اقتباس
من أخطر الأمراض التي من الممكن أن تحطم الأمم والجماعات والأفراد؛ مرض الهزيمة النفسية والشعور بالدونية عن الآخرين، فهو مرض فتاك، له أعراض في غاية الخطورة، ومن أشد أعراضه ضررا وصول الشخص أو الجماعة أو حتى الأمة لمرحلة اليأس والقنوط، وخطورة اليأس أنه ينتشر كالوباء الفتاك وينتقل بسرعة من بلد لآخر ويتسرب من جيل إلى جيل، إنه أخطر أمراض الأمم ..
من أخطر الأمراض التي من الممكن أن تحطم الأمم والجماعات والأفراد؛ مرض الهزيمة النفسية والشعور بالدونية عن الآخرين، فهو مرض فتاك، له أعراض في غاية الخطورة، ومن أشد أعراضه ضررا وصول الشخص أو الجماعة أو حتى الأمة لمرحلة اليأس والقنوط، وخطورة اليأس أنه ينتشر كالوباء الفتاك وينتقل بسرعة من بلد لآخر ويتسرب من جيل إلى جيل..
إنه أخطر أمراض الأمم، إنه الداء العضال الذي يصيب القلوب ويحطم النفوس ويغتال الآمال ويقتل الأحلام، اليأس إذا دخل قلبا وتمكن منه تحول صاحب هذا القلب إلى حطام إنسان وبقايا مسلم، تحول صاحبه إلى جثة هامدة لا يتحرك لا يتكلم لا يفكر لا يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر لا يغير واقعا لا يتمنى ولا يحلم ولا حتى يفكر في الحلم فهو حي ميت ومستيقظ نائم..
فمع اليأس يرتدي الإنسان منظارا أسودا يرى به كل الأشياء سوداء، ومع اليأس يتصور المسلم أن أعداءه لا يقهرون ولا سبيل عليهم ولا فائدة من الوقوف أمامهم، فاليأس هو العقبة الكئود التي تعترض طريق الأحياء لاستعادة الكرامة المفقودة والمجد الضائع، وهو الصخرة الصلبة التي تتحطم عليها الجهود المخلصة للنصرة والرقي، وبالجملة فاليأس داء قاتل قتّال للناس، هذا رغم الوعيد الشديد والإنذار الأكيد من المولى العلي الحميد عندما قال: (ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) [سورة يوسف الآية 87]، وأصبح لسان حال كثير من أبناء الأمة كما قال الشاعر:
يا قوم لا تتكلموا إن الكلام محرم
ودعوا التفهم جانبا فالخير ألا تفهموا
ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلا النّوّم
إن قيل نهاركم ليل فقالوا مظلم
وإن قيل ما تستحقون فقالوا نعدم
هذا لمن أراد أن يلقي عيشه مكرم
والحقيقة المريرة التي يواجهها الدعاة لدين الله عز وجل هذه الأيام أن هذا الشعور بالهزيمة النفسية والإحباط والدونية قد أصبح مستشريا في أوساط قطاعات كثيرة من أبناء أمتنا خاصة قطاع الشباب، فنحن -وللأسف الشديد- أصحاب كرامة جريحة، ويزداد الإحساس بهذا الجرح مع مطالعة تاريخ الأمة الناصع والمليء بالإنجازات والمفاخر، فأمة الإسلام قد قادت البشرية لعدة قرون، وهيمنت على معظم أجزاء العالم القديم فعليا لأكثر من سبعة قرون، ثم وجدنا أنفسنا شيئا فشيء نتوارى عن المشهد الحضاري، وإذا بالأمم الجاهلة -التي كان للمسلمين الفضل في تقدمها وخروجها من الظلمات- تتقدم بعلوم المسلمين وتنهض بها وتتولى زمام البشرية، وفي المقابل تتخلف أمتنا وتعاني من الجمود والتكلس العلمي والاجتماعي والحضاري؛ لتقع بعدها فريسة لحملات شرسة من العدوان الثقافي والحضاري والفكري والعسكري في صور شديدة المراس.
