عناصر الخطبة
1/فضائل صفة الرحمة 2/أهمية الاتصاف بالرحمة والتعامل بها 3/أرحم الناس بالناس 4/صور من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بمن حوله 5/أحوج الناس إلى الرحمة 6/ التخلُّق بخُلق الرَّحمة.اقتباس
الإسلام دينُ الرحمةِ، يدعُو إليهَا ويثيبُ عليهَا، ويدعو إلى التراحم ويجازي عليه، وأحوجُ الناسِ إلى الرحمةِ والشفقةِ والإحسانِ والبرِّ همَا الوالدانِ: وخاصةً عندَ المشيبِ والكبرِ.. وكذلكَ يَحتاجانِ إلى الرحمةِ بعدَ وفاتِهما بالدعوةِ الصالحةِ، والصدقةِ الجاريةِ. ومِنْ أحوجِ الناسِ بالرحمةِ أيضًا: الأولادُ، وخاصةُ في...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، الرحمنِ الرحيمِ، أنزلَ الرحمةَ على قلوبِ بعضِ عبادِه، وحَرمَ منها آخرينَ، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، رَحمنَ الدنيَا والآخرةِ ورحيمَهُما، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، الذي أرسله ربُّه رحمةً للعالمينَ، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعدُ: فاتّقُوا اللهَ أَيُّهَا المؤمنونَ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102].
عبادَ اللهِ: في الخطبةِ الماضيةِ تحدَّثنَا عن سعةِ رحمةِ اللهِ تعالى التي أفاضَها على العالمينَ، وحديثُنا اليومَ عن رحمةِ الخلقِ بالخلقِ، وما ألقاهُ اللهُ تعالى في قلوبِ بعضِ عبادِه من الرحمةِ والشفقةِ بالآخرينَ، وأثرِ تلكَ الرحمةِ على حالِ العبدِ ومآلِه في الدُّنيَا، وما ينالُه يومَ يلقى اللهَ في الآخرةِ.
أيُّها المؤمنونَ: الرحمةُ صفةٌ كريمةٌ وخلقٌ عظيمٌ، لها في الإسلامِ شأنٌ كبيرٌ، عظّمهَا اللهُ -تعالى- في كتابِه، واصطفَى لها بعضَ عبادِه، وحَرَمَها آخرينَ، وحثَّ عليها النبيُّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- كثيرًا في سنَّتِه، فقال: "إِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ"(رواه البخاري: 6655).
وقال -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلاَئِقُ حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ"(رواه البخاري 6000، ومسلم 2752).
وإنَّ من أجلِّ نِعَمِ الله على العبدِ أن يجعلَه مُتصِفًا بالرحمةِ، فيكونَ رحيمًا بمنْ حولَه، محبًّا لهم، رفيقًا بهم، قال -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "ارْحموا تُرْحَموا، واغْفِروا يُغْفرْ لكُم"(رواه أحمد: 6541، وصححه الألباني)، وقال -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ"(رواه أبو داود 4941، وصححه الألباني).
وإنَّ مِنْ أقربِ الخلقِ إلى اللهِ -تعالى- أعظمهُم رأفةً ورحمةً بعبادِه المؤمنينَ. وعن أنسٍ -رضي اللهُ عنه- قال: دَخَلَ النَّبيُّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- على ابنِه إبراهيمَ وهو يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ -رضي الله عنه-: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: "يَا ابْنَ عَوْفٍ، إِنَّهَا رَحْمَةٌ"، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى وقَالَ: "إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلا نَقُولُ إلا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ"(رواه البخاري 1303، ومسلم 2315).
أيُّها المؤمنونَ: لقد كانَ رسولُنا -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- أَرْحمَ الناسِ بالناسِ، سواءً كانَ ذلكَ مع المسلمينَ، أو غيرهِم، ومن ذلك ما رواه مسلمٌ، عن عبدِ اللَّهِ بنِ عمروٍ -رضي اللهُ عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- تَلا قَوْلَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي إِبْرَاهِيمَ: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[إبراهيم:36]، وَقَولَ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلام-: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[المائدة:118]، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: "اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي"، وَبَكَى. فَقَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: "يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ -وَرَبُّكَ أَعْلَمُ- فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلام-، فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- بِمَا قَالَ وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللَّهُ: "يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلا نَسُوءُكَ"(رواه مسلم:202).
وكذلكَ رحمتُه -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- بالصغارِ، فعندمَا قُبضَ أحدُ أولادِ بناتِه ورُفعَ إليه، وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا؟ فَقَالَ: "هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ"(رواه البخاري 1284، ومسلم 923).
