الرجولة النفسية

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-11-26 - 1444/05/02
التصنيفات:

 

محمد الخطيب

هي جمال الكمال الإنساني الذي ينم عن طيب الخصال وحميد الفعال، فالإنسان بنفسه وجماله بجمال نفسه لا بجمال جسده، وان الإنسان بنفسه قبل علمه لأن العلم بلا خلق إنما يكون وسيلة للشر لأن العلم آنئذ يمسي بصيرًا وليس تحت بصره الا شروره، فيكون من ضلاله بصيرًا بالغواية والمضرة، فيسيء لنفسه بموبقاته، ولغيره بالإساءة إليه وإضراره، وهذه مصيبة بعض الأمم المتمدنة المعاصرة العالمة فهي غاوية ضارية، وإن الإنسان بنفسه قبل دينه ولولا ذلك لما احترم أبناء الأديان بعضهم بعضًا، ولما كان بينهم صحبة وصداقه قال تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8] إن البعد عن الدين القويم قد تكون له بعض المعذرة، وإنك لتعلم أن هذا الذي اختلف عنك في دينك القويم، إنما له غالبًا غايتك ذاتها، وإنما ضل عنها، بأن قصدها في غير كتبها فهو جدير بالشفقة والهداية، ثم إن البعد عن الدين القويم يعود غالبًا بنفعه وضرره على صاحبه، أما البعد عن صراط الأخلاق السوي، فإنه لا يكون إلا عن حطة ونية سيئة. ثم لا تكون منه المضرة للذات فحسب بل تتعداه إلى الغير إن فردًا أو جماعة، فهو ضلال عمدي معه هلاك البشر.

 

إن رجولة المرء النفسية، إنما تكون بنسبة مكارم أخلاقه، فمكانة النفس من الرجولة بنسبة مكارم أخلاقها، وإن لكل أمة أخلاقها.

 

منشأ الأخلاق:

فالأخلاق عرف يتواطأ عليه الناس بحسب شعورهم وحاجتهم، فإذا هو المعروف يثني على صاحبه، ولما كان لكل أمة ميزاتها، لذلك كان لكل أمة أعرافها وأخلاقها، فللأمة الحربية أخلاق كريمة تلائم حياتها فتحميها من آفة الحرب الطاحنة، ولولاها لفنيت الأمة عن آخرها فضرورة حب البقاء توجب مثلًا العفو عمن غلب واستسلم أو استجار، وتوجب حماية الجار. وفك العاني وحسن معاملة الأسير، وللأمة التجارية أعراف تنقلب إلى أخلاق كالأمانة في المعاملة لأنها من أسس الثقة التي لا غنى للتجارة عنها أو تضمحل، وهكذا فإن لكل أمة أخلاقها تتوارثها، وتتطور معها بحسب الحاجة، وإن الأخلاق تحوم حول محور واحد من أي ناحية اختبرتها، هو أن تصون المجتمع فتسد حاجته، وتمهد له سبيل ارتقائه، ولهذا فإن الأخلاق إذا اضمحلت كان اضمحلالها اضمحلالًا للأمة كما قال شوقي رحمه الله:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

 

ثبات الخلق:

إن تمام الرجولة النفسية، أن يكون المرء حسن الأخلاق ثابتها لا تزعزعه عواصف العواطف لانَ الدهرُ أو قسَى، فتراه في جميع أحواله وأطوار حياته طاهر السريرة حسن الوجه، طيب الفعل، يلبس لكل حال لبوسه وحليته، وتراه أقرب إلى الفضل منه إلى العدل، فإذا أسيء إليه واعتدي على حقه تراه كالند قد فاح عبقه، وترفع عمن أساء إليه وعن إساءته كما يترفع المرء عن وحل يعترض طريقه، لئلا يلوث ثيابه، وإذا طغى عليه سيل فهاج وماج، رأيته بعد حين كالماء بصفائه، متى اطمأن إلى نفسه، وعاد إلى سجيته، وإذا اقتضت الكرامة أن يثور لها ثار بجناح من همة لا تهبط إلا على رابية، كما ترى في حادثة كان بطلها الإمام علي كرم الله وجهه إذا كان في معركة فقبض على أحد أعدائه، وجلس على صدره، يريد حزّ عنقه، غير أن نفسه أبت إلا أن يكون لها قسط من ذلك، فبصق الإمام علي على وجه عدوه وشتمه بما هو أهله غير أنها كانت لحظة فكان العدو مخل سبيله، إذ شعر الإمام أن هذا من عمل نفسه لا في سبيل ربه فأطلق عدوه وهكذا كان ثورانه رضي الله عنه في غير سبيل هدى نفسه، ولما أرادت نفسه أن تمد يدًا أحسن تأديبها وحفظ للمبدأ حرمته ودان في سبيله نفسه، فدل على رجولة نفسية أقوى من رجولة بأسه في حربه ولا سبيل إلى هذا المقام الأسمى إلا بمجاهدة النفس جهادها الأكبر.

 

قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وقد عاد من إحدى غزواته:

عدنا من الجهاد الأصغر (جهاد العدو) إلى الجهاد الأكبر (جهاد النفس).

