الدين سبيل السعادة في الحياتين

أدمن قديم

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات:

 

 

 

العلامة: إبراهيم الجبالي

 

 

ما أعجب شأنك أيها الإنسان؟ أيها الضعيف الجبار، أيها العاني العاجز، أيها الخطير الحقير، أيها الصغير الكبير: إن من تأمل في هذا المخلوق (النوع الإنساني)، رأى العجب العجاب، رأى أشد المخلوقات احتياجاً، وأكثرها مطالب، وأعجزها عن أن يستوفي لوازمه بمفرده، وأجزعها إذا فاته شيء مما يطلب، وأحرصها على التمسك بما نالته يده ولو لم تدع إليه حاجته الحاضرة:[إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا المُصَلِّينَ] {المعارج:22}.

 

تنظر إلى أنواع المخلوقات فتجدها كلها ذات حاجات محدودة يكفل كل فرد منها مصالح نفسه بنفسه، وإذا احتاج إلى الانضمام إلى غيره من جنسه فإلى حد محدود بمقدار ما يتعاون على دفع عدو كبعض أنواع القردة، أو بمقدار ما ينظم إنتاجه الذي هيء له بحسب خلقته كالنحل، أو ما يشاكل هذين الغرضين من المصالح التي ليست بضرورية لحياة الفرد أو النوع، أما هذا المخلوق فأضعف المخلوقات عن أن يستغني في وجوده عن غيره فهو في أشد الاحتياج بل الاضطرار إلى أن يستخدم في مصالحه واستكمال حياته من القوى ما لا يدخل تحت حصر، وكلما استكمل حاجة من حاجاته بدت له حاجة أخرى أشد منها، وهكذا:

 

نروح ونغدو لحاجاتنا=وحاجات من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته=وتبقى له حاجة ما بقي

 

وإن الحاجة الواحدة لتستدعي من القوى المتعاونة مالا يعرف عدده إلا بالتأمل وطول التفكير، انظر إلى ثوبه الذي يلبسه، ولابد له منه ليقي نفسه عوادي الجو التي لا قبل له بها وهو وحده من بين المخلوقات الشديدُ الضعف عن عمل حوادث الجو، انظر إلى ثوبه و افرضه ثوباً بسيطاً من قطن مثلاً وادرس تاريخ حياة هذا الثوب من يوم حرث الأرض، ولا تنس المحراث، وما ركب فيه من حديد وخشب وحبال ومواش وما يتطلبه كل واحد من هذه الأشياء من معدِّنين يستخرجون المعدن من منجمه وصناع يصفونه ويصقلونه ويصوغونه  ومثله الأجزاء الأخرى، ثم انظر إلى وضع البذور  وما يستتبعه من عملية زراعية سابقة، وانظر إلى السقي وما يطلب من آلات متنوعة وكم من الأيدي اشتغلت فيها، فإذا تم نباته وبدا صلاحه  فما هي أعمال جمعة وإعداده للنسيج، وكم بين بين الزراع ويد الناسج من وسيط صناعي وتجاري؟ ثم ما هي أعمال النسيج وماذا تستتبع، وما طريق رده من يد الناسج إلى يد المشتري المستهلك، وكيف يرده إلى خائطه، وما هي أدوات الخياطة، وما نحتاج إليه ؟ إن هذه سلسلة لا تحتاج إلى أن نشرحها لك، وإنما نذكر لك شيئاً منها ندعوك به إلى التأمل في كل حلقة من تلك السلسلة الطويل كيف تجر وراءها سلسلة أطول وتستخدم أيادي عاملة أكثر، وما من يد عاملة إلا وهي محتاجة إلى أيد كثيرة جداً تخدمها لتوفر لها قوتها التي تستعين بها على خدمتها لك.

