اقتباس
واستخدم السلطان مراد خطة ذكية لاستدراج الجيوش الصليبية لكمين جرى إعداده بمهارة ومخاطرة -أيضاً- لأن الطعم فيه سيكون السلطان مراد نفسه، ولكنّ الله -عز وجل- نصر جنده وحفظ وليه وتم الكمين بنجاح...
السلطان مراد الثاني: الزاهد العابد منقذ الدولة العثمانية
عندما قامت الدولة العثمانية سنة 699 هجرية وضع مؤسسوها نصب أعينهم هدفًا استراتيجياً وغاية سامية وهي "فتح القسطنطينية". ومن أجل تحقيق هذا الهدف الغالي اتبعوا سياسة توسيع الرقعة الأفقية للدولة الجديدة وذلك بضم إمارات الأناضول المتنافرة -أسيا الصغرى-، وكان لظهور هذه الدولة الإسلامية الجديدة في هذه البقعة الحساسة والملتهبة من العالم القديم أثر شديد وبالغ على أعداء الإسلام الذين عملوا على خط معاكس لجهود العثمانيين في توحيد الأناضول. فقد عملوا على تفريق الاتحاد المنشود وبث الفرقة ونشر العصبية القومية بين أبناء الدولة الوليدة، وكلما وحَّد سلطان عثماني الأناضول قامت الدسائس والمؤامرات التي تعيد الانفراط والتمزق مرة أخرى، حتى جاءت الضربة الموجعة على يد من ينتسب زورًا للإسلام الباطني الخبيث "تيمور لنك" النصيري العلوي الذي هزم جيش "بايزيد" الصاعقة ومزق جسد الدولة العثمانية وأعادها لنقطة الصفر مرة أخرى وذلك سنة 805 هجرية بعد معركة سهل أنقرة.
اجتهد ابن بايزيد الصاعقة؛ السلطان محمد جلبي -وتذكره بعض المراجع شلبي- في إعادة تجميع أشلاء الدولة العثمانية، وجعل كل همه منطقة الأناضول وقضى مدة ولايته (805 -824) في توطيد حكمه والقضاء على الخارجين والثائرين ومحاولات تكريس الفرقة من جانب أمراء الأناضول الذين عادوا لإماراتهم على أسنة رماح النصيري "تيمور لنك".
وبعد وفاة السلطان محمد جلبي تولى مكانه ولده البطل الهمام "مراد الثاني" وكان عمره 18 سنة فقط لا غير، ولكنه أثبت أن البطولة والهمة والنجابة لا ترتبط بسن ولا عمر، وسيكون لهذا البطل الجديد أكبر دور من إنقاذ الدولة العثمانية من السقوط وأعاد هيبتها وقوتها، كما سيكون هذا السلطان العثماني الشاب أول سلطان وخليفة وحاكم مسلم عبر التاريخ يتنازل عن الحكم والسلطنة طواعية مرتين من أجل التفرغ للعبادة والزهد والتأمل.
التعريف به ونشأته
هو السلطان العثماني السادس وخير ملوكهم معز الدين وحامي سياج المسلمين -وهو اللقب الذي منحه إياه الخليفة العباسي بالقاهرة بعد مبايعة مراد الثاني له- بطل معركة فارنا العالمية وقاهر أول وأطول تحالف صليبي أوروبي ضد الدولة العثمانية، الزاهد العابد العالم الحكيم أبو الخيرات مراد الثاني بن محمد جلبي بن بايزيد الصاعقة بن مراد الأول بن أورخان بن عثمان المؤسس، وهو أول من لُقِّب بِالـ «ثاني» من سلاطين آل عثمان، وأول من قُلِّد سيف عثمان الغازي عند البيعة.
وُلد مراد الثاني في مدينة أماسية بِالأناضول سنة 806هـ المُوافقة لِسنة 1403م، وقيل سنة 807هـ المُوافقة لِسنة 1404م، على خلاف بين المؤرخين لا يضر. أمضى مراد الثاني سنوات طُفُولته في أماسية، وفي سنة 1410م انتقل مع أبيه إلى بورصة حيث تلقَّى تعليمه على يد نخبة من المدرسين والعلماء والعسكريين الذين عيَّنهم والده لتأديبه وتربيته، واشتهر خلال هذه الفترة بميوله الدينية والعلمية حيث كان يميل إلى التواضع والتقوى والعُزلة ولوزم الخلوات، بالإضافة اتصافه وحبه للشفقة والعدل وإيثار السلامة مع الجميع.