ومما زاد أيضا في الشعور باليأس والإهانة الحضارية أن واقعنا الاجتماعي والسياسي والحضاري والاقتصادي لا يتماشى مطلقا مع ما نملكه من منهج وأصول وثوابت كبرى لإصلاح وهداية البشرية، أي أصبح هناك فجوة واسعة بين المنهج النظري والتطبيق العملي، والتخلف هو السمة البارزة اليوم في مجتمعاتنا، وردم هذه الفجوة والتقريب بين النظري والواقعي يحتاج لجهود ضخمة من الجميع، وشعور المسلمين اليوم بأنهم متخلفون عن ركب الحضارة يعمق الإحساس عندهم بهذا الإحباط واليأس، وما بين تاريخ تليد وماضي مجيد وواقع أليم وحاضر مهين، زاد شعور كثير من أبناء الأمة بالإهانة والانكسار، لذلك فقد أصبح من أولويات الدعاة في هذا العصر المليء بالانكسارات والهزائم مواجهة هذا المرض العضال واستنهاض همم المسلمين تارة أخرى، والوصول لعلاج أمثل لعلاج كرامتنا الجريحة من أثر هذه الهزائم والإهانات الحضارية والاجتماعية التي نتلقاها في شتى الميادين، والأمم لا تنهض من كبوتها إلا بمداومة كرامتها وكبريائها إذا تعرض للانتقاص، بذلك تحفظ هيبتها وتداوي جراحها وتحفظ أبناءها من الوقوع في أسر الإحساس بالانكسار والدونية التي تولد اليأس الخطير.
ومن هذا الأساس والمنطلق كان رد فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما قتل سفيره الحارث بن عمير الأزدي على يد عامل الروم سنة 8 هـ أعلن الحرب على الروم وكانوا أكبر قوة على وجه الأرض وقتها، ولم يبالِ بالفارق الضخم بين القوتين، ذلك لأن قتل السفراء كان بمثابة إعلان للحرب وجرح لكرامة الدول، وأيضا لأن العرب كانت تهاب الروم وتخشاهم بشدة، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الغزوة وغزوة تبوك بعدها أن يضع حدا لهذه المخاوف المتوهمة من الروم، بعدها كان هينا على العرب أن يقتحموا بلاد الشام ويحرروها من الروم، والأمر نفسه فعله الخليفة العباسي المعتصم بالله في معركة عمورية سنة 223 هـ عندما أغار على أشرف مدن الروم البيزنطيين ودمرها انتقاما لإغارة إمبراطور الروم على قرية حدودية صغيرة للدولة العباسية هي قرية زبطرة، وكذلك فعلها الناصر صلاح الدين عندما أقسم ليقتلن الأمير الصليبي "رينالد دي شاتليون " المعروف باسم " أرناط "، بسبب اعتدائه على قوافل الحجيج، وفعلها السلطان العثماني مراد الثاني عندما انتقم من ملك المجر " لاديساسي" سنة 848 هـ لذبحه أهل مدينة " فارنا" العثمانية، والأمثلة كثيرة على وجوب مسارعة الأمة لمداواة جراحها قبل أن تتقيح وتصبح علة مزمنة، وفي العصر الحديث وجدنا أن أمريكا قد أحست بجرح عميق في كبريائها وهي تري مراكزها ورموزها التجارية والعسكرية تتعرض للضرب في أحداث سبتمبر سنة 2001، فراحت تتخذ من هذا الهجوم ذريعة لتوجيه الضربات الواحدة تلو الأخرى للعديد من الدول ظنا منها أنها تستعيد بذلك كرامتها الجريحة.