 

مجاهدة النفس:

إن الأخلاق معادن النفوس، وإن المجاهدة إكسيرها، ولا بد لكل نفس من المجاهدة بحسب تكوينها وقواها، وخذ لك مثلًا القوة الغضبية، فإنها أساس لقوة الدفاع في سبيل حب البقاء لذلك فهي من ضرورة الحياة الإنسانية غير أنها سريعة الانقلاب إلى اعتداء وظلم إن لم يكن لها زاجر، كالشاطئ يمنع الماء من الانصباب في غير مواطنه لئلا يمسى طغيانًا مضرًا بديل أن ينصب في مجاريه فيروى بحسب الحاجة والحكمة، أضف إلى ذلك أن لكل نفس تكوينها مما يحتاج إلى المجاهدة بحسب ذلك، وأن من كانت نفسه بفطرتها أقرب إلى الثوران والهيجان فيجاهدها إلى أن تتقرب من الكمال، فإنه يكون أرفع مكانة من الذي كان بفطرته هادئًا كاملًا. إن لكل نفس زمامها والحكيم من راقب نفسه فعرف جوهرها وماله من مزايا الضعف والقوة حتى إذا تم له ذلك جاءها بشراب صحتها بعد أن ركب لها المعادلة الكيمياوية بحسب معدنها.

 

أشد حالات المجاهدة:

إن الفطرة تضطر كل ذي نفس إلى أن يجاهد نفسه وإن هذه المجاهدة لتشتد في مواطن الضعف، وأهمها حين لا تعامل بما يلائمها وفق فطرتها وغرائزها من لين أو شدة أو ترغيب أو ترهيب أو نحو ذلك، وإن من أشد الأخطار عليها حين لا تبوأ مكانتها، فإن الناس في غالب أحيانهم إن أحلوا بغير منازلهم فإنما تفسد أخلاقهم كأن يعتز المرء بعد ذلة ويغنى بعد فقر ثم يكون ليس بأهل للعزة والغنى، فتكون حامدًا منه خلقًا شريفًا، كالمؤانسة والإخاء فتجده قد فقد مزيته الأخلاقية هذه، وكذلك لو انعكست الحالة فتجد من انحطت منـزلته عما يستحقه يسوء حاله غالبًا، بالمنافاة فطرته مكانته التي تحدر إليها كان يحيط به الدهر فعلًا من منـزلة سيد إلى أن يمسي مسودًا، أو لأنه شعر بدنو منـزلته عما يستحق، ولو بجهالة الناس قدره فيسوء خلقه تضجرًا مما هو فيه ونحو ذلك، فإن أمثال هؤلاء يحتاجون إلى مجاهدة شاقة وحسب المرء كمالًا أن يروض نفسه بقدر جهده فيقنع بذلك ضميره جاعلًا ميزانه إفتاء قلبه فينجو من كل حطة، ويرتفع عن كل ريبة، وإن من لا يتهيب وجدانه ولا يحترم ولا يستحيي من نفسه يكون ساخرًا بذاته من ذاته، وهذه رتبة دنيا يجب الابتعاد عنها بثبات الخلق مهما تبدل الحال لما فيه من كمال يجب التحلي به.

 

إن الرجل الكامل بأخلاقه يجرد من نفسه رقيبًا على نفسه، فيعرف واجبه تجاه ذاته كما يعرفه تجاه غيره، فتكون له من أخلاقه دولة ذات سطوة يقدرها حق قدرها، فيأنف من نفسه أن تسيء ولو لم يره أحد، كما يأنف الشريف من أن يقبض عليه كمخالف للقانون، فيحاكم كالجناة والآثمين، وإذا عثر مرة تلتهب جوانحه كأن في ضميره نارًا تصهر خبثه فيزداد بذلك صفاء وإشراقًا.

 

الأخلاق والإنسانية:

إن غاية الأخلاق الكريمة هي أن تسمو بالفرد وتحمي الجماعة، وأنها لتحمي المجتمع الإنساني من أن تتهدم أركانه كما تحمي المجتمع القومي، فتحوطه وتصونه وتمنع عنه العاديات فلا تناله، وبذلك يكون المرء بأخلاقه إنسانًا كاملًا لا تأخذه أنانية القومية الطاغية فتجعل منه ذئبًا ضاريًا على من كان من غير مجتمع فيكون بذلك كاللص أمينًا بين عصبته، ثم هو المعتدي الأثيم بالنظر لغيرهم، إن الإنسان الكامل في أخلاقه هو الذي يرى في نفسه فردًا من أمته ويرى أمته أفرادًا مثله، فيقدر كلا حق قدره بصفته الفردية والاجتماعية ويرى أمته واحدة بين الأمم لكل منها نصيب من الحياة والحماية منه كنصيب أمته فلا يعتدي عليها ولا يعبث بكيانها، فيوفي بذلك الإنسانية حقها من صونها وخدمتها، وأن هذه النظرة الإنسانية السامية قد عززها الإسلام بمعارض كثيرة وأيدها بنصوص خالدة.

