عناصر الخطبة
1/ كثرة المناهج والجماعات الدعوية 2/ الإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة 3/ سمات السلفية الحقة 4/ معالم المنهج السلفي 5/ تقدير المملكة للمنهج السلفي.اقتباس
لا يُشترطُ في الداعيةِ أن يكونَ مفسّرًا بارعًا كالطبري، أو مُحدثًا حافظًا كالبخاري، أو فقيهًا ذكيًا كالشافعي، ولكنهُ يدعو بحسبِ ما لديهِ من علم، وينصحُ بقدرِ ما عندهُ من فائدة، كان الرجلُ يقدمُ المدينةَ فيتلقى من رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مبادئَ الإسلام، ثُمَّ يعودُ بها سريعًا إلى قومهِ فيصبحُ أستاذهم وشيخهم وإمامهم في الصلاة، إنَّما المحذورُ أن..
الخطبة الأولى:
الحمد لله؛ نحمدهُ ونستعينهُ، ونستغفرهُ، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا، ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لهُ، ومنْ يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ لـه، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدهُ ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَـمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آلعمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعدُ: فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار
أما بعد:
أيها المسلمون: فالساحةُ اليومَ تَزخرُ بالعديدِ من النشاطات الدعوية التي تقيمها دول ومراكز وتيارات إسلاميةِ، كلها في مجالِ الدعوةِ والإصلاح، وقد بذلت ولا تزالُ تَبذلُ جُهودًا لا يُستهانُ بها في سبيلِ هِدايةِ الناس، وتحقيق استجابتهم إلى ما تطرحهُ من قضايا، وما تُنادي بهِ من مبادئَ وأهداف.
ورُبما اشتركت هذه الجهود في أهدافها العُليا، ومبادئها الكبرى، والتي من أبرزِها: عودةُ المسلمين إلى تعاليم الإسلامِ، وعودةُ الإسلامِ إلى الصدارةِ من جديد، فالكلُّ مُتَّفقونَ على هذا الهدفِ، مجتهدون في تحقيقِ هذهِ الغايةِ، لكن تبقى الوسيلةُ أو المنهج، لتحقيقِ الأهداف متباينة الاختلاف، فكلّ يدعي أنه صاحب المنهج الذي كان عليه سلفنا الصالح، وعجيبٌ أن يقعَ الخلافُ في تحديدِ منهجِ السلف، مع أنَّ معالمهُ لا تزال محفوظةً في كتابِ الله، مُسجَّلةً في دواوينِ السنةِ الشريفة، لذا تبقى قضيةُ الانتسابِ إلى منهجِ السلفِ في الدعوةِ والإصلاح، مجرد دعوى تحتاجُ إلى برهانٍ ودليلٍ من كتابٍ أو سنةٍ.
كلا إنَّ السلفيةَ عقيدةً ومنهجًا وسلوكًا، حقٌ مشاعٌ للجميع، فكلُّ من التزمَ بما كان عليه السلف الأولون في عقيدتهم ومنهجهم وسلوكهم، فهو سلفيّ؛ من هُنا كانتِ الحاجةُ ماسةً إلى وضعِ النقاطِ على الحروفِ، وذكر أهمِّ المعالمِ التي قامَ عليها منهجُ السلفِ، في الدعوةِ والإصلاح، مقرونًا بالشواهدِ والأمثالِ، والدليلِ والبُرهان، ليتبينَ وجهُ الحقَّ، فنعض عليهِ بالنواجذِ؛ مطمئنين إلى صحةِ المنهج، وسلامةَ الاتجاهِ، واللهَ نسألَ أن يُريَنَا الحقَّ حقًّا ويرزُقنَا اتباعه، ويُرِيَنَا الباطلَ باطلاً ويَرزُقنا اجتنابه، وأن يُجنبَ المسلمينَ أسبابَ الفُرقةِ والاختلاف، وأن يجمعَ كلمتهم على البرِّ والتقوى، إنَّ ربي سميعٌ قريب.
