الرحيل والحياة الطيبة

ناصر بن محمد الأحمد

2014-12-17 - 1436/02/25
عناصر الخطبة
1/لحظات فارقة في آخر ساعة من حياة الإنسان 2/وقوف المؤمن بين حزنين في آخر ساعة من حياته 3/بعض علامات حسن الخاتمة 4/أهمية الاستقامة وخطواتها 5/الحياة الطيبة ومعناها 6/تفشي الهموم وكثرتها في الوقت الحاضر 7/أسباب الحياة الطيبة 8/بعض حكم تقدير الله للهموم 9/وسائل نيل الحياة الطيبة
اهداف الخطبة

اقتباس

صِرنا في زمنٍ كثرت فيه أسبابُ الهموم والأحزان، فقد كثُرت فيه الفتن والمحن، وظهرتْ فيه البغضاءُ والإحَن، وكثُرت فيه الشواغل، ونزلت فيه بالناس الغوائل، وتشعّبت بالناس الشّعاب.
الحياةُ المعاصرة أبدعت في أساليبِ الرفاهية والمُتعة لبني البشر، لكنَّها لم...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ)[فصلت: 30-32].

 

إن الحياة مهما طالت أيامها، وتتابعت سنينها وأعوامُها، فلا بد للإنسان من أن يرتحل عنها، وأن يودع أصحابها وأهلها.

 

في ساعة هي آخر الساعات، ولحظة هي آخر اللحظات، ووقفة هي آخر الوقفات، يقف الإنسان عند آخر أعتاب هذه الدنيا، فينظر إلى الأصحاب والأحباب، ينظرُ إلى الأبناء والبنات، وإلى الإخوان والأخوات، وإلى الجيران والخلان، فكأن الحياة طيف من الخيال، وكأنها ضرب من الأحلام.

دنى الرحيل فقلت اليوم وأسفاه *** كيف الرحيل وذنبي قد تقدمني

 

في ساعة يقف فيها المؤمن لكي تطوى عليه صحائف الأعمال والأقوال، تطوى عليه صحائف الأعمال، وقد رضي عن ذي العزة والجلال، مليئة بالخيرات والباقيات الصالحات.

 

يقف العبد الصالح عند آخر هذه الدنيا في ساعة يؤمن فيها الكافر، ويوقن عندها الفاجر، وتزول عندها الأوهام، وتتبدد عندها الأحلام، فيقف المؤمن تلك الوقفة بين حزنين عظيمين:

 

أما الحزن الأول؛ فإنه ينظر إلى أبنائه، وما خلّف في هذه الدنيا، ينظر إلى ذريته الضعيفة، فمن يعولهم من بعده؟ من يرحمُ ضعفهم؟ ومن يجبر كسرهم بعد الله -جل جلاله-؟

 

فتستولي عليه الأشجان والأحزان، وينظر كذلك إلى عظيم تفريطه في جنب الله -جل وعلا-، فيتذكر الساعات واللحظات، وما كان فيها من هنات وزلات، فلا يدري أغفر الله ذنبه، وستر عيبه، أم سيَلقى الله -جل جلاله- بما كان؟.

 

أما الحزن الثاني؛ فينظر أمام عينيه إلى دار غير داره، وحياة غير حياته، ينظر إلى دار لا يدري ما الذي سيكون فيها ؟.

 

يقف العبد هذه الوقفة العظيمة، فينظر الله إليه وهو أرحم الراحمين، ينظر الله إليه وهو الحليم الرحيم: (نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ)[فصلت: 32].

 

فتتنـزل عليه ملائكة الرحمن تُبشره بما عند الله من الروح والريحان والجنان، وأن الله راض عنه غير غضبان، فيحن إلى لقاء الله، ويشتاق إلى الرحيل، لكي يقف بين يدي الله -جل جلاله-، ويبشره الله -جل وعلا- بأن ذريته من بعده محفوظة: (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)[فصلت: 31].

 

فيتولى الله -جل وعز- ذرية العبد الصالح.

 

من كان في هذه الحياة على استقامة، فإنه لا يرى عند موته خزيًا ولا ندامة: (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ)[إبراهيم: 27].

 

من كان في هذه الحياة على استقامة، أصلح الله أمره، وأحسن له عاقبته، وتنـزلت عليه الملائكة بالبشائر، فابتهج وسُر وظهر السرور على وجهه، تراه مشرق الوجه مسرورًا.

 

ومن علامات حسن الخاتمة: أن ترى وجهه أشرق ما يكون عند الموت، وأبيض ما يكون عند السكرات، حتى يلقى الله -جل جلاله-، فيرى من رحمته ما لم يخطر له على بال، قال صلى الله عليه وسلم: "هو العبد الصالح إذا نزلت عليه الملائكة فبشرته بما عند الله من الرحمة اشتاق إلى لقاء الله وأحبه فأحب الله لقاءه".

 

من كان في هذه الحياة على استقامة ثبت الله قلبه عند الموت، فيرى بشائر ورحمات لم تخطر له على بال: (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)[البقرة: 223].

 

من كان على استقامة في هذه الدنيا، فإن الله يختم له بخاتمة السعداء، فلا يزال لسانه رطبًا بذكر الله، حتى تأتيه سكرة الموت، فيكون آخر كلامه: "لا إله إلا الله" قال صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه من الدنيا: "لا إله إلا الله" دخل الجنة".

 

فمن وطن نفسه على الصالحات، والباقيات الطيبات المباركات، أتاه الموت على خصلة من خصالها، فهذا يموت ساجدًا، وهذا يموت راكعًا، وهذا يموت بارًا بأمه، وهذا يموت في سفره يصل رحمه، فيختم له بخاتمة السعداء.

 

فمن علامة حسن الخاتمة: أن يموت العبد على عمل من الأعمال الصالحة، من ذكر الله -جل جلاله-، أو غير ذلك من صلاة وصيام، وجهاد وعبادة وقيام.

 

ومن علامة حسن الخاتمة للمستقيمين: أن تكون خاتمتهم أشرف الخواتم وأحبها إلى الله -جل جلاله-، ألا وهي: خاتمة الشهادة في سبيل الله، فمن ختم الله له بالشهادة كان له من الله الفضل والزيادة، من ختم له بخاتمة: الشهادة، تأذن الله برفعته وزيادة، قال عن الشهيد: "يغفر له عند أول قطرة من دمه".

 

فتُغفر جميع ذنوبه، وتُستر جميع عيوبه، فيلقى الله نقيًا من الذنوب، ويؤمن الفزع الأكبر، كذلك يُجار من عذاب القبر، وروحه في حواصل طير خضر في الجنة تشرب من أنهارها، تأوي إلى قناديل معلقة في العرش؛ كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا كان يوم القيامة بُعث الشهيد وجرحه يثعب دمًا، اللون لون الدم، والريح ريح مسك، يلقى الله -جل جلاله- بدمائه وأشلائه وأعضائه تحاجّ له بين يدي الله -سبحانه وتعالى-، ويُشفع في سبعين من أهله، ويزوج بسبعين من الحور العين.

 

يالها من كرامة أعدها الله -جل وعلا- للأولياء، واختارها للمتقين الأصفياء، إنها الاستقامة التي يبتدؤها المسلم في حياته، فتكون أول وقفة منك -أيها المسلم- أن تذكر بُعدك عن الله، وطول غربتك عن طاعة الله، فتريق دمعة على التفريط في جنب الله.

 

تبدأ الاستقامة بدمعة من دموع الندم، بدمعة من دموع الحزن والألم على ما كان من الذنوب والهنّات، وعلى ما كان من المعصية والسيئات.

 

تبدأ الاستقامة من هذه اللحظة، حينما تعلن الإنابة والتوبة وتعزم على أن تسير إلى الله، لعل الموت أن يأتيك على طاعة.

 

فإلى متى الصدود عن الله؟ وإلى متى البعد عن الله؟.

