السلف والعمل بالعلم

إسماعيل بن عبدالرحمن الرسيني

2024-07-15 - 1446/01/09
عناصر الخطبة
1/فضل تعلُّم العلم وتعليمه 2/رفعة مكانة العلماء 3/ثمرات العلم النافع وأهدافه 4/وجوب العمل بالعلم 5/فوائد العمل بالعلم.

اقتباس

بالعلم والعمل، ترتقي الدول، ويختفي الظلم ويعمُّ العدل، ويعرف العبد مرادَ ربِّه، فيتعبَّد ليرتقي في سُلَّم العبودية، وبهذا تطمئنُّ النفس وينشرح الصدر، ويتيسَّر العسير، وترضي ربك العلي الكبير، ما شرع الله العلم للناس إلا ليكون واقعًا سلوكيًّا حاضرًا في الحياة...

الخُطْبَة الأُولَى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسله الله بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الغُرِّ الميامين، وعلى من أحبَّهم واتَّبَع هديهم إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله؛ فهي وصية الله للأولين والآخرين؛ (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا)[النساء: 131]، وحق وصية الله العمل بها وامتثالها، اللهم ارزقنا تقواك، واجعلنا نخشاك، كأننا نراك.

 

عباد الله: جرت عادة العقلاء النظر لثمرة ما يقدمون عليه وهدفه، فإن كان عزيزًا غاليًا ابتدروه وعملوا به، وإلا ابتعدوا عنه وتركوه، ولقد تضافرت آيات الكتاب المبين، وأحاديث رسول ربِّ العالمين على الحثِّ على العلم وتعَلُّمه، ولقد دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ربَّه بالاستزادة منه، قال -تعالى-: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)[طه: 114].

 

وجعل الله طلب العلم سبيلاً من سُبُل الجنة ومِفْتاحًا للعبادة، أوكل الله لملائكته الاستغفار لمُعلِّم الناس الخيرَ؛ بل حتى الحيتان في البحر تستغفر له، جعل الله للعالم منزلة عالية، فرفع درجته، وجعله من أهل خشيته.

 

ولقد صوَّر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فضل العالم على العابد كفَضْل القمر على سائر الكواكب، فيا ترى ما ثمرة العلم وهدفه يا عباد الله؟! يقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل"، وسُئل سفيان الثوري -رحمه الله-: طلب العلم أحبُّ إليك أو العمل؟ فقال: "إنما يُرَاد العلم للعمل، فلا تدع طلب العلم للعمل، ولا تدع العمل لطلب العلم".

 

عباد الله: بالعلم والعمل، ترتقي الدول، ويختفي الظلم ويعمُّ العدل، ويعرف العبد مرادَ ربِّه، فيتعبَّد ليرتقي في سُلَّم العبودية، وبهذا تطمئنُّ النفس وينشرح الصدر، ويتيسَّر العسير، وترضي ربك العلي الكبير، ما شرع الله العلم للناس إلا ليكون واقعًا سلوكيًّا حاضرًا في الحياة، داعمًا لعمل الخير والإقدام عليه، دافعًا عن العمل المشين مُبعِدًا عنه، وإن كانت الأموال تُقتَنَى لإنفاقها، فإن العالم يُراد للعمل لا للمجادلة والمماراة، والمفاخرة.

 

عباد الله: العملُ بالعلم فِعْلُ سلفِ الأمة، استمع لقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- حينما تكلم عن نفسه وأصحابه يقول: "كان الرجل منا إذا تعَلَّم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن".

 

ولما سُئلت عائشة -رضي الله عنها- عن خُلُق سيد الثقلين، أجابت بأنه العمل بالقرآن، فما يليق بمعلم الخير للعالمين أن يخالف كلام رب العالمين.

 

ومما يدل على أهمية العمل بالعلم، أن الله -تعالى- قرن الإيمان بالعمل الصالح في القرآن أكثر من سبعين مرة، مع أنه داخل فيه، قال الحسن البصري: "لَيسَ الإيمانُ بِالتَّحلي وَلا بِالتَّمَني، وَلكِنَّهُ ما وَقَر فِي القُلُوب وَصَدَّقَته الأعمال".

 

والعمل بالعلم هو عمل المرسلين والصالحين؛ فهذا شعيب -عليه السلام- يقول لقومه -كما حكى الله عنه: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)[هود: 88]، ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- يعمل بالوحي ويكون خُلُقه القرآن.

 

وعمر يأمره -عليه الصلاة والسلام- أن يحبه أكثر من نفسه فيمتثل ويقول الآن، ولما خلع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نعليه في الصلاة خلع الصحابة النعال، ولما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لابن عمر: "نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل"، فما كان ينام من الليل إلا القليل، ولما أرشد عليًّا للتسبيح والتكبير والتهليل قبل المنام، يقول علي: "فما تركتها منذ أمر بها رسول الأنام -عليه الصلاة والسلام-".

 

والإمام أحمد -رحمة الله عليه- يقول: "ما كتبت حديثًا إلا وقد عملت به، حتى مَرَّ بي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم وأعطى أبا عطية دينارًا، فاحتجمت وأعطيت الحَجَّام دينارًا"، ويقول البخاري -رحمه الله-: "ما اغتبت أحدًا منذ علمت أن الغيبة حرام".