فهل فكرت يوماً في هذا الجيش الجرار الذي يخدمك في ثوبك القطن البسيط، وأنك بدونه لا تستطيع أن تعيش؟ وهل فكرت يوماً في ضعفك المتناهي وأنك في حاجة شديدة في أبسط أمورك إلى خدم يقومون أودك، ويؤدون إليك منافع أنت إليها جد مضطر؟ وهل أنت في شك مما قدمناه إليك من أن هذا الإنسان أشد المخلوقات حرصاً على ما نالته يده مما عساه يحتاج إليه ولو على احتمال ضعيف فهو كنوز شحيح لا تسمح نفسه بالتجاوز عما أحرزت يده بل ولو لم يحتج إليه؟ هل هو كالسباع التي متى شبعت تركت فضل فريستها، وهل هو كالدجاج الذي متى اكتفى ترك الحب ومضى؟ وهل هو كالبهائم التي ترعى حتى تشبع ثم تعرض عما تأكل حتى تجوع فتعود على قدر حاجتها؟ كلا ما هو من ذلك في شيء، فهو إذا مسه الخير منوع فلا تطيب نفس امرئ عن شيء يناله إلا في مقابلة شيء يعادله، وعلى ذلك تجد نفسك مضطراً ـ لكي تنال خدمة هذا الجيش الجرار ـ أن تخدم هذا الجيش الجرار خدمة تعادل ما نلته منه وهنا ألفتك إلى كلمة ـ تعادل ما نلته منه ـ فمن ذا الذي يحكم لك أو عليك بأن هذا عدل ذاك فلم تظلم ولم تظلم؟ إن هذا أيضاً باب من أبواب الاحتياج يجر وراءه سلسلة من أطول السلاسل هي سلسلة الحكم والقضاء والتنفيذ وما إلى ذلك من قوة مهيمنة على جميعها ثم جيش يسندها، أرأيت هذا الضعف ؟ وأي ضعف أشد من  أن ترى نفسك محتاجاً في معيشتك البسيطة إلى أن يخدمك جيش وأن تخدم جيشاً؟

وكلما ارتقت حياة المرء في الحضارة وانغمس في النعيم كثرت حاجاته واشتد إليها احتياجه، والنعيم نُشدته دائماً فهو في كل حال ينشد الضعف وأسبابه ويجره إلى نفسه جراً، فالنعيم والترف محبوبان وهما من أقوى عوامل الضعف، فما أشبه حال الإنسان في ذلك يقول الشاعر:

 

أحبه وهلاكي في محبته=كعابد النار يهواها وتحرقه

 

ولا تنس أن المترفين أضعف منه وأوهى احتمالاً وأشد جزعاً لفقد حاجة من حاجاتهم بل لنقص لذة كمالية مما تعودوه بالرفه وأصبح قرين حياتهم ولا غنى لهم عنه.

فكلما ارتقت حياة المرء اشتد ضعفه وناهيك بذلك ضعفاً، وما أحسن تعبير ابن خلدون في وصف بعض الأمم بقوله: وقد اصابهم (داء الترف) فأفناهم، ويقول بعض الناس: الرفه مرض اختياري تجلبه النعمة ويأخذه من يشاء.

هذه ناحية من نواحي ضعفه نبهناك إليها وهي مما يدل قليله على كثيره لمن تأمل وتنقل بنظره في شئون الإنسان المتكثرة.

وأما ناحية جبروته وقوته وعنفه فهي أظهر من أن تخفى، فقد مكن الله له في الأرض [خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا] {البقرة:29}. وهداه إلى كيفية الانتفاع بها وبقواها المبثوثة فيها وسخر له كل شيء، وأطلق يده في كل عمل غير معطل الأسباب ولا محروم النتائج، وبث له من القوى في هذا العالم ما تمكن به من التحليل والتركيب في كبيرات الأمور وصغيراتها والاستثمار والاستعمار في فجاج الأرض ومسالكها، وأدنى له القطوف وركب فيه الحاجة التي تدفعه إلى الكد والكدح وابتكار الوسائل وشجعه نجاحه في الوصول إلى ما يبتغي متى أحكم الوسائل مما لم يكن يخطر له على بال، وهنا تفتقت له الصناعات وانقادت له القوى وصح أن يحرز هذا اللقب الجليل المذكور في قوله تعالى:[ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] {البقرة:30}.ولقد أخذ في هذه العوامل يقود بعضها بعضاً ويساعد أحدها الآخر فكلما عالج غاية وصل إليها متى ثبت وأتقن أسبابه وانتفع بهذا الملك الواسع الذي منحه الله له في قوله جل من قائل:[هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا] {البقرة:29}.لقد بحث عما خلقه الله له بدافع حاجاته المتتالية المتزايدة التي لا تقف عند حد، فاهتدى إليه وإلى استخدامه والانتفاع به بمقتضى ما وهبه الله من قوة العقل والفهم، ثم نسي احتياجه وذكر نجاحه فاعتز واغتر وطغى وتجبر حتى حدثته نفسه أن يشارك ربه في جبروته وكبريائه:[كَلَّا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى] {العلق:7}. ولكن سرعان ما تفجؤه فاجعة لم تكن له في حساب ـ وما أكثر نواحي ضعفه ـ فيخر من سماء كبريائه جزوعاً هلوعاً ويضعف ذلك الجبار حتى يرى نفسه غير جدير بالحياة التي وهبها له ربه فقد يحاول التخلص منها وهي أعز شيء عليه وكأنه يردد في خطرات نفسه قول ذلك القائل الجبار:

 

وأنا أناس لا توسط بيننا=لنا الصدر دور العالمين أو القبر

 

على رسلك أيها القارئ الكريم ولا تتعجل في النقد فكأني أسمع منك هذه الكلمة ـ لقد نسي الكاتب رأس موضوع )  (الدين سبيل السعادة في الحياتين) وخاض بنا في حديث غيره، لا لا، ما نسيته ولا نسيني وإنما مهدت لك بهذه المقدمة لتحسن الاستماع لما سيتلى عليك، ولتعلم أن منزلة الدين من فروع الحياة منزلة النفَس الذي لا يستغنى عنه لحظة فهو أكثر من منزلة الغذاء والشر اب وكل شأن آخر.

لقد تبينت أن الإنسان محفوف بعاملين عظيمين شديدي الأثر في مجرى حياته: عامل الضعف وعامل القوة، وأنهما يفعلان به فعلهما ويفكان بسعادته وهناءته، وأنه فريسة لهما لا يستطيع التخلص منهما، فاعلم أن أعظم ما ينقذه من فتكهما ولعبهما به هو تدينه وشعوره بأن له إلهاً مهيمناً عليه وعلى كل شيء في هذا العالم، وأن بيده ملكوت كل شيء وغليه المرجع في كل شيء، هذا الشعور والاعتقاد متى حل في النفس وتمكن منها غالبت به ما يعتريها من الوهن والتضعضع من متاعب الحياة ومصاعبها فإذا غلبتها  تكاليف الحياة وناءت بثقلها تذكرت أن لها رباً، رباً أغدق عليها نعمه وغمرها في بحر إحسانه وكرمه ووهبها نعمة الوجود والقوة والعقل وتسخير وتسهيل سبل الحياة وهبها كل هذا ولم تدفع له ثمناً ولا تصورته قبل أن يوهب لها فجدير بواهب النعمة كرماً أن يديمها ويجددها كرماً، وهنا يحق له أن ينشد قول القائل:

 

لا تيسن ولا تخف=ودع التفكر والأسف
الله عودك الجميـ=ـل فق على ما قد سلف

 

فتقوى نفسُه على تحمل أكدار الحياة ويتسع صدره لمصاعبها، ويزول عنه التضعضع المهلك والخنوع المزري فيستجم نشاطاً جديداً ويستجمع قوى فتية فيقبل على شأنه مستعيناً بربه واثقاً بمعونته، وكيف به إذا هو أقبل على عبادة ربه واتجه إلى مناجاته بلسانه و قلبه وبدأ عبادته بهذه الكلمة التي تبعث فيه أعظم قوة إذ يقول: الله أكبر ثم يردفها بقراءة أم الكتاب وفيها الثناء على الله تعالى بما هو أهله واستحضار أنه رب العالمين يربيهم ويبلغهم كمالاتهم التي أرادها لهم، ثم ذكر رحمته المتكررة وقوة ملكه في دار الآخرة وإن الدار الآخرة لهي الحيوان، ثم أخلص نفسه لعبادته وحده وجعل معونته به وحده، وأي معونة تلك التي تستمد من أعظم قوة بل من مصدر القوى والقدر، بل من واهب الوجود وما حوى؟ ههنا تسمو النفس من حضيض ذاتها، وتسترجع العظمة بواسطة عبوديتها، وتحتقر كل ما يصادفها مما تكره في سبيل أنها أحرزت أعظم غاية تقصد من حياتها هذه الفانية.

 

فليت الذي بيني وبينك عامر=وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين=وكل الذي فوق التراب تراب

 