 

تبدأ الاستقامة -عباد الله- حينما يخاف الإنسان مما بقي من عمره، فيسأل ربه العفو عما سلف وكان، ويسأله الإحسان فيما بقي من الأزمان، فإلى الله -عباد الله- فإنه لا ملجأ ولا منجا من الله إلا إليه.

 

أخي المسلم: ليس هناك ساعة أفضل ولا أحب إلى الله -جل وعلا- من ساعة تطيع فيها ربك، وليس هناك ساعة أبرك ولا أهنأ للعبد من ساعة رضي الله عنه فيها.

 

يحتاج المؤمن إلى الهداية، لكي يصلح بها حاله مع الله -جل جلاله-.

 

فما أحوج العبد إلى قربه من ربه ولو بكلمة ترضيه، والله غفور حليم، إن تقربت منه شبرًا تقرب منك ذراعًا، وإن تقربت منه ذراعًا تقرب منك باعًا، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة، وكم من عبد تاب إلى الله، وتذكر في ساعته كثرة الذنوب في جنب الله، فندم وأراق دموع الندم، فقام مغفور الذنب، إن الله غفور حليم، إن الله جواد كريم.

 

وبمجرد أن يطلع إلى قلبك أنك تريد أن تصحح مسيرك إليه، وأن تصلح حالك بينك وبينه، فإن الله يوفقك ويسددك ويعينك، ويهيئ لك من أمرك رشدًا، ويهب لك من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب.

 

فأصلحوا لله قلوبكم، واستشعروا الندم في جنب ربكم، لعل الله أن يرحمنا ويرحمكم.

 

أيها المسلمون: قال الله -تعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[النحل: 97].

 

من الذي لا يريد أن يحي الحياة الطيبة؟

 

كلنا ذلك الرجل! لكن ما هي الحياة الطيبة؟.

 

ذكر المفسرون أقوالاً عديدة في معنى الحياة الطيبة الواردة في الآية الكريمة، فقالوا: هو الرزق الحلال الطيّب في الدنيا.

 

وقالوا: هو القناعة أو الرضا.

 

لكنَّ ابن القيم -رحمه الله تعالى- وجّه الأنظارَ إلى معنًى أعمق، فقال: "الصواب أنَّها حياةُ القلب ونعيمُه، وبهجتُه وسروره، بالإيمان، ومعرفة الله، ومحبَّته، والإنابة إليه، والتوكّل عليه، فإنَّه لا حياةَ أطيب من حياة صاحبها، ولا نعيمَ فوق نعيمه إلا نعيم الجنة، كما كان بعض العارفين، يقول: "إنَّه لتمرّ بي أوقاتٌ أقول فيها: إنْ كان أهلُ الجنَّة في مِثل هذا إنَّهم لفي عيشٍ طيّب" وإذا كانت حياةُ القلب حياةً طيبة تبِعته الجوارح، فإنه ملِكُها"[انتهى كلامه -رحمه الله-].

 

صِرنا في زمنٍ كثرت فيه أسبابُ الهموم والأحزان، فقد كثُرت فيه الفتن والمحن، وظهرتْ فيه البغضاءُ والإحَن، وكثُرت فيه الشواغل، ونزلت فيه بالناس الغوائل، وتشعّبت بالناس الشّعاب.

 

الحياةُ المعاصرة أبدعت في أساليبِ الرفاهية والمُتعة لبني البشر، لكنَّها لم تستطِع تأمينَ الحياة الطيبة، سعادةَ القلب، اطمئنانَ النفس.

 

لقد بلغ العلمُ الحديث درجةً عالية من الرّقي، فلم يحقِّق إلا متعةً حسية ولذّةً ظاهريّة ورفاهيةً آنيّة، لم تبلغ مكنوناتِ النفس، ولم تتذوّق بها النفس الحياةَ الطيبة.

 

يتصوَّر بعضُ الناس الحياةَ الطيبة مقترنةً بالأضواء البرَّاقة، والمناصبِ الخادعة، ويتصوّرها آخرون مع تكديس الأموال والانغماس في أوحال الشهوات، واحتساء سموم المخدرات، وآخرون مع تشييد القصور الفخمة.

