اقتباس
فهل كان الدافع لذلك تقربه للتيار الليبرالي المتمكن من مصادر القرار في البلاد؟ أم هي مواقف خصومة حصلت له مع أفراد باين بها الدكتور المنهج كله، وأعلن حربه عليه؟ أم هو توجه جديد سلكه فحارب منهج الأمس بكل ما أوتي من قوة ليثبت لتلامذته والعاتبين عليه أن تغيره كان للأحسن، وأن المنهج القديم كان..
«من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب»، تتبدى لي هذه الجملة المعبرة كلما سمعت كلامًا أو قرأت مقالا للدكتورين الفاضلين: طارق السويدان وحاتم العوني سددهما الله تعالى، فالأول تخصص في مراحل دراسته العليا في هندسة البترول، والثاني في علم الحديث. فترك السويدان تخصصه واقتحم علوم الشريعة والتاريخ، وأصدر سلاسل عدة في التاريخ بدء من الصحابة رضي الله عنهم، وتجاوز ذلك إلى الكلام عن الحدود الشرعية (حد الردة) والأسماء والصفات والولاء والبراء، وهو لا يملك أصول العلوم الشرعية ولا أصول علم التاريخ.
وعلى العكس منه الدكتور حاتم فإنه تعلم علوم السنة ثم فارق تخصصه ليقتحم الميادين الفكرية وليس له بها دراية، فصدر عن كليهما عجائب بسبب ذلك. وحين يلح أهل كل فن على أن لفنهم أصولا يجب أن لا يتكلم في الفن إلا من وعاها فإنهم يريدون منع المتطفلين من تقحم فنهم.
تعالوا معي للنظر فيما جر إليه حديث السويدان والعوني في غير تخصصهما من تخبطات منهجية، وتناقضات لا تليق بالعقلاء من أمثالهما، وهي شذرات علقت بذهني أثناء السماع لهما أو قراءة ما كتبا، وليست عن بحث واستقصاء:
ذكر الدكتور السويدان في مقدمة سلسلته عن الصحابة رضي الله عنهم أن هدف إخراج هذه السلسلة حماية الشباب من كتابات مشوهي التاريخ كجورجي زيدان وأمثاله، وهو هدف نبيل لا شك، ولكنه أكبر من حجم المتصدي له، وذكر من منهجيته في تناول السلسلة أن لا يروي عن الضعفاء الذين شوهوا التاريخ الإسلامي بمروياتهم كالواقدي..وإنما سينقل عن الطبري.
وحين سمعت ذلك منه فور صدور هذه الأشرطة قبل خمسة عشر عاما أو نحوها داخلني حينها شك أن الرجل متخصص في التاريخ أو الرواية؛ لأن هذا الكلام لا يقوله متخصص، وتساءلت: إذا استبعد رواية الضعفاء في التاريخ فمن أين سيأتي بمادة لما سيقول، وكنت أظن من قبل أنه متخصص في الحديث، وسيجري أحكام المحدثين على روايات التاريخ، ومضى يبين منهجه، ثم بدأ بأخبار الصحابة رضي الله عنهم وخاصة فيما يتعلق بالفتنة التي انتهت بمقتل عثمان رضي الله عنه وما بعدها من أحداث، وبغض النظر عن كونه ولج في الحديث عن الفتنة وهو باب قد طواه العلماء عن العامة لتبقى قلوبهم سليمة على الصحابة رضي الله عنهم، لكن الخطأ المنهجي الفادح الذي وقع فيه أنه صار يذكر مرويات الواقدي وهو لا يدري أنه يعتمد عليها، فهو يروي عن الطبري، وكثير من روايات الطبري إنما هي عن الواقدي لكنه يذكره باسمه فيقول مثلا: حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر. ومحمد بن عمر هذا هو الواقدي لكن الدكتور السويدان لا يعلم أن هذا اسمه. هذا الخطأ المنهجي ينسف مشروع الدكتور السويدان من أساسه؛ لأنه أراد تنقية التاريخ من رواية الضعفاء فإذا هو ينقل عنهم وهو لا يعرف أسماءهم ولا يدري من هم.