نعم ويشعر بأن هذه الدار دار فناء وممر وأن الدار الآخرة دار بقاء ومقر، فلا ينبغي أن يذهب نفسه حسرات على حياة إنما هي لحظات قصيرة تنقضي سراعاً، ويقول كما قال فقير لعظيم : إن الفرق بيني وبينك لحظة وتنقضي فما مضى فني مني ومنك، وما بقي مغيب ومنعدم عني و عنك، وليس إلا اللحظة الحاضرة، فما شأنها في حياة الخلود في الدار الآخرة، أليس هذا الشعور مما يقوي عزائم النفوس ويشد أزرها في تحمل أعباء هذه الحياة؟ فكيف إذا اجتمع  إليه الاعتقاد بأنه إذا قابل مصائبها بالاطمئنان وقضاء ربه بالرضا نال بذلك الجزاء الأوفر الأوفى وفاز عند ربه بالحسنى ودخل في قوله جل شأنه: [يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي] {الفجر: 27 -30} .أليس يعتبر ما هو فيه من نكد الحياة فرصة سعادة يغتنم بها رضا ربه والفوز بدخول جنته؟ أليس يقول مع القائلين إن مصيبة تعطف المرء إلى ربه وتوجب عطف ربه عليه خير من نعمة تصرفه عنه وتكون وسيلة لنقمته؟ إن الشعور بهذه النعمة من أعظم ما يهون على المرء شقاء الحياة (والحياة كلها شقاء) ويبدلها سعادة وغبطة، وحقاً إن من سلب من المرء إيمانه فقد سلبه سعادة الدنيا قبل أن يسلبه سعادة الآخرة.

هذا شأن الدين في إنقاذ النفوس من فتك عوامل الضعف بها، وأما شأنه في معالجة ما يبطش بها من عوامل الشعور بالقوة فهو أعظم خطراً وأكبر أثراً، ذلك أن النفس إذا اعتزت بقوتها واغترت بالنعم التي أحرزتها فنسيت نفسها وتجاهلت منزلتها ملكها الطغيان وتمكن منها الشيطان فبطرت معيشتها وعتت عتواً كبيراً، وإنك لتجد في طبيعة النفوس من التطلع إلى مقام الكبرياء، وأنه يملك عليها مشاعرها ما إذا تأملته أشفقت عليها من نتائجه الوخيمة، وما ظنك بنزغة من نزغات الشيطان تطوح بتلك النفس الضعيفة إلى منازعة الله العلي الأعلى في كبريائه؟

التفت وحقك إلى ما يكون من المخدوم مع خادمه حين يعارضه في رأي أو يشير عليه بصواب أو يدافع عن نفسه بالحق كيف يكبر منه هذا ويستاء له ويؤنبه على تكلمه أمامه وإن بحق، روي أن عظيماً قال لشخص كيف  تجادلني وترد علي كلامي فقال: يا سيدي إن الله تعالى يقول:[يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ] {النحل:111}.ألا ترى هذا العظيم يعطي نفسه حقاً لم يرضه الله لنفسه، وهو أنه لم يسمح لمن أمامه أن يجادل عن نفسه؟

ثم ارجع بنظرك إلى ما يجري بين الناس إلى وقتنا هذا ولا تغضب إذا قلت لك لعلك تكون من هذا القبيل في بعض الأحيان، وإلا فلماذا تجد نفسك تتحرك بالغضب إذا ما خاطبك خادمك أو مرؤوسك يدافع عن نفسه بالأدب والحق ولا تتحرك إذا أغلظ لك القول من تعتقد فيه العظمة بالباطل، اصدقني وأنصف من نفسك واعلم أن الشعور بالقوة أخطر أثراً على النفس وأشد إهلاكاً لها وأحوج إلى المعالجة لإنقاذها من برائها من الشعور بالضعف، لا بل هما قوتان متكاتفتان على النفس تفتكان بها لولا ما وهبه الله من الدين الذي بعث به خير المرسلين وقال له:[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] {الأنبياء:107}.

فاعلم أن الشعور بأنك عبد الله أمرك أن تشكر نعمته عليك وتقدر نفسك قدرها ولا تعطيها ما ليس من حقها هو من نعم الله عليك التي تحفظ غيرها من النعم وتزيدها هذا، وإن الاسترسال في الاعتداد بالقوة من شأنه أن يصرف القلوب بعضها عن بعض ويوقع بينها النفرة والبغضاء فتسوء حياة صاحبه ويشعر بالمقت يتبادل بينه وبين الناس، ولا أتعس من حياة الكاره المكروه من خلطائه أجمعين.

ويعجبني قول الغزالي في التنفير من الكبر والترغيب في التواضع: (إنك لو رأيت عالماً جواداً متكبراً لأبغضته لكبريائه، ونفرت نفسك من علمه وجوده، ولو رأيت جاهلاً بخيلاً متواضعاً لوجدت من نفسك الميل إليه لتواضعه، فناهيك برذيلة أودت بفضيلتين وفضيلة سترت رذيلتين).