إنَّ المعْلمَ الأول مِن معالمِ المنهج السلفي: هو العنايةُ بالدليلِ من كتابِ الله وسنةِ المعصومِ -عليه الصلاة والسلام-، معلمٌ مستمدٌ من قولهِ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الحجرات:1] معلمٌ بالغُ الأهميةِ، واضحُ الدلالةِ، إنَّهُ يَعني باختصار، أنَّهُ لا يَحقُّ لأحدٍ كائنًا من كان، فقيهًا أو مُحدثًا أو مفسرًا، كبيرًا أو صغيرًا، لا يحقُّ له أبدًا أن يتكلمَ باسمِ الدين، بعرضِ رأيهِ دليل، وبما يُمليهِ عليهِ هَواه الشخصي، وليس لأحدٍ حقُّ القَوامةِ على هذا الدين، فالدينُ دينُ اللهِ، والحكمُ حكمُ اللهِ، والشرعُ شرعُ الله، والأمرُ أمرُ الله، فلا يُطرحُ رأيٌّ، ولا يُسمعُ قولٌ إلاَّ مقرونًا بالدليلِ من كتابٍ وسُنة، ولو فقهَ المسلمونَ وصيةَ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حيثُ يقولُ: "تركتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تَضلوا بعدي أبدًا، كتابُ اللهِ وسنتي" (أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الألباني).
لو فقهَ المسلمون هذهِ الوصيةِ، لما حدثَ الانحرافُ والضلال، ولما حدثَ الغلوُّ والجفاء، لو اعتنى المسلمون بالدليلِ، لما اضطربت بهمُ الأمواج، ولما هاجت بهمُ الريحُ، ولما قُدّس الأشخاص، ونُسي المنهج، ورحمَ اللهُ ابنُ عباسٍ- ورضي عنهُ- إذ يقولُ: "يُوشَكُ أن تَنزلَ عليكم حِجارةٌ من السماءِ، أقولُ قالَ رسولُ اللهِ، وتقولونَ قال أبو بكرٍ وعمر"، يقولُ هذا في حقِّ من عارضَ بقولِ الشيخينِ قولَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-؛ وهما من الخلفاء الراشدين المهديين الذين يُؤخذ بسنتهم، فكيفَ بمن قدَّمَ رأيَهُ وهواه، ورأي مشايخهِ على كلامِ اللهِ ورسوله، حتى قال قائِلُهم: كلُّ حديثٍ خالفَ كلامُ مشايخنا فهو منسوخٌ أو ضعيفٌ أو مؤولٌ.. إنَّها لمسافةُ بعيدة، وبونٌ شاسعٌ بين هؤلاءِ وبين منهجِ السلف.
وأمَّا المعْلمُ الثاني: الذي يقومُ عليه منهجهم في الدعوةِ والإصلاح، كونُهُ يقومُ على قاعدةٍ متينة، راسخة من العلمِ والفقهِ في الدين. (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) [يوسف: 108].
لذا كان -عليه الصلاة السلام- ينتقي دُعاتهُ انتقاءً، ينتقيهم من العلماءِ الراسخين، وطلبةِ العلمِ النابغين، ها هو ذا يُرسلُ معاذًا وأبا موسى إلى اليمن، لما يَعلمهُ من طولِ باعهما في العلم، ورسوخِ قدميهما فيه، بيدَ أنَّ العلمَ المطلوبَ في الدعوةِ لا يعني الإحاطةَ والشمول، فذاك متعذر أو مستحيل؛ إذ لا يُشترطُ في الداعيةِ أن يكونَ مفسّرًا بارعًا كالطبري، أو مُحدثًا حافظًا كالبخاري، أو فقيهًا ذكيًا كالشافعي، ولكنهُ يدعو بحسبِ ما لديهِ من علم، وينصحُ بقدرِ ما عندهُ من فائدة، كان الرجلُ يقدمُ المدينةَ فيتلقى من رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مبادئَ الإسلام، ثُمَّ يعودُ بها سريعًا إلى قومهِ فيصبحُ أستاذهم وشيخهم وإمامهم في الصلاة.
إنَّما المحذورُ أن يفتخرَ الإنسانُ بما لا يعرف، ويتكلمُ بما لا يُجيدُ، ويفتي بما لا يعلمُ، ويُحللُ ويُحرِّم، ويُبَدِّعُ ويُفسِّق، ويَجرمُ ويَخُون بلا علم، ولا هُدىً ولا كتابٍ مُنير، ويا لمصِيبتنا بأمثالِ شباب حدثاء سن وعلم، يخوضون في ملمات الأمة وعظائم نوازلها، ويقضون فيها، ولو عُرض مثلها على شيخِ الإسلامِ لقدَّم قدمًا وأخَّر أُخرى قبلَ أن يتفوّهَ بكلمةٍ، أو يَخُطَّ حرفًا.