وحتى يتدرب على الولاية وقيادة الدولة عينه أبوه السلطان محمد جلبي والياً على إيالة الروم وهو ابن اثني عشر سنة وجعله تحت إشراف الصدر الأعظم ليتلقى فنون المنصب وعلومه من أكبر مسئول في الدولة. وهو ابن ستة عشر سنة اشترك في الجيش الذي أخمد فتنة الدجال الصوفي الشيخ بدر الدين السماوني في أزمير، وكانت له آراء إلحادية مع القول بوحدة الوجود وإنكار الغيبيات والمزج بين الإسلام والنصرانية. فأبلى مراد بلاءً حسناً وأظهر نضجاً وكفاءة واعدة.
تولى مراد الثاني مقاليد الأمور في الدولة العثمانية بعد وفاته أبيه السلطان محمد جلبي في جمادى الأولى سنة 824 ه، وكان في الثامنة عشر من العمر فبايعه القادة والأمراء والعلماء وقلَّده العالم شمس الدين محمد البخاري السلطان مراد سيف عُثمان الغازي، فكان أول سُلطان عثماني يُقلَّدُ هذا السيف، واستمرت هذه المراسم مئات السنين من بعده.
مولد قائد عظيم وبداية الملاحم
مراد الثاني تلقى تربية خاصة مركزة بغية تأهيله للمهام الجسيمة والتكليف الثقيل الذي سيتولاه بعد رحيل أبيه، لذلك كان معني من أول يوم لولايته بإعادة أمجاد الدولة العثمانية وترميم بنيانها من جديد، واستعادة ما تبقى من الأملاك التي خسرتها الدولة في الأناضول بعد نكسة سهل أنقرة سنة 803 ه، فعمل على توحيد الأراضي العثمانية، وإنشاء جيش قوي واقتصاد متين، وترسيم حدود واضحة لدولته في وجه أوروبا الصليبية المُتوثِّبة والتي تتربص بالدولة الدوائر من كل اتجاه.
وحتى يتفرغ لهذه لحل المشكلات الداخلية وتوحيد الصف هادن الدول الأوروبية، فعقد معاهدة مع مملكة المجر مدتها خمسة أعوام، وتفاهم مع أهل جنوة جنوب إيطاليا الذين وعدوه بِإمداده بالسفن والبحارة، كما اقترح على الإمبراطور البيزنطي عمانويل الثاني تجديد معاهدة السلام التي سبق وأن وقَّعها والده من قبل، فوافق الإمبراطور البيزنطي على عرض مراد الثاني ولكن كان في نيته الرفض واختلاق الأعذار اللازمة لإلغاء المعاهدة، فاشترط لتمديد المعاهدة قيام مراد الثاني بتسليمه الأميران الصغيران محمود ويوسف، شقيقا السلطان مراد، وكان هذا المطلب الغريب بهدف إبقائهما رهينتين بيد بيزنطة كورقة سياسية يستخدمها الإمبراطور للضغط والتهديد بهما، ومن الواضح أن السلطان مراد أدرك هذا، فرفض الطلب الغريب، وردَّ على طلب بيزنطة بأن الإسلام لا يسمح بإيداع أولاد المسلمين لتربيتهم عند النصارى، وكان هذا الرفض كافيًا لتفجير الأعمال العسكرية.
بيزنطة وتمويل حركات التمرد
كانت أوروبا الصليبية عمومًا والدولة البيزنطية خصوصًا تعلم علم اليقين أن الدولة العثمانية ما قامت ولا تكونت إلا بغرض نشر الإسلام في أوروبا، وأن الروح الإيمانية والجهادية التي تملأ صدور العثمانيين سترجح كفتهم في ميادين القتال وستصل بهم لتحقيق أهدافهم بإذن الله وحده، من أجل ذلك عملت أوروبا على تشجيع حركات التمرد والاستقلال المستمرة داخل أقاليم الدولة العثمانية وخاصة الأناضول.
كان الأمير "مصطفى بن بايزيد" عم السلطان "مراد الثاني" لاجئًا وشبه مسجون عند إمبراطور بيزنطة "عمانويل الثاني" منذ فترة طويلة، بعد أن ساد الاعتقاد أنه قد قُتل في معركة سهل أنقرة سنة 803ه. فقام "عمانويل" بتجهيز الأمير الدمية "مصطفى" بأسطول بحري وعدد كبير من الجنود، وفي المقابل تعهد له الأمير مصطفى كتابياً بردّ كل الأراضي التي فتحها العثمانيون في أوروبا.