 

وإن تعجب فاعجب من هذا الخبر؛ روى الإمام مسلم قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبو خالد -يعني سليمان بن حيان- عن داود بن أبي هند عن النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس، قال: حدثني عنبسة بن أبي سفيان في مرضه الذي مات فيه، قال: سمعتُ أم حبيبة تقول: "مَنْ صلَّى لله ثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة، بني له بهن بيتًا في الجنة"، قالت أم حبيبة: "فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال عنبسة: "فما تركتهن منذ سمعتهن من أم حبيبة"، وقال عمرو بن أوس: "ما تركتهن منذ سمعتهن من عنبسة"، وقال النعمان بن سالم: "ما تركتهن منذ سمعتهن من عمرو بن أوس".

 

الله أكبر، ما أعظم إيمانهم وامتثالهم! ولو قلبت النظر اليوم في حال بعض الناس لا يكترث بالواجبات فضلاً عن المستحبات، ولا ينتهي عن المحرمات فضلاً عن المكروهات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

عباد الله: كلامنا اليوم يخص كل واحد منا، فكل أحد يعلم علمًا ولو كان قليلاً، فماذا عمل بالعلم، ولا شكَّ أن الأوامر منها الواجب والمستحب، والنواهي منها المُحرَّم والمكروه، فازدد -أخي المبارك- من المستحبَّات، وإياك وترك الواجبات، وتخفَّف من المكروهات، وإياك إياك من الوقوع في المُحرَّمات، وإن حصل فأسرع وأنِبْ واستغفر رب البريَّات.

 

عباد الله: لأهمية العمل بالعلم جاء التحذير الشديد لمن خالف الأمر، قال -تعالى-: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النور: 63]؛ أمر الله عباده أن نسأله الهداية للطريق المستقيم، والبعد عن المغضوب عليهم والضالين في كل ركعة في الصلاة، والمغضوب عليهم هم اليهود الذين علموا ولم يعملوا، وقد شبَّه الله عالم السوء الذي لا يعمل بعلمه بوصف بشع تشمئزُّ منه النفس كي ينفر العباد عن سلوك هذا المسلك؛ قال -تعالى-: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[الأعراف: 175، 176].

 

وشبَّه الله اليهود حاملي العلم بدون عمل بالحمار الذي يحمل أسفارًا لعدم تأثير العلم فيهم وفي سلوكهم؛ قال -تعالى-: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[الجمعة: 5].

 

عبد الله: العلم بلا عمل، حجة عليك لا لك، فتنبَّه، يقول أبو الدرداء: "إن أخوف ما أخاف إذا وقفت على الحساب أن يقال لي: قد علمت فماذا عملت؟"

 

ويقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "إذا أراد الله بقوم سوءًا منحهم الجدل ومنعهم العمل".

 

عباد الله: العمل بالعلم له فوائد كثيرة؛ منها:

1- حصول الرفعة في الدنيا والآخرة؛ قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[المجادلة: 11].

 

2- العامل بعلمه لا يضل في حياته، ولا يشقى في آخرته، فكيف يضل مَن تمسَّك بالوحي والهدى؛ قال -تعالى-: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى)[طه: 123]، وكذا يحيا حياةً طيبةً في الدنيا، ويُجزى خير الجزاء في الأخرى، قال -تعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل: 97].

 

3- وتارك العمل بالعلم موعود بالضنك والشقاء بنص كلام الله؛ (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[طه: 124].

 

4- العمل بالعلم من أقوى أسباب حفظه وبقائه لتحوله إلى صورة واقعية مشاهدة محسوسة فأصبحت موصولة بالذهن، مرتبطة بالذاكرة، وبذا يثبت وحي الله في القلب فلا ينسى.

 

5- ومع هجران العمل بالعلم ينسى العلم، فتأمَّل فيما تكرر من الأعمال ورسوخها في ذهنك.

 

6- من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم، وفتح بصيرته وأنار قلبه، قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ)[محمد: 17].

 

 

الخطبة الثانية:

 

عبد الله: مما يعين على العمل بالعلم التكرار؛ لأنه يجعل العمل يسيرًا، فتأمَّل في عبادات تمارسها دائمًا، ثم لترتفع همتك فتضيف لها أخرى، حينها ترتقي في سُلَّم الحسنات، فلو كررت ذكرًا مطلقًا؛ كقول: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، وهي كما لا يخفى على شريف علمكم كلمتان ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، اجعل لسانك ينطق بها كثيرًا يسهل عليك هذا الذكر، ثم انطلق لعبادة أخرى، ثم أخرى، وتأمل في سلفك الصالح حينما كانوا يحافظون على وِرْد من القرآن يقرؤونه وذكر مشروع يحافظون عليه فالحَقْ برَكْبِهم.

 

عبد الله: العلم ثمرته العمل، فتأمل بما أفاء الله عليك من علم ولو كان قليلاً واسأل نفسك عن مدى عملك بعلمك، وتفقَّد توحيدك وصلاتك وعملك، فحاسب نفسك، وأطِع ربَّك تسعد في حياتك وآخرتك، واحذر من خطر ترك العمل، يقول الحسن البصري -رحمه الله-: "هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم"، وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد، قال الله -تعالى-: (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ)[الحج: 18].

 

 اللهم أكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا يا رب العالمين.

 

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life