وكذلكَ رحمتُه -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- بالجاهلِ: فعن أنسِ بنِ مالكٍ -رضي اللهُ عنه- قَالَ: "جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةِ اَلْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ اَلنَّاسُ، فَنَهَاهُمْ اَلنَّبِيُّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-، فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ اَلنَّبِيُّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ; فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ"(رواه البخاري 221، ومسلم 284)، وفي روايةٍ أنَّ الأعرابيَّ قال: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا ولا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعًا"(رواه البخاري: 6010).
وكذلكَ رحمتُه -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- بالنساءِ: فَقَدْ قالَ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "إِنِّي لأَدْخُلُ فِي الصَّلاةِ أُرِيدُ إِطَالَتهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاء الصَّبِيّ، فَأُخَفِّفُ مِنْ شِدَّة وَجْد أُمّه بِهِ"(رواه البخاري: 709)، وهكذا سارَ أصحابُه من بعدِه على خُلقِ الرحمةِ، فهذا أبو بكرٍ -رضي اللهُ عنه- يمرُّ على بلال بنِ رباحٍ وهو يُعذَّبُ في شدِّةِ الحرِّ، فيرقُّ له قلبُه ويرحمُه ويشتريْهِ من سيِّدِه ثم يُعتقُه.
وَصَدقَ اللهُ العظيمُ: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[آل عمران: 159].
باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، فاسْتَغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين.
أما بعدُ: فاتَّقوا اللهَ أيُّها المؤمنون، واعلموا أنَّ الإسلامَ دينُ الرحمةِ، يدعُو إليهَا ويثيبُ عليهَا، ويدعو إلى التراحم ويجازي عليه، وأحوجُ الناسِ إلى الرحمةِ والشفقةِ والإحسانِ والبرِّ همَا الوالدانِ: وخاصةً عندَ المشيبِ والكبرِ، قال -تعالى- موصيًا بهما: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء:24]، وكذلكَ يَحتاجانِ إلى الرحمةِ بعدَ وفاتِهما بالدعوةِ الصالحةِ، والصدقةِ الجاريةِ.
ومِنْ أحوجِ الناسِ بالرحمةِ أيضًا: الأولادُ، وخاصةُ في هذا الزمانِ الذي كَثُرتْ فيه الفتنُ، والصوارفُ، والملهياتُ، فالحرصُ عليهم، والرِّفقُ بهم، والتَّودُّد إليهم، وحسنُ تربيتِهم ورعايتِهم من أعظمِ صورِ رحمتِهم.
وكذلكَ الرحمةُ بالزوجةِ؛ بإظهارِ الحبِّ لهَا، والإحسانِ إليها، والدعاءِ الطيِّبِ لها، وحسنُ العشرةِ ومعاملتِها بالمودةِ والعطفِ والرفقِ والحلمِ، وكذلكَ الزوجةُ عليهَا أَنْ ترحمَ زوجَها بحسنِ طاعتِه وعشرتِه، فلا تُؤذِيه، ولا تُحمِّله ما لا يُطيقُ، بل تكونُ نعمَ المعينُ له في كلِّ خيرٍ.
عبادَ اللهِ: ومن الرحمةِ أيضًا رحمةُ الإخوانٍ والأخواتٍ والأقارب، بحسنِ التعاملِ معهم، بلطفٍ ولينٍ، ومحبةٍ ومودة، والسعيِ في خدمتِهم، وقضاءِ حوائجِهم، ونُصحِهم وإرشادِهم.
والرحمةُ بالمرضى والعجزةِ وكبارِ السنِّ، بزيارتِهم، والسعيِ في إدخالِ السرورِ عليهم، والدعاءِ لهم.
والرحمةُ بسائرِ الناسِ من جيرانٍ، وأصدقاءَ وزملاءِ العملِ، وضعفاءِ الناسِ وفقرائِهم، بحسنِ التعاملِ معهم، والتواضعِ لهم، والرِّفقِ بهم، والبشاشةِ في وجوهِهم، والدعاءِ الصالحِ لهم، والتيسيرِ عليهم في أمورِهم.
والرحمةُ بالعمَّالِ والخدمِ، بعدمِ لإثقالِ عليهم، وحُسنِ التعاملِ معهم، والوفاءِ لهم، وتعليمهم، ونُصحِهم، وإعطائِهم حقوقَهم دونَ مماطلةٍ أو تأخيرٍ.
والرحمةُ بالحيوانِ، بسقيهِ وإطعامِه وعدمِ أذيتِه، قال -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-: "بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ، كَادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ"(رواه البخاري 3467، ومسلم 2245).
فاحرصوا باركَ اللهُ فيكم على التخلُّقِ بخُلقِ الرَّحمةِ، وتربيةِ أولادِكم عليهَا، فمتى نشأوا عليها كانتْ سجيةً لهُم في حياتِهم كلِّها.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى والقدوةِ المجتبى فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ؛ فقالَ -جلَّ وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
التعليقات