وقام الخائن "مصطفى" بمهاجمة ميناء "غاليبولي" على مضيق الدردنيل وفتحها وواصل السير حتى "أدرنة" وقتل الصدر الأعظم "بايزيد باشا" بعد معارك شرسة وخسائر ضخمة، وانفرط عقد ولايات الأناضول مرة أخرى، فأسرع السلطان "مراد الثاني" على رأس جيش كبير، واستخدم مراد الثاني دهاءه السياسي في تفريق صف أتباع الخائن مصطفى جلبي، واستعمل مع قادة جنده وأمرائه الحيلة والاستدراج حتى أقنعهم أن هذا الرجل ليس عمه مصطفى بن بايزيد الذي استشهد في معركة سهل أنقرة، وأنه دعيّ كذاب، وبالفعل استمال معظم قادته وكبار جنده، فلما تراءى الجيشان انحاز كثير من جنود الخائن إلى صف السلطان مراد الثاني، فلم يقع أي قتال، وفر الخائن من الميدان، ولكن ما لبث أن تم القبض عليه وإعدامه نظير خيانته.
ردّ السلطان مراد الثاني على التحريض البيزنطي بإعداد حملة عسكرية كبيرة لتأديب الدولة البيزنطية، وبالفعل حاصر العاصمة القسطنطينية في رمضان سنة 825 ه وشدد في الحصار حتى كاد أن ينال شرف فتحها قبل ابنه " محمد الفاتح"، ولولا خيانة أخيه الأصغر منه الأمير مصطفى بن محمد جلبي، وتكرار سيناريو عمه مصطفى الكبير، مما أدى لرفع الحصار عن القسطنطينية والعودة سريعاً إلى الأناضول لتدارك الفتنة قبل تفاقمها، وبالفعل في القضاء على فتنة أخيه الأصغر الأمير مصطفى بن محمد جلبي، فنجت القسطنطينية وبقيت في حوزة البيزنطيين لِمدة إحدى وثلاثين سنة أُخرى، إلى أن فتحها السلطان محمد الفاتح. وكان هذا الحصار السادس، هو آخر حصار فرضه المسلمون على القسطنطينية قبل فتحها.
توحيد إمارات الأناضول
كان هدف "مراد الثاني" الأول هو توحيد منطقة الأناضول المبعثرة تحت حكم أمراء الأهواء والأطماع، فبدأ بإمارة القرمان التي كانت دائمًا صداعًا في رأس سلاطين بني عثمان، فعقد صلحًا مع أميرها وزجه من شقيقته الأميرة العائدة خاتون ليضمن ولاءه بالمصاهرة، ثم سيطر على إمارات آيدين ومنتشا وصاروخان وكرميان التي أوصى أميرها قبل موته بانضمامها إلى الدولة العثمانية حيث لم يكن له من يخلفه، وشعر بالندم بالاستقلال عن الدولة العثمانية وأراد أن يصحح خطأه قبل موته، وانضم أيضًا إقليم الحميد، أما أمير قسطموني فقد وجد نفسه في موقف حرج إذ كان يدعم ثورة الأمير "مصطفى" وخاف من عواقب ذلك فأسرع بالتنازل عن نصف إمارته للدولة العثمانية وصاهر "مراد الثاني".
وبذلك انتهت مشاكل الأناضول -مؤقتاً كما سنعرف- وأصبح السلطان "مراد الثاني" متفرغًا للجهاد في أوروبا.
حروب أوروبا شرقاً وغرباً
لك أن تتخيل أن السلطان مراد الثاني قد ظل في قتال مستمر بلا توقف على الجبهة الأوروبية الشرقية والغريبة في نفس الوقت أكثر من عشرين سنة متصلة بلا هوادة أو راحة!!
البداية كانت مع فتح مدينة "سلانيك" الكبيرة التابعة للدولة البيزنطية وضمها لأملاك العثمانيين وذلك سنة 833 هجرية، وأصبحت من يومها جزءًا لا يتجزأ من الدولة العثمانية حتى وقتنا الحاضر. بعدها اتجه "مراد الثاني" للقضاء على بؤر التوتر والتمرد في بلاد البلقان والمدعومة من الدولة البيزنطية. هذه الضربات القوية أثارت مخاوف ملك الصرب "ستيف لازار فيتش" فأسرع بإعلان خضوعه للدولة العثمانية ودفع الجزية.