أضف إلى ذلك أن الدين يعدل مزاج ا لقوة ويوجهها إلى خير طريق يوصل إلى اشرف غاية تأمل قوله تعالى:[وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ] {القصص:77}. تجد أن الله تعالى يرشدنا إلى أن ما خولناه من نعمته بذر مخصب لمن أحسن زرعه وأنه صالح لأن يدر عليه أعظم الخيرات وينتج له أطيب الثمار حتى زرعه في مكانه الصالح له، ذلك بأن يبتغي فيه الدار الآخرة فيقوم بحث ربه فيه فتكون نعمة جرت نعماً وغنيمة استتبعت غنائم، وتكون كقولهم: الخير يجلب الخير، أو كقول العامة: لا يجلب المال إلا المال، فهي نعمة امتحنك بها فإن شئت جعلتها متجراً رابحاً لنعم وفيرة، وإن شئت لهوت بها فضيعت على نفسك الخير العاجل الآجل، فيكون الشخص حينئذ ممن خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين، ثم أردف ذلك بقوله:[ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا] {القصص:77}. ونصيبه منها إما الاستمتاع بما خول من نعمة فكأنه يقول له: لم تكلف أن تصرف كل ما أوتيت من نعمة إلى باب الإحسان إلى الغير وتنسى نفسك فالدين يسر لا عسر وإما أن النصيب من الدنيا هو ما يحرزه بواسطة تلك النعم في الآخرة، ويكون المعنى: أنك إذا لم تبادر إلى اغتنام الفائدة العائدة عليك من نعم الله عليك فقد نسيت نصيبك وظلمت نفسك بحرمانها من ثمرة تهيأت لها، وأي ظلم أكبر من ظلم المرء نفسه؟ ويقول الله بعد ذلك: [وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ] {القصص:77}. يهون عليه أمر الإحسان بأن يفهمه حقيقة ما هو فيه وأنه إحسان من الله وأنه مهما ادعى لنفسه أن ذلك بقوته وكسبه وكده وكدحه فما وهبه تلك القوى بل ما وهبه أصل الوجود إلا الواحد القهار الذي إن شاء سلبه إحسانه وكان ذلك جزاء عادلاً على أنه لم يحسن كما أحسن إليه.

وما أجل أن يردف هذا بقوله تخويفاً وإرهاباً: [وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ] {القصص:77}. فإنها توجه إلى النفوس التي تتعاصى على عوامل الترغيب ولا يجدي فيها إلا الإنذار والتهديد ويكفي التعبير عنه بأنه فساد في الأرض وإن الله لا يحب المفسدين، ومن ذا الذي يطمئن جنباه وقد أصبح وأمسى لا يحبه مولاه؟!

هذا شيء من معالجة الدين لعوامل الفتك بالنفوس من ناحيتي القوة والضعف يتبين به مقدار السعادة العائدة على النفس من الدين، وقد بقي عامل آخر أجل وأعظم يتجلى في الدين الإسلامي أعظم تجل، ذلك هو وضوح المعتقد ومتانة الدليل وسطوع الحكمة في الأحكام، وأول آثار هذا طمأنينة النفوس وإنقاذها من الحيرة التي تقض المضاجع، وإن أكبر منغصات الحياة هو الحيرة في فهم ما كلفت فهمه، أو ضعف الأدلة المؤيدة لما أوجب الدين اعتقاده أو منافرة الأحكام المكلف بها للصالح الخاص أو العام ولو شاء الله لابتلانا بشيء من هذا ولكن رحمة منه وفضلاً:[لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا] {البقرة:286}.

ولم يطلب منها لمرضاته إلا ما فيه خيرها ونفعها، واعتبر ذلك في الأحكام الخاصة والعامة تجده أوضح من أن يحتاج إلى دليل.

فهل تستهين بنعمة إنقاذ النفوس من تلك الحيرة التي تشير إليها، وهل تشك في أن العقيدة الإسلامية في وضوحها وسهولة قبولها وساطع براهينها هي في الذروة السامية والمثل الأعلى، وإن المجلة لتلم من حين إلى حين بتفاصيل تجلو ما عساه أن يخفى على بعض النفوس وإن كانت الشمس لا تحتاج إلى دليل.