وأمَّا المعْلم الثالث: فهُو البدايةُ بالأصولِ والمُهمات، دون الانشغالِ عن الفروعِ والجُزئيات، فتصحيحُ المعتقدِ، وترسيخُ أُصولِ الإيمانِ، هو ما ينبغي أن تتجهَ إليهِ هممُ الدُعَاةِ أولاً، والتدرج في الدعوة وتطبيق أمور الإسلام في المجتمعات التي بقيت أحكامه بعيدًا عنه لمدة طويلة؛ هذا نبيُّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يوصي مُعاذًا، وهو يُحمِّلهُ أعباءَ الدعوةِ في اليمن: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث معاذًا إلى اليمن، فقال: "إنَّك تأتي قوما أهلَ كتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب" (والحديث أخرجه البخاري وغيره).
إنَّ معاذًا يعلمُ مَن أهلُ الكتابِ، إنَّهُ يعلمُ أنَّهم كانوا يتعاطون الربا، ويأكلونَ السُحت، ويقترفون الكبائرَ، ورُغمَ ذلك لم يبدأ مُعاذٌ مشوارهُ معهم، بتحذيرهم من تلكَ المُوبقات، ولكن فليكن أولَّ ما تدعُوهم إليه، شهادةُ أن لا إلهَ إلا الله، أولَّ ما تدعُوهم إليهِ هو التوحيدُ يا معاذ، قبلَ الصلاةِ؟ نعم، قبلَ الزكاةِ؟ نعم، قبلَ تركِ الربا؟ نعم، ما فائدةَ أن يُصلي اليهودي وهو يقولُ: عزيرٌ ابنُ الله، ما فائدةُ أن يتعففَ اليهودي عن الربا وهو يقولُ: يدُ اللهِ مغلُولة، ما فائدةَ أن يُصلي النصراني وهو يقولُ إنَّ اللهَ ثالثُ ثلاثة، ومثل ذلك من يُصلي وهو مسلم ومع ذلك يستغيثُ بالموتى، ويتوسلُ بالمقبورين، إنَّ الدعوةَ إلى أداءِ الواجباتِ من فروعِ الدينِ، ومجانبةِ المنكرات، يجبُ أن تكونَ محل الاهتمام والدعوة الفورية، ولكن لا تقدم على صفاء العقيدة وجوهر التوحيد، وقد كان الرجل يُسْلم أمام الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويتعلم أمور دينه وعباداته في وقت متتابع متتال.
وأَمَّا المعْلمُ الرابعُ: فهو ضرورةُ الإلمامِ بأحوالِ المدعوين، فتلك ركيزةٌ مهمةٌ من ركائزِ الدعوةِ، وعنصرٌ فاعلٌ في نجاحها، "يا معاذُ: إنَّك تأتي قومًا أهلَ كتاب"، فانتبه يا معاذ، اعرف من سَتُواجه، واعرف من ستُقابل، واعرف من ستُناظر، فدعوةُ الكفارِ تختلفُ أسلوبًا ومنهجًا، عن دعوةِ عُصاةِ الموحدين، فالكفارُ فيهم صليبيون ويهود حاقدون، وفيهم ملاحدةٌ ووثنيون هم أشد الناس عداوة للذين آمنوا، وفيهم أهلُ كتابٍ متعصبون، وفيهم نصارى وأصحاب مذاهب ونِحَل مبتدعة جهال بأديانهم، قلوب فارغة تنتظر النور الرباني ليسكب في كؤوسها العطشى لتهتز وتخضرّ.