ويبدو لي أن مشروع الدكتور السويدان في التاريخ قد جمعه هو أو جمع له، وهو يلقيه بأسلوبه الجذاب ليؤثر في المستمع، وهذا الجمع لم يكن قائما على الترجيح بين الروايات لاختيار الأوثق لكنه جمع عشوائي، يلتقط جامعه من الروايات ما فيه إثارة وحكاية لجذب المستمع، وأذكر في سلسلة تاريخ الأندلس سمعت شريطا للدكتور عن قصة القاضي منذر بن سعيد البلوطي مع الأمير -أظنه إن لم تخني الذاكرة- عبد الرحمن الناصر، في قصة صلاة الاستسقاء، وفحواها أن غلام الأمير أرسل إلى القاضي يؤذنه بالخروج للصلاة، فسأله: كيف تركت الأمير؟ قال: يبكي ويقول: لا تعذب العباد بذنوبي -أو فيما معناه- فقال منذر: يا غلام: أحضر المطر، إذا ذل جبار الأرض رحم جبار السماء. هكذا قال الدكتور السويدان، والحقيقة أني لم أفهم قول منذر: أحضر المطر، ورجعت إلى القصة في كتب السير لأفهم العبارة فوجدتها: يا غلام أحضر الممطرة...ألخ، وهي المظلة التي يُتقى بها المطر. ويبدو أن الدكتور السويدان ما عرف معنى الممطرة وظنها محرفة عن المطر، أو أنها كانت فعلا محرفة في النسخة التي نقل منها. ولا إشكال في الخطأ فكل يخطئ، ولكن عبارة مثل هذه كان يجب على ملقيها أن تستوقفه ليبحث عن معناها، لا أن يقرأها كيف ما اتفق.
هذا لا يعني أن سلسلته في تاريخ الأندلس عرية عن المتعة والفائدة بل هي ممتعة ومفيدة، لكن أردت بيان الأخطاء المنهجية التي يسببها دخول الإنسان في غير فنه، وهي عجائب من الأخطاء، قد يوصلها البعض إلى درجة الفضائح. هذا في التاريخ الذي يتساهل العلماء في مروياته، فكيف إذن بعلوم الشريعة -العقائد والفقه- وفيها من الصرامة المنهجية عند العلماء ما يحفظها من عبث العابثين، فاستحلال الدكتور السويدان الخوض فيها وهو يفتقر لمعرفة أصول هذه العلوم تَعَدٍ منه على جناب الشريعة، وانتهاك لحرمتها لا مسوغ له، أوقعه في عظائم من القول والتقرير والفتوى بلا علم.
أما الدكتور حاتم العوني فمنذ محاولته ارتداء عباءة التنوير، والسعي لإخضاع الشريعة لرؤيته الجديدة وهو يتنقل من خطأ إلى آخر أعظم منه، وأذكر في معرض الكتاب قبل الماضي أو الذي قبله خرج الدكتور العوني على قناة دليل الفضائية في برنامج يتعلق بالكتب وعرضها، ومن العجائب التي قررها في هذا البرنامج أنه انتقد المحتسبين الذين طالبوا بسحب كتب الإلحاد من المعرض بحجة أن هذه الكتب لا يأتيها إلا من يعرفها من المتخصصين، فإما أن ينقدوها أو يستفيدوا منها، وإما أنهم ملاحدة أصلا سيجدوها إذا أرادوها ولو منعت.
ولأن لازم هذا القول الفاسد أن يُسمح بكتب الجنس والفحش وأفلامه باعتبار أنها أقل إثمًا من الإلحاد فإن الدكتور العوني تخلص من هذا اللازم بالقول بمنعها وحجته في ذلك أن العامة والمراهقين سيبحثون عنها وتفسدهم، والنفوس تتطلع إلى الشهوات. فالأولى متخصصة لا يأتيها إلا متخصص فسمح الدكتور بها، والثانية يخشى على العامة منها لأنها شهوانية فمنعها. والحقيقة أن هذا التقرير في الفرق بينهما ينطوي على جهل الدكتور العوني بمصادر الإلحاد ومظانه؛ لأنه لا خبرة له في المجالات الفكرية، فهو ظن أن الإلحاد محصور في الكتب الفلسفية المعقدة، وما علم أن أكثر مصادر تسريب الإلحاد هي الروايات التي يقتنيها الشباب والفتيات!
