الذين يخشون ربهم بالغيب

محمد بن عبدالله السحيم

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/الخلوة عن أعين الناس محك لاختبار حقيقة الإيمان 2/فضائل وثمرات خشية لله في الغيب 3/تعميق خشية الله وخوفه في النفوس

اقتباس

خشيةُ الله بالغيب أعظمُ حاملٍ للعبد على المحافظةِ على الطاعات الواجبة والمستحبة، ومحاسبةِ النفس، وتذكرِّ سوالفِ الذنوب، والاستغفارِ منها، وعدمِ الغفلة عنها، وذاك ما يَكْسِرُ العبدَ، ويوجبُ له الإنابةَ إلى طاعة مولاه؛ ليكونَ ممن شَمِلَهمُ اللهُ برحمته، وأوجبَ لهم دخولَ جنته، والنظرَ إلى وجهه الكريم، آمناً من الفزع الأكبر، سالماً من...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله عالمِ السر والعلانية، أحاط علُمه بكل خافية، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريك له عمّ برُّه كلَّ ناحية، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أهلِ الفرقة الناجية.

 

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ...)[آل عمران: 102].

 

أيها المؤمنون: للإيمان مَحْكَّاتٌ يُختبر فيها صدقُه، ومن أدقِّ تلك المحكاتِ خلوةُ المرء عن أعين الخلق مع دنوّ الحرام وتيسرِه وأمنِه من عواقبه في الدنيا، فذاك -لعَمْرُ الله- موطنُ اختبارٍ شديدٍ شديد؛ به تبين قوةُ الإيمان، ومدى صدقِه، قال الحسنُ البصريُّ: "الإيمانُ إيمانُ مَنْ خشي اللهَ بالغيب"، وقال الشافعي: "أعزُّ الأشياءِ ثلاثةٌ: الجودُ من قِلَّة، والورعُ في خَلوة، وكلمةُ الحقِّ عند من يُرجى ويُخاف".

 

ولا يَعْصِمُ المرءَ من الاجتراء على مقارفة ذنوب الخلوات إلا حاجزُ خشيةِ الغيب من الله حين تعمر القلبَ وتملؤه تلك الخشيةُ التي جمعت بين الخوفِ من الله والحياءِ منه، والعلمِ بقدرته وعزته وجبروته واطلاعِه، ومراقبتِه، واستواءِ الغيب والشهادة في علمه: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَار)[الرعد: 9-10]، فذلك العلمُ -كما قال ابنُ رجبٍ- هو السببُ الموجبُ لخشية الله في السر، فإنَّ مَنْ عَلِمَ أنَّ الله يراه حيث كان، وأنَّه مُطَّلعٌ على باطنه وظاهره، وسرِّه وعلانيته، واستحضر ذلك في خلواته أوجب له ذلك تركَ المعاصي في السِّرِّ، وإلى هذا المعنى الإشارةُ في القرآن بقوله عز وجل: (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء: 1].

 

كتب ابنُ السَّماك الواعظُ إلى أخٍ له: "أما بعدُ: أُوصيكَ بتقوى الله الذي هو نَجِيُّكَ في سريرتك، ورقيبُك في علانيتك فاجعلِ الله من بالك على كُلِّ حالك في ليلك ونهارك، وخفِ الله بقدْرِ قُربِه منك، وقُدرتِه عليك، واعلم أنَّك بعينه ليس تَخرُجُ من سلطانه إلى سلطان غيره، ولا من ملكه إلى مُلك غيره؛ فليَعْظُمْ منه حَذَرُك، ولْيكثرْ منه وَجَلُكَ، والسلام".

 

وقال بعضُهم: "ابنَ آدم إنْ كنتَ حيث ركبتَ المعصيةَ لم تَصْفُ لك مِن عينٍ ناظرةٍ إليك، فلما خلوتَ بالله وحده صَفَتْ لك معصيتُهُ، ولم تستحي منه حياءك من بعض خلقه، ما أنت إلا أحدُ رجلين: إنْ كنت ظننتَ أنَّه لا يراك، فقد كفرتَ، وإنْ كنت علمتَ أنَّه يراك فلم يمنعك منه ما منعك مِن أضعف خلقه لقد اجترأت عليه".

 

أيها المسلمون: إن خشيةَ الله -تعالى- في الغيب من أعظم خصال التقوى ومظاهرِها التي تدل على حقيقتها؛ كما قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ)[الأنبياء: 48-49]، وتلك الخشيةُ من أعظم أسباب المغفرة العظيمة التي بها تُورَثُ الجنةُ، قال تعالى: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيم)[يس: 11].