وعُصاةُ المسلمين تتباينُ أعمارهم، وتختلفُ ثقافاتُهم، وتتمايزُ عقُولهم، فما يصلُح في مخاطبةِ الشابِ ذي العشرينَ عامًا، قد لا يُلائِمُ صاحب الستين عامًا، وإن كانَ خطأُ الاثنينِ واحدًا، وما ينفعُ في مناصحةِ المُتعلم، قد لا يُفيدُ في محادثةِ الأمي، وطالبُ العِلمِ الذي يُريدُ الحديثَ مخرّجًا، لا يُجدي معهُ إلقاءُ النصحِ جُزَافًا، ورمي الكلامِ على عواهنهِ بل لا بد من إقناعه بالدليل الشرعي؛ (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف: 108].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويضر وينفع، ألا إلى الله تصيرُ الأمور. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: فيا أيَّها المسلمون اتقوا الله وأطيعوه، واعلموا بأن المنهج السلفي ليس حكرًا على جماعة حركية، ولا قوم من المسلمين دون قوم، وإن تسمى به من تسمى، بل هو منهج ذو أسس ومعالم واضحة، كلٌ يقترب منه أو يبتعد بحسب أخذه بتلك المعالم، وقد ذكرت أربعة منها.
وأمَّا المعْلمُ الخامسُ: من معالمِ النهجِ السلفيِّ في الدعوةِ والإصلاح، فهو دعوةُ الناسِ بالحكمةِ، والتي تعني: وضعُ الشيءِ في موضعهِ، ولا تعني الخضوعِ والضعفِ، أو البلاهةِ والدروشةِ، كما أنَّها تَعني الرفقَ واللينَ، فما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نُزع من شيء إلا شانه، وهكذا كانَ منهجُ النبي -صلى الله عليه وسلم- كانَ هينًا لينًا، رحيمًا رفيقًا، في معاملتهِ للأعرابي يومَ انتهكَ قُدسيةَ مسجدهِ، ولوثهُ بنجاستهِ وبوله، لما يَعلمُهُ من جَهلهِ وجفائه، وحاجَتهُ إلى الرفقِ والتعليم، لاستدراكِ ما اعتادهُ من سُلوك، وما نشأَ عليه من طباع.
وكذلكَ كان هينًا لينًا، وهو يحاورُ شابًّا يافعًا دخلَ عليه مجلسه، فقالَ يا رسولَ اللهِ ائذن لي في الزنا، فما نَهرَهُ وما كهره، وما عَنَفَهُ وما سبَّهُ وما شتمه، ولكنَّهُ قرَّبهُ بلطفٍ، وحاورهُ بأدبٍ، أترضاهُ لأُمك؟! أترضاهُ لأُختك؟! أترضاهُ لابنتك؟ لعمتك؟ لخالتك؟ كلُّ ذلكَ والشابُّ يقولُ لا واللهِ يا رسولَ الله، جعلني اللهُ فداك، فمسح على صدره ودعا له، فخرجَ من مجلسهِ، وما شيءٌ أبغضُ إليهِ من الزنا، ولا أحبُّ إليهِ من العفةِ، هذهِ مواقفُ اللينِ حين تقتضيها الحكمة، ويَستدعيها بُعد النظر.
وقد يحتاج الموقف إلى حزمٍ كما حدث من رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مع أسامةَ بن زيدٍ وهو الحب بن الحب، حين التقى رجلاً من المشركين في معركة، وهو لا يدعُ للمسلمين شاذةً ولا فاذة إلاَّ اتبعها، يضربُها بسيفه، فحملَ عليه أُسامةَ، فلمَّا هوى عليه ليقتُله، إذا به ينطقُ التوحيد، فلم يكترث بهِ أسامة فقتله، فبلغَ النبي -صلى الله عليه وسلم- خبرهَ، فأغلظ لأسامةِ وعنَّفهُ، يا أسامةُ، يا أسامةُ أقتلتهُ بعدَ أن قالَ لا إله إلا الله؟ قال: يا رسولَ اللهِ، إنَّما قالها خوفًا من السيفِ، قال هلاَّ شققت عن قلبهِ لتعلمَ أقالها من أجلِ ذلك؟ فما تصنعُ بلا إلهَ إلاَّ اللهِ إذا جاءت يومَ القيامة، فما زالَ يُرددُها ويُرددُها ويرددُها، حتى تمنى أُسامةَ ألاَّ يكون أسلمَ يومهِ ذاك. والحديث أخرجه مسلم.
إنَّهُ موقفٌ يستدعي الشدةَ والحزم، فما كان لدمِ المسلمِ أن يُراقُ بغيرِ وجهِ حق، أو يذهبَ ضحيةَ تقديراتٍ خاطئة، أو اجتهاد شخصي، لكنهُ يبقى غضبًا للهِ تعالى، وفي ذاتِ الله، خوفًا على أُمتهِ من أسبابِ غضبِ الله –تعالى-.