واصل "مراد الثاني" صولاته وضرباته الجهادية في منطقة البلقان، واتجه هذه المرة إلى بلاد الأرناؤوط "ألبانيا" فاستولى على الجزء الجنوبي منها واستعصى الجزء الشمالي على الفتح، والسر وراء ذلك وقوف كل القوى الصليبية الأوروبية خلف الألبان ضد المسلمين، خاصة تجار البندقية الذين كانوا أخبر الناس بخطورة الفتح الإسلامي لهذه البلاد التي تتميز بموقعها الاستراتيجي الحيوي والهام والمتحكم في بحر "الأدرياتيك".
منطقة البلقان قبل ظهور الدولة العثمانية كانت تابعة للدولة المجرية التي كانت تمتد أملاكها لتشمل المجر وبولندا والتشيك وألبانيا ويوغسلافيا، وكانت الدولة البيزنطية قد بلغ بها الوهن والضعف حتى أصبحت مجرد اسم طنان لدولة عريقة الماضي وواهية الحاضر، أما القوة الحقيقية والنفوذ الفعلي فكان لملوك المجر الذين ظلوا لفترة طويلة رأس الحربة في الصراع بين الدولة العثمانية المسلمة وأوروبا النصرانية.
وقع الصدام عدة مرات بين الدولة العثمانية ومملكة المجر قبل عهد "مراد الثاني"، ولكن الصدام الأول بين "مراد الثاني" والمجريين كان في منتهى القوة وذلك سنة 842 هجرية وأسفر عن هزيمة مروعة للمجريين، قتل فيها وأسر سبعون ألفًا من المجريين، وكان ملك الصرب "ستيف" الموالي للعثمانيين قد مات قبل ذلك وحل مكانه صربي حاقد وكاره بشدة للعثمانيين وهو "جريج برانكوفيتش" فخلع طاعة الدولة العثمانية وتعاون مع المجريين، فلما هزم "مراد الثاني" المجريين استدار إلى الصرب وحاصر "بلجراد" عاصمة الصرب ستة أشهر ولكن لم يتمكن من فتحها، وكان هذا الحصار سببًا مباشرًا في الحملة الصليبية الجديدة على الدولة العثمانية.
الحملة الصليبية الطويلة
مصطلح الحملة الصليبية الطويلة يطلق على الحملة التي اشترك فيها كرسي البابوية أيام البابا أوجين الرابع مع مملكة المجر والصرب وألمانيا ورومانيا والتشيك والطليان والإسبان والانجليز والفرنسيين بالإضافة للدولة البيزنطية والتي عرضت على البابا توحيد الكنيستين الشرقية والغربية من أجل قتال المسلمين، وشكلوا بذلك المزيج الكاثوليكي الأرثوذكسي تحالفاً دينياً صليبياً من أجل القضاء على الدولة العثمانية.
تحركت القوات الصليبية المتحدة وعبرت نهر "الدانوب" من ناحية الجنوب ولم تكن الجيوش العثمانية وقتها مستعدة لخوض معركة مع هذا العدد الضخم من الجنود الحاقدين الموتورين ضد الإسلام عمومًا والعثمانيين خصوصًا، فوقعت الهزيمة الشديدة بقدر الله -عز وجل- وحده على المسلمين سنة 846 هجرية واستشهد عشرون ألفًا من المسلمين، وحاول "مراد الثاني" إعادة الكرة للثأر من الهزيمة، ولكن على عجل ودون استعداد كاف، فوقعت هزيمة فظيعة على المسلمين أنكب من الأولى استشهد وأسر فيها ثمانون ألفًا من بينهم "محمود شلبي" القائد العام للجيوش العثمانية وزوج ابنة "مراد الثاني".
أجبرت تلك الهزائم الأليمة السلطان "مراد الثاني" أن يقبل معاهدة الصلح مع الأوروبيين تنازل بموجبها عن عدة مدن في رومانيا وبلغاريا والصرب واعترف بالكلب الحاقد "جريج برانكوفيتش" أميرًا على الصرب، وحررت وثيقة الصلح باللغتين العثمانية والمجرية.
اعتزال السلطان مراد الثاني
شعر السلطان مراد الثاني بِالتعب من مواصلة الحروب وكثرة المُشكلات الداخليَّة والخارجيَّة ولكن موت ابنه البكر وولي عهده علاء الدين عليّ في ريعان شبابه، والذي كان يُعدُّه لخلافته، قد تركت لديه شعورًا حادًا بالسَّأم، فرأى أن يعتزل السياسة، وتنازل عن العرش لابنه الفتى محمد الثاني، البالغ أربعة عشر عامًا من العُمر، إذ كان أكبر أولاده الذكور وأرشدهم، وكان ذلك بعد حوالي شهرين من توقيع معاهدة الصلح مع الصليبيين.
وبذلك أصبح السلطان مراد أول سلطان يتخلى عن العرش بمحض إرادته، ثم سافر إلى جانب ولاية مغنيسيه للإقامة بعيدًا عن هموم الدنيا وغمومها، واعتزل فيها للعبادة والتأمل في خلوة خاصة به، وبقي في خدمة السلطان الجديد عدد من خواص مراد الثاني وموضع ثقته.
عودة الأسد ومعركة فارنا العالمية
كانت المعاهدة التي وقعها "مراد الثاني" مع الأوروبيين، من الأمور التي ساعدته على اتخاذ قرار الاعتزال، ذلك لأنها تضع أوزار الحرب عشر سنوات يكون خليفته الصغير "محمد الثاني" قد اشتد عوده فلا يستهين به أعداؤه، ولكن "مراد الثاني" لم يدرك مدى الحقد الصليبي المترسخ في نفوس الأوروبيين، فنار قلوبهم لا تنطفئ أبدًا ضد المسلمين.
فما إن تنامت أخبار اعتزال مراد الثاني الحكم وانقطاعه للعبادة والزهد، حتى سارع البابا "أوجين الرابع" بإيفاد الكاردينال "سيزاريني" وهو رجل من كبار مساعديه ويتقد عزمًا ونشاطًا لتطهير أوروبا من الوجود الإسلامي، وقد كلَّفه بمهمة خاصة وهي إقناع ملوك وأمراء أوروبا خاصة ملك المجر، بوجوب نقض المعاهدة مع المسلمين.
فانطلق "سيزاريني" يجوب أوروبا طولًا وعرضًا بمنتهى النشاط والهمة، واستخدم المؤثرات الدينية لإقناع ملوك أوروبا بالنقض مثل: أن المعاهدة باطلة لأنها عقدت بدون إذن البابا وكيل المسيح في الأرض! وأن البابا سوف يبرئ ذمتهم من الآثام والخطايا الناجمة عن نكث العهد، وأن البابا سوف يعطي صك غفران لكل من يقوم بنقض العهد مع المسلمين ومحاربتهم. وبالفعل استجاب ملك أوروبا لدعوات النقض، وأعلن البابا قيام الحرب الصليبية الجديدة ضد المسلمين.
ودائمًا أعداء الإسلام يستغلون الفرصة المواتية للنيل من المسلمين، فعندما شعروا أن الساحة قد خلت من الأسد القوي والقائد المجاهد، أعلنوا نقض العهود وخيانة المواثيق ونكث الأيمان؛ فهم كما قال الله عز وجل: (لَا أَيْمَانَ لَهُمْ) [التوبة: 12]، ومع أول بادرة ضعف وتراجع واختلاف بين المسلمين تنكشف الحقيقة ويخرج مكنون الصدور فتسقط الأقنعة وتختفي غصون الزيتون وحمائم السلام وتظهر الصقور والذئاب وتقام المذابح والمشانق.
الخروج من الخلوة والعودة إلى الميدان
وصلت أخبار الحملة الصليبية الضخمة إلى مسامع الأسد الرابض في معتكفه، وجاءه رجال الدولة يشرحون خطورة الموقف وصغر سن "محمد الثاني" عن أمثال تلك المهام الجسيمة، فرفض مراد الثاني الخروج حتى لا يكسر ولده أمام الناس، ولكن مع إلحاح محمد الثاني نفسه على أبيه استجاب للطلب، وقرر "مراد الثاني" أن يخرج من معتكفه ويقود الجيوش المسلمة لمواجهة هذا العدوان الصليبي، وقرر في خطوة ذكية وجريئة أن ينقل الصدام إلى قلب الجبهة الأوروبية، فاتفق مع أسطول "جنوة" لينقل جيشه المكون من أربعين ألف مقاتل من آسيا إلى أوروبا تحت سمع ومرأى التحالف الصليبي في مقابل دينار لكل جندي.