ولكن على الدعاة في بنائهم وترميمهم لجراح الأمة واستنهاض همم أبنائها مراعاة أمور هامة، حتى لا تتحول استراتيجية النهوض لمزيد من الانكسارات، ومن هذه الأمور:
الأول: إن الشعور بالإهانة والدونية شيء والوقوع في الإحباط واليأس شيء آخر، فالشعور بالإهانة ليس مذموما لذاته؛ لأنه بمثابة الشعور بالألم عند الإنسان المريض، ينبه إلى وجود علة ومرض في الجسد، ودون هذا الشعور يموت الإنسان بعلته ولا يدري، فلو فقدت الأمة إحساسها بالدونية فإن ذلك يعني أن خللا بنيويا في تقديرنا لأنفسنا وحجمنا الطبيعي في منظومة الدول وخريطة الأمم، وحتى ولو ضعف هذا الإحساس في قلوب بعض أبناء المسلمين بسبب اهتماماتهم الشخصية ومنافعهم الدنيوية، وموجات اللهو والمتعة التي تكرس حب الذات والأنانية عند أبناء المسلمين في ظل موجات التغريب والعولمة والغزو الثقافي التي تجتاح العالم بأسره، فإن هذا الشعور بالدونية بداية الإحساس بحتمية العلاج.
الثاني: ضرورة تفعيل الشعور بالدونية وامتهان الكرامة، وتوظيف جراح الأمة في تحفيز همم أبنائها، واكتساب المنعة والارتقاء والفكاك من أسر التخلف، وذلك وفق إستراتيجية واضحة وبصورة مدروسة ومنهجية، بعيدا عن التسرع والعشوائية ونزعات العواطف المثارة، فحين يشتعل الإحساس بالهوان والدونية، قد نتصرف وفق رؤية جزئية ومبتسرة، قد تؤدي لزيادة الجروح واتساع الآلام، ولا نسترجع بذلك حقوقا مسلوبة، ولا نداوي بها جراحا، بل تزداد بها الأزمات وتتوالى بها النكبات، وبنظرة سريعة عما جرى للعالم الإسلامي في الأعوام الأخيرة مثال واضح على عاقبة التسرع والتصرف بعاطفية، فما أسوأ أن يصبح لفظ الإسلام مرادفا للخوف والإرهاب والتطرف، ومهما كان عند الطرف المتسرع في مداواة كرامتنا الجريحة من مبررات وحجج لانفراده بالرد ومسارعته بالانتقام، يبقى أن آثار هذا التسرع وخيمة ووبيلة على الأمة كلها.
الثالث: لابد من الوقوف على سبب الأزمة الحقيقي، ومعرفة التوصيف الصحيح لعلل الأمة المزمنة والتي أورثتنا كل هذه النكبات، لابد لنا من سؤال أنفسنا لماذا يتجرأ علينا الآخرون؟ لماذا وصلت الأمة لهذا المستوى من الانهيار الحضاري بحيث أصبحت كلأ مباحا لأعدائها من كل حدب وصوب؟ بل نسأل أنفسنا لماذا يواصلون جرحنا وإيذاءنا مرة بعد مرة، ونحن عاجزون عن ردعهم وإيقاف عدوانهم المتتالي؟ فما عليه الأمة الآن هو محصلة قرون من الأخطاء والخطايا التاريخية التي نشأت أساسا بسبب بعد الأمة عن المنهج الرباني القويم، مما أفقدنا القدرة على التحدي ومعالجة المشاكل المزمنة، وأمريكا حين ضربت في أحداث سبتمبر تنادى مثقفيها ومفكريها في أطروحة عامة تساءلوا فيها: لماذا حدث لهم ذلك؟ ولماذا يكرهوننا؟ وذلك للوقوف على أسباب هذه النكبة ووضع التدابير اللازمة لمنع وقوعها مرة أخرى. هذا السؤال الحيوي يمثل لبنة الأساس في الخروج من نفق الأمة المظلم، والخطوة الأولي على طريق العلاج الصحيح لأزمات الأمة المتقرحة، فإن كرامتنا لم تمتهن في واقع الأمر بسبب ما عندنا من ثروات يطمح فيها العدو فحسب، ولكن لأننا بأيدينا قد أوقعنا أنفسنا في هذه المأزق الحضاري، فالتخلف الذي يخيم على العديد من جوانب حياتنا جعل أبناء الأمة غير مؤهلين لمواكبة أقرانهم في الدول الغربية، وجعل الأمة عالة على الأمم الأخرى في غالب أمور حياتهم، مما أوجد حالة من الدونية والانهزامية عند أبناء الأمة وشروخا في نفسيتهم وعقليتهم جعلتهم يعيشون على هامش العصر.