وأذكر أخيرًا وليس آخرًا من معالمِ المنهجِ السلفي، مراعاةُ المصلحةِ والمفسدة، وشواهدهُ أكثر من أن تُحصر، "يا عائشةُ لولا أنَّ قومكِ حديثو عهدٍ بالجاهليةِ لهدمتُ الكعبةَ وبنيتُها على قواعدِ إبراهيم" (رواه مسلم)؛ "يا عُمر لا يتحدثُ الناسَ أنَّ محمدًا يقتلُ أصحابه" (متفق عليه).
وهُناك معالمُ أُخرى، لا يتسعُ المقامُ لذكرها تفصيلاً، فهو منهجُ الصبرِ، مُطَولُ النفس، وهو منهجُ الواقعيةِ وعدمُ المُكابرة، وهو منهجٌ لا يعرفُ الجُمودَ والتقوقع.
وإنَّ من أكبر نعم الله -تعالى- علينا في هذه المملكة أن أولياء أمورها يعلنون دائمًا بأنهم مصرُّون على المنهج السلفي، على ما يلقاه هذا المصطلح من هجوم في أصقاع عديدة في هذه الأرض، حتى من أهل الإسلام أحيانًا، وكان مما صرح به سمو ولي العهد الأمير نايف –رحمه الله- قبل وفاته أنه قال: "إن السلفية الحقة هي المنهج الذي يستمد أحكامه من كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهي بذلك تخرج عن كل ما أُلصق بها من تهم، أو تبناه بعض أدعياء المنهج السلفي، وحسب ما هو معروف بأن هذه الدولة المباركة قامت على المنهج السلفي السوي منذ تأسيسها على يد الإمام محمد بن سعود، وتعاهد مع الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمهما الله-.
ولا تزال إلى يومنا هذا بفضل الله، وهي تعتز بذلك، وتدرك بأن من يقدح في نهجها أو يثير الشبهات والتهم حولها، فهو رجل جاهل يستوجب بيان الحقيقة له، وإيضاح الحقائق تجاه هذا النهج القويم الذي حُمِّلَ زورًا وبهتانًا ما لا يحتمل من كذب وأباطيل ومفاهيم مغلوطة كالتكفير والغلو والإرهاب وغيرها، بشكل يجعل من الواجب علينا جميعًا الوقوف صفًّا واحدًا في ذلك، وأن نواجه تلك الشبهات والأقاويل الباطلة بما يدحضها ويبين عدم حقيقتها.
إننا نؤكد لكم على أن الدولة ستظل -بإذن الله- متبعةً للمنهج السلفي القويم، ولن تحيد عنه ولن تتنازل، فهو مصدر عزها وتوفيقها ورفعتها، كما أنه مصدر لرقيها وتقدمها؛ لكونه يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وهو منهج ديني شرعي، كما أنه منهج دنيوي يدعو إلى الأخذ بأسباب الرقي والتقدم والدعوة إلى التعايش السلمي مع الآخرين واحترام حقوقهم".
اللهم ثبت أولياء أمورنا على ما تحب وترضى، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين، وأرهم الحق حقًّا وارزقهم اتباعه، وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه.
اللهم إنَّا نسألُك إيمانًا يُباشرُ قلوبنا، ويقينًا صادقًا، وتوبةً قبلَ الموتِ، وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ، والشوقُ إلى لقائِكَ في غيِر ضراءَ مُضرة، ولا فتنةً مضلة.
اللهم زينا بزينةِ الإيمانِ واجعلنا هداةً مهتدين، لا ضاليَن ولا مُضلين، بالمعروف آمرين، وعن المنكر ناهين يا ربَّ العالمين. اللهم آمنا في أوطانِنا ودورنا، وأصلح وأئمتنا وولاة أمورِنا وأصلح بهم رعاياهم، يا عزيزُ يا غفور، اللهم أمِّن إخوتنا في سوريا واليمن والعراق وفلسطين وأفغانستان والصومال وفي كل مكان، وأقم شرعك وتوحيدك في كل بلاد المسلمين، واغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين أجمعين.
اللهم صل وسلم وزد بارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات