عناصر الخطبة
1/تأملات في مشاهد مروعة 2/دروس وعِبَر من الزلزال والإعصار 3/ليس كل بلاء عقوبة 4/من عطايا البلاء ومِنَحه 5/كثرة الزلازل والأعاصير من علامات قرب قيام الساعة 6/وجوب الترابط بين المؤمنين 7/من أعظم حواجب الرحمة.اقتباس
الأحداث الكونية كلها كالزلازل البراكين والعواصف وغيرها تقع بإرادة الله وتقديره فهو القدير، ولا تأثير للطبيعة وحدها في حدوثها دون تقدير الله، نعم هناك أسباب طبيعية لها لكنها لا تقع إلا بتقدير مسبّبها، وهو الله الواحد القهار...
الخطبةُ الأولَى:
أيها الإخوة: مشاهدُ مروعة وصورٌ مفجعة، وآثارٌ مدمّرة مؤلمة، شاهدها العالم عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي للزلزال المدمر الذي وقع في المغرب.. بيوت كانت عامرة بساكنيها سُوِّيت بالأرض فأمست ركامًا، وعمائر شاهقة سُوِّيت بالأرض، وشقوق عميقة في المدن والبراري والطرق ابتلعت ما فوقها..
وبُنًى تحتية أُبيدت عن آخرها فأصبحت ركاماً، وأُنفسٌ تحت الركام طمرت ما بين ميت وحبيس وجريح.. فما من أحد من الناس في أماكن الزلزال إلا أُصيب؛ فهم بين قتيل أو جريح أو مفقود، ومن نجى أمسى شريداً لا يلوي على شيء.. فقَد المأوى وربما فقد الأسرة كاملة..
ثم ما أصاب ليبيا من إعصار دانيال وصُوَره المروعة وأصوات الإعصار المرعبة، وفيضانات أغرقت البلاد، ودمرت الأعاصير ما تم تشيده خلال عقود في لحظات، وهلك الآلاف وفُقِدَ أضعافهم في الحادثين؛ فرحماك ربنا، رحماك بإخواننا، اجعل موتاهم من الشهداء، وأعد مفقودهم، واشف جريحهم وآوي مشردهم.
أيها الإخوة: إن ما أصاب الأمة من زلزال وأعاصير مدمرة يحمل في طياته مِنَحًا ومِحَنًا، فحريٌّ بالمؤمن أن يقف معه متأملاً معتبراً..
وأول ما يجب على المؤمن أن يعلمه أن الزلازل آية من آيات الله، يُقدّرها ويخلق أسبابها متى شاء وكيف شاء وأين شاء، ويرسلها تخويفاً للكافرين، وابتلاء للمؤمنين، وعتاباً للمقصرين، والمذنبين، وتثبيتًا للتائبين..
ثم اعلموا أن الأحداث الكونية كلها كالزلازل البراكين والعواصف وغيرها تقع بإرادة الله وتقديره فهو القدير، ولا تأثير للطبيعة وحدها في حدوثها دون تقدير الله، نعم هناك أسباب طبيعية لها لكنها لا تقع إلا بتقدير مسبّبها، وهو الله الواحد القهار.
وعلينا أن نعلم علم اليقين أنه ليس كل بلاء عقوبة؛ فقد ابتلي الأنبياء والرسل وأصحابهم وهم خيار عباد الله.. وكتابُ الله وسنةُ رسولِه والتاريخُ خير شاهد على نزول الفواجع فيهم من باب الابتلاء.. ولم تزل الفتن تترى على أمة الإسلام ليبلوها الله وينضجها وينقيها أولاً بأول..
وفي المقابل أرشد الله -تعالى- عباده للصبر، وبشرهم بعواقبه الحميدة؛ فقال: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)[البقرة: 155 - 157].
فمن وفَّقه الله للصبر عند وجود هذه المصائب، فحبس نفسه عن التسخُّط، قولاً وفعلاً واحتسب أجرها عند الله، وعلم أن ما يُدركه من الأجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت له، بل المصيبة تكون نعمة في حقّه؛ لأنها صارت طريقاً لحصول ما هو خير له وأنفع منها، فقد امتثل أمر الله، وفاز بالثواب، فلهذا قال -تعالى-: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)؛ أي: بشِّرهم بأنهم يُوَفَّوْن أجرهم بغير حساب.. فالصابرون هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة والمنحة الجسيمة.
أيها الإخوة: ومن أعظم العطايا التي يمنحها الله -تعالى- لعباده بِسَبَبِ الزلزال أنه يَصْطَفِي من عباده المؤمنين شُّهَداء؛ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: المَطْعُونُ، وَالمَبْطُونُ، وَالغَرِقُ، وَصَاحِبُ الهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"(رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).
وَعَنْ جَابِرَ بْنَ عَتِيكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا تَعُدُّونَ الشَّهَادَةَ؟"، قَالُوا: الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ، وَالْغَرِقُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ، وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ الْحَرِيقِ شَهِيدٌ، وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدٌ"(رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني).
والمعنى: "الشَّهَادَةُ سَبْعٌ" أي الذين لهم أجر الشهيد وثوابه سبعة أنواع من الموتى، المَطْعُونُ الذي يموت بسبب وباء عام، وَالمَبْطُونُ من مات بسبب مرض أصابه في بطنه، وَصَاحِبُ الهَدْمِ أي الذي يموت تحت الهدم، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ هي: هِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَمُوتُ وَفِي بَطْنِهَا وَلَدُهَا، وقيل: إذا ماتت من النفاس فهي شهيدة سواء ألقت ولدها وماتت، أو ماتت وهو في بطنها.. وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي الذي يقتل في القتال مع الكفار بقصد إعلاء كلمة الله -عز وجل-.
وهذا الوعد من رسولنا -صلى الله عليه وسلم- يهون على المصابين مصابهم ويسليهم، فمن أيقن أن ما عند الله -تعالى- خير لأهل البلاء من حطام الدنيا بأكملها ازداد قربًا من الله وتوفيقًا.
أيها الإخوة: ومما ينبغي لنا كذلك: شكرُ اللهِ -تعالى- على ثَبات الأرضِ التي نعيش عليها وقرارها؛ فقد قال: (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)[النمل:61].
قال الشيخ السعدي: "أي: يستقر عليها العباد ويتمكنون من السكنى والحرث، والبناء، والذهاب، والإياب. (وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا)؛ أي: جعل في خلال الأرض أنهاراً ينتفع بها العباد في زروعهم وأشجارهم، وشربهم وشرب مواشيهم".
وقالَ -تعالى-: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً)[غافر:64]؛ قال ابن كثير: "أَيْ: قَارَّةً سَاكِنَةً ثَابِتَةً، لَا تَمِيدُ وَلَا تَتَحَرَّكُ بِأَهْلِهَا وَلَا تَرْجُفُ بِهِمْ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمَا طَابَ عَلَيْهَا الْعَيْشُ وَالْحَيَاةُ، بَلْ جَعَلَهَا مِنْ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ مِهَادًا بِسَاطًا ثَابِتَةً لَا تَتَزَلْزَلُ وَلَا تَتَحَرَّكُ".
ثم لنعلم أن هذه الزلازل والأعاصير آية من آيات الله -تعالى- يخوّف بها عباده، وعلامة من علامات قرب قيام الساعة؛ فهي من أشراط الساعة الصغرى؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلاَزِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الهَرْجُ وَهُوَ القَتْلُ، وَحَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ المَالُ فَيَفِيضَ"(رواه البخاري).
وَعن سَلَمَة بْن نُفَيْلٍ السَّكُونِيّ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقَالَ: "إِنِّي غَيْرُ لَابِثٍ فِيكُمْ، وَلَسْتُمْ لَابِثِينَ بَعْدِي إِلَّا قَلِيلًا، وَسَتَأْتُونِي أَفْنَادًا، يُفْنِي بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَبَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مَوْتَانٌ شَدِيدٌ، وَبَعْدَهُ سَنَوَاتُ الزَّلَازِلِ"(رواه ابن حبان وصححه الألباني).
ثم لنحذر كل الحذر من الشماتة بمن أُصيب من المسلمين بها أو ننحي باللوم عليهم؛ فالله -تعالى- أعلم وأحكم؛ يصيب بهذا البلاء من يشاء ويصرفه عمن يشاء.
ثم لنعلم أن هذه الآيات نذير للتائب ليثبت على توبته ويحمده عليها، ونذير للعاصي بأن يتوب ويرجع..
اللهم اجعل ما أصاب إخواننا المسلمين المتضررين كفارة لهم وأخلفهم في عقبهم في الصالحين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: ومن أعظم حقوق المسلم على المسلم إحساسه بمصيبة إخوانه ورحمتهم؛ فالمؤمنون إخوة؛ قال الله -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الحجرات:10]. قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: "هذا عقدٌ عقده الله بين المؤمنين، أنه إذا وجد من أيِّ شخص كان، في مشرق الأرض ومغربها، الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فإنه أخٌ للمؤمنين، أُخوةٌ توجب أن يحب له المؤمنون ما يحبون لأنفسهم، ويكرهوا له ما يكرهون لأنفسهم.
ولهذا قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- آمرًا بحقوق الأخوة الإيمانية: "لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا"؛ وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ "بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ"(رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).
وقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا"؛ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.(رواه البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).
ولقد أمر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، بالقيام بحقوق المؤمنين بعضهم لبعض وبما يحصل به التآلف والتوادّ والتواصل بينهم، كل هذا تأييدٌ لحقوق بعضهم على بعض.
ثم قال الشيخ عن ختم الآية: "ثم أمر الله بالتقوى عمومًا، ورتَّب على القيام بالتقوى وبحقوق المؤمنين الرحمة، فقال: (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، وإذا حصلت الرحمة؛ حصل خير الدنيا والآخرة. ودل ذلك على أن عدم القيام بحقوق المؤمنين من أعظم حواجب الرحمة". ا هـ
وقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"(رواه مسلم عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما-).
أيها الإخوة: وانطلاقاً من هذا التوجيه الرباني والتأكيد النبوي بالتواد والتراحم بين المسلمين؛ يجب على كل مسلم تجاه إخوانه المنكوبين في هذه الأزمة الدعاء؛ فهو أعظم عطاء يستفيد منه المدعو له والداعي.. الدعاء لضحاياهم بالمغفرة والرحمة، وللمصابين بأبدانهم ونفسياتهم بالشفاء العاجل، ندعو لهم بود وصدق نية..
كما يُشْرَع لنا أن نبادر بالبذل لإخواننا المصابين كل حسب قدرته.. إذا وجد مجال آمنٌ مأذونٌ فيه للصدقة والمعونة..
وندعو الله -تعالى- أن يلطف بعباده المصابين والمتضررين، ويكفي أمة الإسلام الشرور والآفات إنه جواد كريم.
التعليقات