 

إنَّ اليأس والقلقَ والأسى والألمَ يموج في العالم، والتمرّد والتمزّق والمأساة والشقاء سمةُ الحياة المعاصرة، هناك فوضى تأخذ بخناق العالم، تُبعثر كلَّ ما بقي من نظام، وتسعى إلى تمزيق الحياة.

 

الحياة الطيبةُ، والحياة الآمنة، والحياةُ الهادئة المستقرّة مطلبُ كلِّ إنسان، ومقصدُ كلّ عاقل، كيف نتذوّقها في أنفسنا؟ كيف نعيشها في مجتمعاتنا؟ كيف نؤمّنُها للأجيال القادمة؟

 

قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)[النحل: 97].

 

اشترط سبحانه الإيمانَ حتى ينفع العملُ الصالح الذي يُثمر طيبَ العيش، وتجعله قريرَ العين، هنيءَ النفس، صالح البال، فيجمع الله له أمرَه، ويرزقه الرضا والحياةَ الطيبة.

 

الإيمان الحقُّ بالله -تعالى- رباً ومعبوداً، هو السببُ الأعظم للحياة الطيبة؛ كما قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ)[النحل: 97].

 

فإذا عرف العبد ربَّه -تبارك وتعالى- بصفاته وأسمائه الحسنى، عرف معنَى ربوبيته سبحانه، وأنَّه هو المالك للأمر كله، بيده نواصي جميع الخلق، فإنَّه لا يخشى أحداً غيرَه، ولا يدين لأحدٍ سواه.

 

انظروا إلى نبي الله هود -عليه السلام- كيف تحدَّى قومَه جميعاً حينما خوّفوه بآلهتهم الباطلة، فقال لهم: (إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)[هود: 54-56].

 

أيها المسلمون: مِن أسباب الحياة الطيبة: تقوى الله، بأداء الفرائض، واجتناب المعاصي، فإذا كنتَ في ضيقٍ وشدّة، فاتَّق الله في أمرك وفي مآلك، قال الله -تعالى-: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ)[يونس: 62 - 64].

 

فالمؤمن التقي من أطيب الناس عيشاً، وأنعمهم بالاً، وأشرحهم صدراً، وأسرّهم قلباً، وهذه جنَّة عاجلةٌ قبل الجنّة الآجلة، فما أعظمها من نعمة.

 

الصلاة -عبادَ الله- من أعظم الأسباب لتحقيق الحياة الطيبة، تشرح الصدرَ، وتُذهب ضيقه، وتُرسل في القلب نبضاتِ الطمأنينة والراحة، فلا يزال العبد كأنَّه في سجنٍ وضيق حتى يدخل فيها، فيستريح بها.

 

تُمدّ العبدَ بقوةٍ إيمانية، تعينه على مهماتِ الحياة ومصائبها، بها تزول الهمومُ والغموم والأحزان، قال الله -تعالى-: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ)[البقرة: 45].

 

وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة[أخرجه البخاري].

 

من أهمّ أسباب الحياة الطيبة: دوامُ الذكر، فالذكر طمأنينة للقلب، أمانٌ للنفس حفظٌ لها من الشرور.

 

والقلبُ الممتلئ بذكر الله قلبٌ قويّ، لا يخاف غيرَ الله، ولا يخشى أحدا إلا الله؛ لأنه يستشعر دائماً معيةَ الله ونصرتَه، فهو سبحانه القائل في الحديث القدسي: "أنا مع عبدي ما ذكرني وتحرّكت بي شفتاه"[أخرجه الإمام أحمد].

 

من أسباب الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة: هدايةُ الله للعبد إلى التوبة والاستغفار كلما أصاب ذنباً أو همَّ بمعصية، قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ)[الأعراف: 201].

 

سرّ الحياة الطيبة -عباد الله- القناعةُ بالرزق، والرضا بما قسم الله؛ يُجلّي هذا المعنى حديثُ الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "من أصبح منكم آمناً في سِربه، معافًى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا".

