا رفعة لأحد في السموات والأرض إلا بالاعتصام بهذا الدين الحنيف، ومتابعة رسوله الكريم، وانتهاج منهجه، واقتفاء أثره: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران: 85].
أيها المسلمون: لا يستطيع المرء أن يعيش في الدنيا منفرداً أو معزولاً عن الآخرين، ولا يعيش بعيداً عن مجتمعه وناسه، ولكن يعيش معهم مرتبطاً بهم، ولو أراد العيش منعزلاً عن الناس لما استطاع العيش، ولما وجد مكاناً يعيش فيه.
ولذلك يعيش المرء مع الناس يرونه ويراهم في غدوته وروحته، في يقظته وسباته، يعرفون أخباره وتصلهم معلومات عنه في كل حركاته وسكناته، وهو مرتبط بأرحام وخلان وأصدقاء وإخوان، يفرحون بأخباره الطيبة، ويحزنون بالسيئة، بل هذا كله يشملهم ويحكم عليهم من خلال الحكم عليه، وذلك من خلال تقييم الناس له، ولما ينتشر عنه من السمعة والذكر.
أيها الإخوة في الله: إذا كان الأمر كذلك فإن العاقل من يهتم ويلتفت لئن تكون له سمعة طيبة، وينتشر له ذكر حسن في ناسه وأهله ومجتمعه وبلده، ويبذل نفسه مخلصاً لله -تعالى- ليسجل له عند مولاه في صحائفه وموازين حسناته خلق حسن، وذكر طيب يثقل موازينه، ويرجح حسناته، ويذكر به بعد مماته.
كما يحرص ويجتهد مبتعداً عن السوء والذكر السيئ والأخلاق والتصرفات والسلوكيات التي ترديه حيّاً بين الناس وميتاً عند الله -تعالى-، وحتى لا يدوّن في صحائفه ما يخفف ميزانه من الأخلاق السيئة.
أيها المسلمون: سمعة الإنسان رصيد في هذه الحياة وحتى بعد الممات فيذكر بأعماله التي عملها فيثني عليه أو يذم عليها.
إن السمعة والذكر محصلة عمل المرء وثمرة تصرفاته وسلوكياته، فإما أن تكون حلوة خضرة لذيذة يفرح بها في دنياه، ويبشر بها في أخراه، وإما أن تكون مرة علقماً تخرجه في دنياه وتؤسفه في أخراه.
فإذا حفظ المرء دينه وعرضه وخلقه ونفسه وحاسبها، وأخذ بخطامها ومنعها من النزول والسفول إلى الدركات، وحفظ نفسه أيضاً من ملازمة ومرافقة السيئيين والفاسقين والفاسدين، ومن ساءت تصرفاتهم وأعمالهم، وضل سعيهم، واعتصم بالله أعطاه الله السمعة الطيبة، والذكر الحسن، وعُرف به، لقد أثنى الناس بين يدي رسول الله على صاحب جنازة مرت أمامه صلى الله عليه وسلمَ فقال: "وجبت"، ثم مرت جنازة أخرى فذموها، فقال: "وجبت" فلما سألوه عن قوله: "وجبت" للأولى والثانية، قال: "وجبت الجنة للأول، ووجبت النار للآخر، أنتم شهداء الله في أرضه" (رواه البخاري ومسلم)، وقال النووي -رحمه الله-: "الظاهر أن الذي أثنوا عليه شراً كان من المنافقين"، وعند الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي قتادة: أنه صلى الله عليه وسلمَ لم يصلّ على الذي أثنوا عليه شراً وصلى على الآخر.
أيها المسلمون: لقد حرص على السمعة الطيبة والسيرة الحسنة، والذكر الحسن أفضل البشر، وأكرم الخليقة رسل الله وأنبياؤه -عليهم الصلاة والسلام-، وسألوا ربهم -عز وجل- أن يوفقهم لذلك، وأن يسددهم ويحفظهم ويعينهم على التوفيق لهذه النعمة.
كما حرص كذلك أهل الصلاح والخير والموفقون من المسلمين، بل حرص كل مسلم مخلص على التشرف بهذه النعمة، يقول الله -تعالى- على لسان إبراهيم -عليه السلام-: (وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الشعراء: 84]، يقول ابن كثير: "أي واجعل لي ذكراً جميلاً بعدي أُذكر به ويقتدى بي في الخير"، وقال مجاهد -رحمه الله- وقتادة: "يعني الثناء الحسن، يعني ثناء الناس عليه، والترحم، وذكره بالخير دائماً".
وحرص على هذا الفضل نبينا محمد رسول الله حينما رفض طلب الصحابة بضرب عنق عبد الله بن أبي سلول المنافق الذي كان يؤذي رسول الله، ويتطاول عليه صلى الله عليه وسلمَ حذراً من السمعة غير السوية، وهو صلى الله عليه وسلمَ المؤيد من الله -تعالى- الذي يتحكم في قلوب الخلق -سبحانه وتعالى-، ومع ذلك أبى إلا الاستقامة حتى مع من أساء إليه، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "اقتتل غلامان، غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار، فنادى المهاجر: يا للمهاجرين! ونادى الأنصاري: يا للأنصار! فخرج عليهم رسول الله، وقال: "ما هذا؟ دعوى أهل الجاهلية؟" قالوا: لا يا رسول الله، إلا أن غلامين اقتتلا فكسع أحدهما الآخر -يعني ضربه على دبره بيده- فقال: "دعوها فإنها منتنة"، فسمعها عبد الله بن أبي سلول، فقال: "والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" يعني بالأعز نفسه، ويعني بالأذل الصحابة المهاجرين. فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: "دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه" (رواه البخاري ومسلم) حرصاً منه صلى الله عليه وسلمَ على السمعة الطيبة لدعوته التي أشرقت الأرض بنورها، وكان يحرص على السمعة بأخلاقه وسماحته مع الناس ومعاملتهم، والعفو عنهم حتى مع المخطئ عليه وعلى عدوه.
ويبول إعرابي في مسجده، ويهمً الصحابة بضربه، فيمنعهم ويأمرهم بتركه حتى يتم بوله، ويناديه ويعلمه ويرشده ويوجهه بمقام المسجد وحرمته، فيتوجه الأعرابي يدعو ربه -عز وجل-: "اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً".
ويعتكف صلى الله عليه وسلمَ وتأتيه أم المؤمنين زوجه صفية -رضَي الله عنها- تزوره، فمر صحابيان فأسرعا، فقال لهما: "على رسلكما إنها صفية بنت حيي"، فقالا: سبحان الله يا رسول الله! قال: "إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شراً"، أو قال: شيئاً" (رواه البخاري ومسلم)، قال النووي عند هذا الحديث: "باب بيان أنه يستحب لمن رؤى خالياً بامرأة وكانت زوجة أو محرماً له أن يقول: هذه فلانة ليدفع ظن السوء به".
ويسأل يوسف -عليه السلام- ربه أن يجنبه السوء والفحشاء، ويفضل السجن على البقاء في القصر عند امرأة العزيز ليدفع الريب عنه، يقول: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ) [يوسف: 33]، (فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [يوسف: 34].
ولقد سطر الرسل الكرام وأهل الله المؤمنون أروع الأمثلة في سيرهم، وخلد الله لهم السمعة الطيبة، والذكر الطيب العطر عندما اتقوا وأحسنوا، وعملوا بالدين القويم، وصانوا أنفسهم، فما يذكرون اليوم وإلى قيام الساعة إلا بالخير، ويترحم عليهم الناس، ويدعون لهم بالرحمة والمغفرة.
أيها المسلمون: السمعة الطيبة والذكر الكريم لمن أسس بنيانه على دين الله الإسلام وعبد الله -تعالى- وحده وراقبه، واعتصم به، وتابع رسول الله، واعتمد منهج الإسلام، وتحلى بأخلاقه، وتأدب بآدابه، ولم يرتاب فيه، ولم تهتز ثقته في أنه أعدل المناهج، وأكملها وأشرفها.
إن المرء المسلم مطالب أن يحفظ سمعته وسمعة أهله وناسه وبلده ومجتمعه، ويحرص على الذكر الحسن، وخاصة في هذه الأزمان التي يعيشها الناس، والتي تكثر فيها الخطايا والمحن والفتن والشهوات والانحرافات والتقلبات والتحولات الحسية والمعنوية، والتي هي سبب السمعة السيئة؛ لأنها توفر البيئة وتتيح الفرصة لئن يلطخ المرء سمعته وذكره.
فلهذا كانت السمعة الطيبة مقاماً رفيعاً، ومنزلة عالية في هذا الزمان: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت: 35].
أيها المسلمون: إن أسباب التلطخ بالسمعة السيئة والذكر السيئ كثيرة لا تعد ولا تحصى لكثرتها وتعددها؛ منها: الغرور بالدنيا ومتابعة زخرفها والشهوات والاستجابة للنفس الأمارة بالسوء، ونسيان الله -تعالى-، وإهمال الدين، وضعف العقيدة والإيمان ومرافقة الغافلين، يقول رسول الله: " الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" (رواه الترمذي وحسنه) يعني انتقوا واختاروا من تتخذونه خليلاً ورفيقاً وصديقاً من كان ينفعكم في دينكم واستقامتكم وإلا فإنه يؤثر عليكم وتتطبعون بطبعه وخلقه.
وظلم الناس يورث السمعة السيئة، وهضم حقوقهم، ومعارضتهم والحيلولة دون مصالحهم ومنافعهم وحوائجهم.
أيها المسلمون: إن السمعة السيئة بلوى ترافق الإنسان في حياته وبعد مماته، وتدخل تحت بلوائها من يعول من الزوجات والذرية والأرحام، فهي ضرر كبير، والبلية عندما لا يشعر الإنسان ببلائها، دخل عيينة بن حصن الفزاري على رسول الله فأذن له وهو يقول: "ائذنوا له، بئس أخو العشيرة"، ثم ألآن له الكلام، فلما خرج قالت له عائشة عن قوله فيه أول دخوله ثم كلامه بعدما جلس معه، فقال: "يا عائشة إن شر الناس عند الله يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه" (رواه البخاري ومسلم) فهذا مبغوض عند الله والناس لسلاطته وجرأته في الباطل، وهناك سائر الكفار يلعنون ويذمون ليل نهار من قبل الناس، ويوبخونهم والحال كذلك لمن أساء للناس بلسانه أو معاملته أو تصرفاته، فإنه يناله مثل هذا والناس شهداء الله في أرضه، يهجرونه ويقاطعونه ويحذرون منه، ويذكرونه بالسوء، والدعاء عليه.
أيها المسلمون: بسبب السمعة السيئة عانى أبناء وذرية وزوجات وأزواج وإخوة وأخوات وأمهات وآباء وأرحام، وكان الحمل ثقيلاً، والتبعات كبيرة، فما بال أقوام عن السمعة الطيبة معرضون ولا يلتفتون، وعن تصحيح الحال وتعديل المسار منشغلون؟ ماذا يرجون؟ هل أمنوا مكر الله؟ أم حسبوا أنهم في هذه الدنيا خالدون؟
فاتقوا الله -عباد الله- وأعدوا للآخرة عدتها، وللقبور ووحشتها، والقيامة وعرصاتها.
التعليقات