الرابع: أن الصراع بينا وبين عدونا الذين يجرح كرامتنا ليس صراعا عسكريا فحسب، والتاريخ قد أثبت في مواطن كثيرة أن الحسم العسكري لا يحل المشاكل المزمنة، والقوة ليست الحل النهائي، بل هو صراع حضاري أخذ أشكالا وتجليات عديدة منها العسكري، وإن التفوق الحضاري هو العنصر الفاعل الحقيقي في حسم الصراعات الأممية، فليس التاريخ المجيد، أو المنهج القوي السديد، بالرادع لأعدائنا عن انتهاك كرامتنا وخفر ذمتنا، فالرادع هو التمسك بالمنهج القويم الذي يغير وجه الأمة ويعيد لها بصمتها الحضارية التي مكنتها من تبوء مقعد القيادة في العالم، وما نقدمه للبشرية من منتجات وثقافات تدل على بصمتنا الحضارية تلك.
الخامس: أن على الدعاة ألا ينسوا أبدا أن طبيعة علاقتنا بالآخرين -حتى العدو منهم- هي علاقة الدعوة لدين الله، وليس رد الكيل والصاع بالصاعين؛ فالعداء عادة ما يكون من الأنظمة والحكومات، وليس من الشعوب التي ما زالت بحاجة لسماع دعوة الحق، وليس ذلك دعوة للخور أو الجبن أو إطفاء روح المقاومة، ولكن للعمل على كل الأصعدة للوصول للتفوق الحضاري الناقل لعدونا من مرحلة الاستعداء إلى مرحلة الاقتداء، فنحن أمة الدعوة والتبليغ للعالمين، وإن عدونا لن يسمع منا مادامت الأمة متخلفة ومنهارة على كل الأصعدة، فنحن في حاجة لأن نعمل على إيجاد الوضعية العامة التي تجعل أعداءنا لا يفكرون في الهجوم علينا فحسب، بل يحاولون تقليدنا والاقتباس منا. وهذا لن يكون إلا بجهود كل مسلم غيور على دينه وأمته، ولن يكون إلا بتنسيق الجهود وتكاملها بين أفراد الأمة، وهذا ربما يكون من أهم أسباب نجاح الأمة في ترميم جراحها واستعادة كبريائها، وما حدث مع التتار مع أمة الإسلام خير مثال على هذا الكلام، فرغم أن التتار قد اكتسحوا العالم الإسلامي في سنوات معدودة وهدموا كيانها الحضاري إلا أنهم قد وجدوا أنفسهم في حالة إفلاس فكري ومنهجي شاسع أمام المسلمين فدخلوا في دين الله أفواجا، اقتدى الغالب لأول مرة في تاريخ الأمم بالمغلوب.
فعلينا -معاشر الدعاة- أمانة إدراك مواطن الخلل في أمتنا، وإيجاد الحلول العاجلة والآجلة لنقاط ضعفنا في علاقتنا مع الأمم الأخرى، فتحرير الإرادة من ظلال اليأس والإحباط والشعور بالدونية أمام الآخرين سيظل هو العامل الجوهري في استنهاض ملكاتنا وطاقاتنا من أجل تقدم أمتنا، وما أعظمه من سعي لو تحقق.
التعليقات