 

الإسلام والأخلاق:

جاء الإسلام داعيًا إلى مكارم الأخلاق فحث عليها بأوسع معانيها إيجابًا بالدعوة للفضيلة وسلبًا باجتناب الرذيلة، مبينًا تارة الأصول العامة بأقوال موجزة كأنها عناوين الكمال، وتارة باحثًا في الفروع وتفاصيلها حتى تكاد لا تجد من حسنة بلا نص يحثك عليها، ولا من سيئة دون نص يحذرك وينفرك منها سواء كان ذلك مما تعود علاقته المباشرة إلى الفرد أو الجماعة أو بين الإنسان ونفسه، وهذه سور القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقوم بالدليل القاطع مؤيدة ما ذهبنا إليه، ثم إن تعاليمه التعبدية وأحكامه الدينية قد احتاطت لهذه التعاليم من جميع وجوهها فأيدتها كأنما هي الصراط السوي لتحقيق مبادئه العالية، والبلوغ إلى الغاية السامية وهي الرجولة الإنسانية والكمال الأرفع.

 

عناية علماء المسلمين بالأخلاق:

عرف المسلمون هذه الروح من دينهم فأكثروا من التأليف في هذا الموضوع مع إحاطة به من جميع وجوهه حتى لا تجد له مثيلًا في غير المكتبة الإسلامية فمنها كتب تناولت الأخلاق الفردية والواجبات الاجتماعية والسياسية الملية والدولية فجاء كل كتاب بحسب نـزعة مؤلفه واختصاصه.

 

ومنهم من مزج بين ذلك لمكانة صلة هذه الفروع بعضها ببعض وحسبك أن تذكر من ذلك كتب الغزالي كالإحياء وكتب الشعراني ونحوهما من السادة الصوفية وأن تذكر الجاحظ وإخوانه من الأدباء، وأن تذكر من العلماء أمثال الراغب الأصفهاني صاحب كتاب الذريعة إلى مكارم الشريعة، وما أكثر من تذكر، وقد تمادت بهم العصور، وتطورت بهم الثقافات فإذا هم من الإنسانية وأخلاقها يدركون اللباب.

 

ونختم هذه الكتائب بذكر أكبر حكماء الهند المسلمين الحاضرين محمد إقبال الشاعر الذي فهم حقيقة الإسلام بنور ثقافته الجامعية العالية، فدعى إليها دعوة خفاقة كقلب الشاعر، منيرة كعقله المفكر، وإن مؤلفي الإسلام مهما تناولوا من الأبحاث فإنهم ليجدون في كتابهم الكريم وأحاديثهم الشريفة ما يريهم أن قطرات المطر من خزائن السماء وأن البحار منها قطرة ماء.

 

الإسلام متمم لمكارم الأخلاق:

لذلك فإنا لا نستطيع أن نوفي الإسلام وصف كماله الخلقي بمثل قول النبي العربي صلى الله عليه وسلم الذي جاء به فأوجز بوصفه قائلًا (إن الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأفعال)، وأنت إذا أردت أن تدرك تمام هذا المعنى فإنك مضطر إلى تدبر كل كلمة وحدها ثم هي مع التي تليها فتفهم حقيقة «التمام» ومعنى «المكارم» ثم تتبن المقصدين من «تمام المكارم» وهلم جرًا، وانه لا سبيل إلى ذلك ما لم تتوسع بنصوص الشريعة فتذهب إلى آفاقها العالية: لترى كل شيء بنظرها، ثم تعود إلى نفسك فإذا أنت بين الكواكب، كوكب منير في سماء صافية، وإذا نفسك ترى لها ميزانًا يجعل كل شيء منها كاملًا ألا وهو طهارة السريرة والنية الطيبة إذ تكون قد أدركت آنئذ مرمى قوله صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى».

 

إن الأخلاق لتسمو بالمرء وتصون الجماعة، وإن الأخلاق الإسلامية جاءت من هذه الأخلاق كتمامها فإذا هي كالبدر من الهلال أو كالماء من اللآل وإذا المؤمنون إخوان كما قال تعالى ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10] وإذا الأمة أسرة لها شعور متحد كما قال صلى الله عليه وآله وسلم «من أصبح لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم» وإذا الأمم بنو عمومة لهم من عصبية الإنسانية ما يحكم الفتهم ويوثق صلاتهم ﴿ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13].

 

إن الأخلاق كمال بالفطرة جاءت الأديان الصحيحة مؤيدة لها مبينة سبيل تحقيقها وقد جنت البشرية من وراء ذلك خيرًا كثيرًا في جميع العصور التي أخذت نفسها بها، لهذا فهي جديرة بالصون والرعاية، ومن الواجب على كل إنسان أن يأخذ بناصرها وأن يحسن لها الدعاية بعد أن ساء حالها وتشتت أنصارها فتنة وضلالة.

 

وإن هذا الواجب الإنساني ليحتاج إلى جهود متآزرة، أقلها موآزرة الجمعيات الخلقية كجمعية التمدن الإسلامي، قال تعالى ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2]، ويد الله مع الجماعة.

 

 

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life