 

وخشيةُ الغيب من أجلّ ما يليّن القلبَ فتجدي فيه النذر، وتنفعُه الذكرى أبلغَ نفعٍ، قال تعالى: (إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ)[فاطر: 18].

 

وخشيةُ الله بالغيب أعظمُ حاملٍ للعبد على المحافظةِ على الطاعات الواجبة والمستحبة، ومحاسبةِ النفس، وتذكرِّ سوالفِ الذنوب، والاستغفارِ منها، وعدمِ الغفلة عنها؛ وذاك ما يَكْسِرُ العبدَ، ويوجبُ له الإنابةَ إلى طاعة مولاه؛ ليكونَ ممن شَمِلَهمُ اللهُ برحمته، وأوجبَ لهم دخولَ جنته، والنظرَ إلى وجهه الكريم، آمناً من الفزع الأكبر، سالماً من كُرَبِ يومِ الدين؛ كما قال تعالى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيب ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيد)[ق: 31-35].

 

وبخشيةِ الغيبِ الدائمةِ أو الغالبةِ يحققُ العبدُ أعظمَ مراتبِ الدينِ مرتبةَ الإحسانِ؛ وذلك بأن يَعْبُدَ العبدُ ربَّه كأنه يراه، وذاك سببُ توقِّيه كبائرَ الإثمِ والفواحشَ إلا اللممَ، كما قال أهل العلم. وخشيةُ الغيب أكثرُ الأسبابِ الموجبةِ للاستظلالِ بظل عرش الله يومَ لا ظلَ إلا ظلُّه، كما قال النبي -ﷺ-: "سبعةٌ يظلهمُ اللهُ في ظله يومَ لا ظلَ إلا ظلُّه"، وذَكَرَ منهم: "ورجلٌ دَعَتْه امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجمالٍ، فقال: إني أخافُ اللهَ"، "ورجلٌ ذَكَرَ اللهَ خالياً ففاضتْ عيناه"(رواه البخاري ومسلم).

 

وبتلك الخشيةِ تُنالُ محبةُ الله -جل وعلا-، يقول النبيُّ -ﷺ-: "ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ: رَجُلٌ أَتَى قَوْمًا فَسَأَلَهُمْ بِاللَّهِ وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ لِقَرَابَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَمَنَعُوهُ، فَتَخَلَّفَ رَجُلٌ بِأَعْقَابِهِمْ، فَأَعْطَاهُ سِرًّا؛ لَا يَعْلَمُ بِعَطِيَّتِهِ إِلَّا اللَّهُ وَالَّذِي أَعْطَاهُ، وَقَوْمٌ سَارُوا لَيْلِهِمْ حَتَّى إِذَا كَانَ النَّوْمُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِمَّا يُعْدَلُ بِهِ، فَوَضَعُوا رُءُوسَهُمْ فَقَامَ رَجُلٌ يَتَمَلَّقُنِي وَيَتْلُو آيَاتِي، وَرَجُلٌ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ فَلَقُوا العَدُوَّ، فَهُزِمُوا، فَأَقْبَلَ بِصَدْرِهِ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يُفْتَحَ لَهُ"(رواه الترمذي وصححه).

 

وبخشيةِ الغيب يَنْصَحُ المرءُ في عمله، ويجتهدُ في أداءِ الحقوقِ العامةِ والخاصةِ، حدّثتْ فاطمةُ بنتُ عبدِالملكِ زوجةُ الخليفةِ الراشدِ عمرَ بنِ عبدِالعزيزِ أنها دخلتْ عليه فإذا هو جالسٌ في مصلاه مُعْتَمِداً يدَه على خدِّه، سائلةً دموعُه على لحيته، فقالت: يا أميرَ المؤمنين الشيءُ حَدَثَ؟ قال: يا فاطمةُ إني تقلّدتُ أمرَ أمةِ محمدٍ -ﷺ- أحمرِها وأسودِها، فتفكّرتُ في الفقيرِ الجائعِ، والمريضِ الضائعِ، والغازي المجهودِ، والمظلومِ المقهورِ، والغريبِ الأسيرِ، والشيخِ الكبيرِ، وذي العيال الكثيرِ والمالِ القليل، وأشباهِهم في أقطارِ الأرض وأطرافِ البلاد؛ فعلمتُ أن ربي سيسألني عنهم يومَ القيامة، وإنّ خصمي دونَهم محمدٌ؛ فخشيتُ أن لا يثبتَ لي حجةٌ عند خصومته؛ فرحمتُ نفسي؛ فبكيتُ".