ومرة أخرى يضرب لنا "مراد الثاني" أروع الأمثلة فميا يحتاجه أي حاكم مسلم في الموازنة بين المصالح والمفاسد، وحيث إنه ترك مصلحته الخاصة وانفراده بالعبادة وتلذذه بها لصالح المصلحة العامة لأمة الإسلام، فلم يؤثر نفسه وعبادته على مصالح أمته العليا، وعلم أن فريضة الوقت هو الجهاد في سبيل الله وليس الانكفاء على النفس والانقطاع في الخلوات، خاصة في مثل هذا الظرف الطارئ الدقيق الذي يحيط بالأمة، ثم يعلمنا "مراد الثاني" درسًا كبيرًا في كيفية الاستفادة من خلافات الأعداء فيما بينهم لصالح خدمة الإسلام، فإمارة "جنوة" رفضت نقض المعاهدة، وحرم البابا أمراءها من المغفرة! فوقع بينهما الخلاف الشديد الذي عرف "مراد الثاني" كيف يوظفه لصالح المسلمين.
وصل التحالف الصليبي بقيادة ملك المجر إلى مدينة "فارنا" ببلغاريا وكانت تحت السيطرة العثمانية واحتلوها وقاموا بمذبحة مروعة للمسلمين بها، وخاف سكان مدينة "أدرنة" وكانت قريبة من "فارنا" من هجوم الصليبيين عليهم، ولكن وصول المسلمين بقيادة "مراد الثاني" ثبت قلوب المسلمين هناك وقوى عزائمهم، وجاء المتطوعون للجهاد في سبيل الله من كل مكان واستعد الفريقان للصدام.
قبل الصدام قام السلطان "مراد الثاني" بوضع المعاهدة التي نقضها الصليبيون على رأس رمح طويل ليشهد الجميع على الغدر والعدوان، وفي 28 رجب سنة 848 هجرية اندلعت معركة "فارنا"، واستخدم السلطان مراد خطة ذكية لاستدراج الجيوش الصليبية لكمين جرى إعداده بمهارة ومخاطرة -أيضاً- لأن الطعم فيه سيكون السلطان مراد نفسه، ولكنّ الله -عز وجل- نصر جنده وحفظ وليه وتم الكمين بنجاح.
وقد أصيب فرس ملك المجر فوقع من على صهوته فأسرع بعض المجاهدين وحز رأس ملك المجر ورفعها على رمح مهللًا ومكبرًا وقال للأعداء: "أيها الكفار، هذا رأس ملككم"، وكان لهذا المشهد وقع هائل في نفوس الصليبيين، انهارت بعدها العزائم وولوا مدبرين، ووقع فيهم الأسر والقتل، وكان رأس الفتنة "سيزاريني" من ضمن القتلى ولاقى هو وغيره عاقبة الغدر والخيانة ونقض العهود.
أرسل مراد الثاني مُبشِّرين إلى السلاطين والأُمراء المُسلمين في أرجاء العالم الإسلامي يُعلمهم بانتصاره الأخير، فعمَّت الاحتفالات أرجاء العالم الإسلامي، وكان المبشر المرسل إلى السلطان المملوكي سيف الدين جقمق هو «عزب بك» من خواص السلطان مراد، وأرسل معه خمسة وعشرين أسيرًا صليبيًّا، فسُرَّ السلطان المملوكي سرورًا عظيمًا، وأمر في الجمعة الأولى من وصول الخبر إلى القاهرة بِذكر اسم السلطان مراد - مجاملة- بعد اسم الخليفة العبَّاسي أبو الربيع سليمان المستكفي بالله، في الخطبة، وبالدعاء لأرواح العثمانيين الذين قضوا نحبهم، في كافَّة الأقطار المملوكيَّة، وأُقيمت الاحتفالات في مصر.
وكان من نتيجة المعركة أن عادت بلاد البلقان مرة أُخرى إلى الحكم العثماني، وخُطَّ مصير الإمبراطورية البيزنطية، إذ لم يبق لها بداية من هذا التاريخ سوى تسع سنواتٍ من العمر، وأصبح من المؤكد أن العثمانيين لا يمكن قلعهم من أوروبا الشرقية، كما كان موت ملك المجر دون وارث أحد أهم وقائع التاريخ الأوروبي، فقد انفصلت إثر ذلك مملكتا بولندا والمجر عن بعضهما وحرصتا، منذ ذلك التاريخ، على عدم الظهور أمام الدولة العثمانية كدولة واحدة، كما أُخرجت بلاد المجر لسنوات طويلة من معادلة الصراع الأوروبي-العثماني.