وبعد فإن ما بيناه يشرح أثر الدين في سعادة الأفراد فرداً فرداً، وقد بقي أثره في سعادة الجماعة في هيئتها الاجتماعية، وإن هذه السعادة تتنوع إلى نوعين:

الأول: ما يرتكز على سعادة الأفراد، فإن الجماعة المكونة من أفراد تسود بينهم هذه السعادة يشعرون جميعاً بسعادة مضاعفة، واعتبر ذلك في شخص مسرور بين قوم مسرورين وآخر عنده أسباب مسرة الأول ولكنه بين قوم محزونين، ترى أن حزن جاره قد نغص عليه مسرته وأضعف ابتهاجه بها بخلاف الأول فقد استكمل الغبطة والحبور.

والنوع الثاني: ما تعود أسبابه إلى الروابط الاجتماعية وعلاقات ما بين الناس بعضهم وبعض وهذا يرجع إلى أصلين عظيمين: الفضل والعدل، أما الفضل فبابه الأخلاق، وقد بلغ من عناية الشرع بها أن كاد ينحصر فيها غرض البعثة في قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وأما العدل فناهيك بأحكام المعاملات سواء في سياسة المنزل المعروفة بالأحوال الشخصية أو في سياسة المدنية المعروفة بالأحكام المدنية أو ما يتبعها من أحكام العدو أو الجنايات التي تضمن ردع الناس عن غيهم وسلامتهم من شرهم.

ولقد جاءت الشريعة الإسلامية ولله الحمد بما لا مطلب بعده لطالب، ولا تزال الأمم تحيد عنها عمداً ثم ترجع إليها قهراً وقسراً ، تقهرها التجارب وتلجئها المصالح وما شذوا فيه اليوم فلابد من رجوعهم إليه ولو بعد حين، وإن في قوله تعالى:[إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] {النحل:90}. كفاية وكفاية، وإنك إذا تصورت حياة قوم قد نضبت نفوسهم من معين الدين وانتشرت بينهم الأخلاق المنهية شرعاً وتصورت ما يكونون عليه من تنابذ وتدابر وشحناء وبغضاء واضطراب أمن وقطع صلات لتصورات التعاسة مجسمة وقلت بينك وبين نفسك: الحمد لله على نعمة الإسلام الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وكذلك لو تصورت حياة فرد قد نبذ الدين ظهريا واندفع في شهواته المنهية شرعاً ورأيت كيف يسوء حاله في ماله وعقله وصحته وشرفه وكيف تؤول به حياة الدعارة والفجور إلى أسوأ حياة وأشقى معيشة، لسألت الله السلامة من الفساد ولقلت: اللهم احفظ علينا ديننا، نبتغي بذلك حفظ سعادة هذه الحياة وإن لم تفكر في أمر الحياة الآخرة، وإن أنس لا أنس رجلاً شهدته مات أبوه عن ثروة واسعة جداً وقد كسبها بعرق جبينه فكان على تنميتها والمحافظة عليها جد حريص حتى فاته أن يعني بتربية أبنائه وتهذيبهم بأكثر من منعهم قسراً مما يشتهون، ولم يؤيد ذلك بغرس الفضيلة في نفوسهم أو توجيهما نحو الغايات السامة ولو بإشعارهم بمعنى الكرامة الدنيوية، فما هو إلا أن مات ذلك الأب المسيء حتى اندفع ذلك الابن التعس في حياة اللهو والدعارة باستهتار وسراء شديدين فكان كمن كاد الظمأ يقتله فعثر بماء مثلوج فكلما شرب اشتد به الظمأ فلم تمض عليه شهور عدة حتى ذى شبابه وساءت صحته وتملكته الأمراض من كل جانب ولم يكن له بها من عهد، فعرض نفسه على الأطباء فأشاروا عليه بترك النساء والخمور والسهر وحياة اللهو  أنذروه أنه إن خالف فإنه لا يمضي عليه شهر كامل حتى يفارق الحياة فاستمع لنصيحتهم أيام معدودات ثم غلبته شقوته واستحكمت فيه شهوته، فعاد مندفعاً بأشد مما كان فلم يمض عليه شهر من تاريخ مشورة الأطباء حتى فارق الحياة غير مأسوف عليه من أحد ولا من أهله.

أفلا تقول معي بئست الحياة حياة لا تقوم على أساس متين ولم تشيد على أركان الدين، والأمثلة كثيرة على ذلك لا تكاد تحصى.

هذا شيء من سعادة الحياة بالدين في الدنيا، وأما سعادة الحياة الأخروية فنصوصها في الشرائع جميعها وفي آيات القرآن الكريم أكثر من أن تذكر ويكفي قوله تعالى:[وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى] {النَّازعات:41}.

 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

 

 

 

 

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life