 

وبخشيةِ الغيب تزكو النفسُ وتصفو، وتسلمُ من الحسدِ والغشِ، وتَمْحَضُ النصحَ لمن استشارها، ويُصْقَلُ الفِكْرُ، ويُوَفَّقُ للرأي الصائبِ، كما قال عمرُ -رضي الله عنه-: " شاوِرْ في أمرك مَن يخشون ربَّهم بالغيب".

 

عبادَ اللهِ: لِخشيةِ الله في الغيبِ سرٌ عجيبٌ في إلقاء المحبةِ لصاحبها في القلوب، قال ابنُ رجبٍ -رضي الله عنه-: "تقوى الله في السرِّ هو علامةُ كمالِ الإيمانِ، وله تأثيرٌ عظيم في إلقاء الله لصاحبه الثناءَ في قلوب المؤمنين...".

قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: " لِيَتَّقِ أحدُكم أنْ تلعنه قلوبُ المؤمنين وهو لا يشعر، يخلو بمعاصي الله، فيلقي الله له البغضَ في قلوب المؤمنين".

 

ومِنْ أعجبِ ما رُوي في هذا ما رُوي عن أبي جعفر السائحِ قال: كان حبيبٌ أبو محمد تاجراً يَكْرِي الدراهمَ، فمرَّ ذات يوم، فإذا هو بصبيان يلعبون، فقال بعضهم لبعض: قد جاء آكِلُ الربا، فنكّس رأسَه، وقال: يا ربِّ، أفشيتَ سرِّي إلى الصبيان، فرجعَ فجمعَ مالَه كُلَّه، وقال: يا ربِّ إنِّي أسيرٌ، وإني قد اشتريتُ نفسي منك بهذا المال فأعتقني، فلما أصبح، تصدَّق بالمال كلِّه وأخذ في العبادة، ثم مرَّ ذات يومٍ بأولئك الصبيان، فلما رأوه قال بعضهم لبعض: اسكتوا؛ فقد جاء حبيبٌ العابد، فبكى وقال: يا ربّ أنتَ تذمّ مرَّةً وتحمد مرَّةً، وكلُّه مِن عندك".

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله...

أما بعدُ: فاعلموا أن أحسنَ الحديثِ كتابُ الله...

 

أيها المؤمنون: إن خشيةَ الغيب باستشعار مراقبةِ الله، واليقينِ باستواءِ الغيب والشهادة في علمه، ومراعاةَ ذلك حالَ الخلوةِ مِن ألزم ما يجب تعاهدُه في النفس، والمحاسبةُ عليه، وتذكيرُ الغير به، فذاك من أعظمِ الحقِّ الذي يُتواصى به ليَسلمَ الجميعُ من الخسار، خاصةً في هذا الزمن الذي سَهُلَ فيه الخلوةُ بالحرام. ولئن عَلَتْ درجةُ تلك الخشية، وصَعُبَ منالُها؛ فإنّ سُلَّمَ المجاهدةِ والتعويدِ يُوصِلُ الصادقين لها بإعانةِ الله، سيّما مع إدمانِ سؤالِ الله تحقيقَها، قال ابنُ شيخِ الحزّامِيّين: "عِّودْ نفسَك -أيها الأخُ- بالحياءِ مِن الله -عز وجل-، ولو ساعةً من نهارٍ، ثمّ عُدْ إلى أشغالك ومهماتك، ثم عُدْ واحفظْ تلك الساعةَ واكْتمْ هذه المعاملةَ بينك وبين مولاك؛ لا تحدِّثْ أحداً بأنك تعملُ مِثلَ هذا؛ فيُخشى أن ينطفئَ نورُ المراقبةِ من قلبك، ولا تزالُ كذلك تتعودُ هذا ساعةً بعدَ ساعةٍ حتى يبقى الحياءُ من الله طبيعةً فيك"، وكان من دعاءِ النبيِّ -ﷺ-: "وأسألُك خشيتَك في الغيب والشهادة"(رواه أحمدُ وصححه ابنُ حبان والحاكمُ).

 

إذا ما خَلَوْتَ الدَّهرَ يوماً فلا تَقُلْ *** خَلَوتُ ولكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ

ولا تَحْسَبَنَّ الله يَغْفُلُ سَاعةً *** ولا أنَّ ما يَخْفَى عَلَيْهِ يَغِيبُ

المرفقات
IONXLYwtGa6eUONKZr5Qvc03vzeEfXqOFv4PJHXh.pdf
VkN5SpzLOxzSbDA2L9SPVbxLLLziyZgInIYAssWl.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life