بعد هذا الانتصار العالمي نزل السلطان مراد الثاني عن الحكم مرة ثانية وعاد إلى معتكفه؛ عابداً قائماً تالياً متدبراً، لأن رغبته في ذلك كانت رغبة حقيقية نابعة من صميم قلبه، ولكنه هذه المرة لم يهنأ "مراد الثاني" بخلوته وجميل الذكر والمناجاة إلا أياماً قلائل حتى اضطرته الظروف مرة أخرى للخروج من معتكفه، وهذه المرة للقضاء على تمرد الإنكشارية الذين استخفوا بولده "محمد الثاني" وأفسدوا في الأرض، وكذلك تمرد "إسكندر بك" أمير ألبانيا فخرج لكلا الفريقين الأسد الزاهد العابد، ليقمع الفتنة قبل استفحالها، وبالفعل كان مجرد ظهوره على الساحة كفيلًا بأن تلزم الفئران جحورها وتنتهي الفتنة في مهدها.
استبان للسلطان "مراد الثاني" من سياق الأحداث المتكررة أن بقاءه في السلطنة خير وأنفع له وللأمة الإسلامية وأرجى وأنفع له عند الله -عز وجل-، فبقي في الحكم بعض سنوات قضاها في الغزو والجهاد حتى توفاه المولى -جل وعلا- في 7 محرم سنة 855 ه بعد قرابة الثلاثين سنة من الجهاد في سبيل الله.
تتجلى أهمية السلطان مراد الثاني في جانبين: الأول هو إعادته الدولة العثمانية إلى سابق مجدها وقوتها، كما كانت قبل هزيمة أنقرة على يد تيمور لنك، مما جعله جديرًا في حمل لقب الباني الثاني للدولة العثمانية ومنقذها من السقوط والتفكك.
أما أهمية مراد الثاني الأخرى فتتجلى بالجانب الثقافي، إذ سجل عهده نهاية الثقافة العثمانية المتأثرة بالثقافة الفارسية، حيث شرع في كتابة العلوم والآداب باللغة التركية مما جعلا لغة عالمية تحظى بالقبول والرواج بسبب قوة الدولة العثمانية في حينها.
فقد حوَّل مراد الثاني قصره إلى نوعٍ من الأكاديمية العلمية، إذ كان تحصيله العلمي ممتازًا، وكان يمتلك مكتبة شخصية، جمع فيها الكثير من الكتب القيمة المنسوخة، وفي مقدمتها الملاحم القومية والدينية القديمة نظرًا لدورها السياسي والاجتماعي، كما اهتم بالكتب السياسية من كلاسيكيات الثقافة الإسلاميَّة.
وكان مراد الثاني من أكابر المهتمين بالإعمار، فأنشأ عدة جوامع وكليات ومدارس في بورصة وأدرنة، ومن أبرز الإنجازات المعماريَّة التي تمت في عهده: جامع دار الحديث، ومسجد الشرفات الثلاث ومدارسه، وجسر أوزون كوبري على نهر أركنة الذي استغرق تشييده 16 سنة وكان طوله 392 مترًا. ومن الجدير بِالذِكر أنَّ أغلب مشاريع مراد الثاني المعماريَّة شيِدت بِأموال الغنائم التي عادت بها الجيوش العثمانية من حروبها مع الأوروبيين.
أيضا كان مراد الثاني واسع العطاء بحيث خصص لعمارة الحرمين الشريفين مبالغاً سنوية ثابتة.
وأجمع وصف للسلطان مراد الثاني ما ذكره أكبر مؤرخي العصر ومؤرخ الدولة المملوكية؛ المؤرِّخ ابن تغري بردي عندما قال: "وكان خير ملوك زمانه شرقًا وغربًا، مما اشتمل عليه من العقل والحزم والعزم والكرم والشجاعة والسؤدد، وأفنى عمره في الجهاد في سبيل الله -تعالى-، وَغزا عدة غزوات، وفتح عدة فتوحات، وملك الحصون المنيعة، والقلاع والمدن من العدو المخذول".
التعليقات