 

وقال صلى الله عليه وسلم: "قد أفلح من أسلم، ورُزق كفافاً، وقنّعه الله بما آتاه"[أخرجه مسلم].

 

التطلّع -عبادَ الله- إلى زهرة الدنيا تتقلب في أيدي الناس؛ تُورثُك همًّا ينغّص عيشَك، وغمًّا يكدّر حياتَك.

 

إن أهمّ أمر يسبِّب نكدَ حياة كثير من الناس في هذه الأيام؛ عدمُ الرضا بما أوتوا.

 

إن الحياةَ قصيرة، فلا تُسلمها للهموم تفسدُها، وللأقدار تقتلُها، وقد قال أحدهم: "راحة الجسم في قلةِ الطعام، وراحةُ النفس في قلَّة الآثام، وراحة القلْب في قِلة الاهتمام، وراحة اللسان في قلَّة الكلام".

 

إن إضفاءَ مسحةٍ من الأمل في المستقبل والتفاؤلَ في الحياة يغمر القلبَ بالبهجة، ويعمر الحياةَ بالسرور.

 

تزهو الحياة وتطيبُ باصطناع المعروف، وإغاثة الملهوف، قضاءِ حوائج الناس إدخالِ السرور عليهم، المشي في حوائجهم.

 

تتلذّذ -أيها المسلم- بحياتك وتشعر بالحبور، حين تُدخل على قلوب البؤساء والضعفاء السرورَ.

 

نعم، تسرِي في كيانك السعادة، وأي سعادة؟! بل وما أعظمها من سعادة.

 

أفكارك الخيِّرة ترسم مسارَك، وأعمالُك النافعة تُبهج أيامَك، ومن سما بأفكاره سما بحياته، فتغدو مضيئةً طيبة مرِحة مستبشرة، قال الله -تعالى-: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ)[سبأ: 37].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه ...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: إن اجتماعُ الهموم كلِّها على مرضاة الله تطيِّب الحياةَ، وتجعل في القلب حياةً، وهي أُنس بالمحبوب، ومن تشعَّبت به همومُه عُذّب بها فأهلكته، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: "من جعل الهمومَ همًّا واحداً، همَّ المعاد، كفاه الله همَّ دنياه، ومن تشعَّبت به الهمومُ في أحوال الدنيا لم يُبال الله في أيِّ أوديتِه هلك"[أخرجه ابن ماجة].

 

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "وأيُّ حياةٍ أطيبُ من حياة مَن اجتمعت همومُه كلها وصارت همًّا واحداً في مرضاة الله -تعالى-، ولم يتشعَّب قلبه، بل أقبلَ على الله، واجتمَعت إرادتُه وأفكاره على الله -تعالى-، فصار ذكرُه لمحبوبه الأعلى وحبُّه والشوق إلى لقائه والأنس بقربه هو المستولي عليه، وعليه تدور همومُه وإرادته وقصودُه بكل خطوات قلبه، فإن سكت سكتَ لله، وإن نطقَ نطقَ بالله، وإن سمِع فبِه يسمَع، وإن أبصر فبه يُبصِر، وبه يبطِش، وبه يمشي، وبه يتحرَّك، وبه يسكن، وبه يحيى، وبه يموت، وبه يُبعث"[انتهى كلامه -رحمه الله-].

 

أيها المسلمون: لا تتحقَّق الحياةُ الطيبة قبل ذلك وبعده إلا بالاستعانة بالله واللجوء إليه، وسؤاله صلاح الدين، وطيبَ الدنيا، هكذا علمنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- بقوله في دعائه: "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمةُ أمري، وأصلح لي دنيايَ التي فيها معاشي، وأصلحْ لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادةً لي في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر".

 

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك المشركين، ودمّر اللهم أعداءَك أعداءَ الدين من الكفرة والملحدين.

 

اللهم أصلح لنا ديننا ...

 

 

 

المرفقات
الرحيل والحياة الطيبة.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life