ومن آخر أوابد الدكتور العوني مقاليه المتتابعين (وفي الصف الإسلامي المتشدد علمانيون أيضًا) وهما مقالان مزريان بكاتبهما، ويكشفان ضحالة إلمامه بالأفكار المحدثة وأصولها ومعانيها، وما وقع في هذا الخلل المنهجي إلا بسبب تقحمه ما لا علم له به، وتركه ما يعلم.
تعالوا لنكشف الخلل في هذين المقالين:
معلوم أن العلماني سواء كان مغاليًا في علمانيته يقول بنسبية كل شيء، وينفي وجود حقيقة مطلقة، أو كان أقل من ذلك فيقول بفصل الدين على الحياة.. كلا أصحاب الاتجاهين العلمانيين ينطلقون من فكرة يؤمنون بها، ويقولون بها. بمعنى أنهم مؤمنون بفكرة تنحية الشريعة عن الحياة. أما من وصفهم الدكتور العوني بالعلمانية -على فرض وجودهم على أرض الحقيقة بالحجم الذي في ذهن الدكتور- فإنهم يبرؤون مما وقعوا فيه، فلا يستحلون الكذب ولا البغي ولا الظلم، ولا يعترفون به منهجًا لهم، ولا يمكن لعاقل أن يقول غير ذلك.. فالعلماني التغريبي الذي أراد الدكتور مساواته مع العلماني الإسلامي الذي اخترعه يقول بتحرير المرأة من قيود الدين كالحجاب والولاية والمحرم وغير ذلك، فهو يعلن رفضه لهذه الأحكام الشرعية، وأما من خالف العدل والصدق فوقع في الظلم والبغي والكذب لا يعترف بالأخلاق الرديئة ولو وقع فيها..
هذا الخلل المنهجي في فهم الأفكار هو الذي أوقع الدكتور في هذا الخطأ فاخترع علمانية جديدة لو أطلع عليها منظرو العلمانية الغربيين أو العرب لسقطوا على قفاهم من القهقهة على سذاجة هذه الفكرة.
وقد عجبت كثيرا من وصف الدكتور العوني لأهل هذه العلمانية التي اخترعها بالكذب على الخصم والافتراء عليه، وظننته يقصد أهل الصحافة الذين افتروا على المشايخ بأنواع الأكاذيب التي باتت مكشوفة عند العوام، لأكتشف أن الدكتور حاتم إنما كتب مقالته ليخفف عن المفترين من أهل الصحافة بالطعن فيمن يفضحون كذبهم للعامة؛ ليخترع لهم علمانية تخفف عنهم وصف العلمانية الملازم لهم.. يا للعجب!!
والملاحظ أن الدكتور العوني قد سل سيفه على الاتجاه السلفي منذ مقالته المشهورة (سنصدع بالحق) التي أتبعها بأنواع من شذوذ الفقه بعضها يصل إلى حد الطرفة في تقعيدها والاستدلال لها.
فهل كان الدافع لذلك تقربه للتيار الليبرالي المتمكن من مصادر القرار في البلاد؟ أم هي مواقف خصومة حصلت له مع أفراد باين بها الدكتور المنهج كله، وأعلن حربه عليه؟ أم هو توجه جديد سلكه فحارب منهج الأمس بكل ما أوتي من قوة ليثبت لتلامذته والعاتبين عليه أن تغيره كان للأحسن، وأن المنهج القديم كان رديئًا. كل ذلك محتمل، ولكن ما بال المتسربين من مدرسة المنهج الأثري يقذفونها بالحجارة وهم يدبرون عنها.. أيظنون أنهم بذلك يضرونها وهم يرون الليبراليين يقذفونها بالمنجنيق ولم يؤثر ذلك فيها شيئًا، بل منهجها في رسوخ وقوة وثبات، وأتباعها في ازدياد ولله الحمد، ولن يضر القاذفون لها إلا أنفسهم، وسيأتي اليوم الذي يندمون فيه على ما فعلوا، ألهمنا الله تعالى وإياهم رشدنا، وكفانا شرور أنفسنا..
السبت12/7/1433
التعليقات