اقتباس
ومن أهم الأمور التي يجب أن يتعامل معها الدعاة بقدر وافر من الجدية وأن تدرج في مركز متقدم في سلم أولوياتهم، في هذا العصر الموصوف بالسرعة والتجدد والتغيير المستمر والنمو المطرد، هي كيفية بناء الشخصية المسلمة المعطاءة أو الفاعلة الفعالة التي لا تنتظر غيرها لينجز لها بل تتولى هي زمام المبادرة، أو ما يعرف عند علماء التخطيط والتنظير المعرفي والتنمية البشرية بثقافة "الإنجاز المتجاوز"؛ والتي تعني: ..
الدعاة يقومون في الأمة مقام نبيها صلى الله عليه وسلم، ويضطلعون بنفس مهامه الدينية والحضارية أيضا، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يبني دعوة دينية أو يؤسس جماعة إسلامية فحسب، بل كان يبني حضارة متكاملة الأركان والبنيان، تتفاعل فيها كل مكونات الأمة وعناصر المجتمع الإسلامي من أجل بناء هذه الحضارة، ومن ثم كان على الدعاة مراعاة هذا الجانب بما يلائم خصوصيتنا، ويخدم أهدافنا وتطلعاتنا، ويتماهى مع دورنا الريادي والتاريخي في هداية البشرية وتحقيق البلاغ باستفاضةٍ ترفع العذر وتقيم الحجة.
ومن أهم الأمور التي يجب أن يتعامل معها الدعاة بقدر وافر من الجدية وأن تدرج في مركز متقدم في سلم أولوياتهم، في هذا العصر الموصوف بالسرعة والتجدد والتغيير المستمر والنمو المطرد، هي كيفية بناء الشخصية المسلمة المعطاءة أو الفاعلة الفعالة التي لا تنتظر غيرها لينجز لها بل تتولى هي زمام المبادرة، أو ما يعرف عند علماء التخطيط والتنظير المعرفي والتنمية البشرية بثقافة "الإنجاز المتجاوز"؛ والتي تعني: ألا يؤخر المسلم شيئا ما يريد أن ينجزه من اليوم إلى الغد انتظارا لغيره أن ينجزه أو لصروف الدهر وتغييرات المستقبل، وبعبارة أخرى تعزيز روح الإيجابية والمبادرة الفردية لدى المسلم بحيث يتعامل المسلم مع متغيرات العصر بإيجابية وانفتاح بعيدا عن أشباح وموروثات عصور الانحطاط الحضاري التي تتخوف من كل جديد وتعشق الجمود والكسل والتواكل.
والدعاة في واقع الأمر يتعاملون مع قضية الإنجاز المتجاوز على أنها نوع من أنواع الترف الفكري والرفاهية المعرفية ويعتبرون أن تناول هذه الأمور مضيعة للوقت ويتأولون لتكريس هذا الوهم بعض الأدلة السمعية والعقلية مثل "كل ميسر لما خلق له" [متفق عليه - عن عمران رضي الله عنه]، وأن الفروق الفردية هي التي تحدد طموحات ومسار كل واحد منا في حياته، متجاهلين أن النفس البشرية قد فطرت على الاستقامة وأن التربية والتعليم قد تقودها للهلاك والضلال " فأبواه يهودانه وينصرانه أو يمجّسانه " [صحيح البخاري (1358) عن أبي هريرة]، وأن على المسلم أن يبحث عن دوره الأمثل في هذه الحياة وأن يتساءل دائما: ما الشيء الذي أستطيع أن أفعله ولم أفعله بعد؟ وما العمل الذي إن أديته بطريقة جديدة تكون نتائجه أفضل مما عليه؟
فإن الإنجاز والعطاء المنتظم للبشر عموما يخضع لثلاثة عوامل أساسية وهي:
1- العوامل الوراثية من صفات جسدية ونفسية وذهنية، وهذا مشاهد كثيرا خاصة بين أهل العلم والأمثلة عليه أكثر من الحصر، فكثير من أهل العلم والأئمة كان لهم أبناء وأحفاد بل وأحفاد أحفاد نابهين وبارزين ووصلوا لرتبة الإمامة مثل آبائهم وأجدادهم.
2- البيئة التي يعيش فيها البشر بشقيها الثقافي والعمراني؛ أي أنها تشمل المفاهيم والقيم والمبادئ والأعراف والعادات، وأيضا تشمل البنى التحتية والمرافق الحياتية وبالأخص الجامعات والمدارس والمكتبات وسائر المؤسسات التعليمية والثقافية.
3- الجهود الشخصية التي يبذلها الفرد في رفع مستواه الثقافي والتعليمي والتربوي والإيماني والمهاري.
هذه العوامل الثلاثة تتفاعل فيما بينها من أجل الوصول لمنظومة العطاء والإنجاز والمبادرة في حياة المسلم، وقد يكون ثمة قصور في إحداها فيعوضه العاملان الآخران، شريطة ألا يكن القصور في العامل الثالث؛ لأنه الأساس أو حجر الزاوية في العطاء والإنجاز، وكم رأينا من علماء وعظماء نبتوا وبرزوا في بيئات غير مواتية وذلك من خلال تنمية الإمكانات والمهارات الشخصية والاستفادة من كل دقيقة في حياتهم في إطار من العبودية الحقة والتجرد لله، فكانوا بحق أئمة الهدى ومصابيح الدجى.
إن الأساس الجوهري لثقافة العطاء المتجاوز يقوم ركيزة أساسية يجب على الدعاة أن يغرسوها في قلوب المسلمين وخاصة الناشئة؛ لأنهم مستقبل الأمة وعماد نهضتها؛ هذه الركيزة هي " اعمل ما هو ممكن الآن، ولا تنتظر إلى الغد بغية تحسن الظروف " وهذه الركيزة علمنا إياها الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم عندما قال: " إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل " [رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وصححه الأرناؤوط- عن أنس]، وهو حديث من أروع الأمثلة في العطاء والإيجابية واستشراف المستقبل حتى ولو ثوان معدودة، هذه الركيزة تقوم على مسلّمتين وهما:
1- هناك دائما إمكانية لعمل شيء جيد لأنفسنا وديننا والبشرية من حولنا.
2- أنه مهما تحسنت الظروف فإنه سيظل هناك من يتلكأ عن العمل والإنجاز بحجة الظروف غير المواتية.
لذلك كان من أهم سمات ثقافة العطاء المتجاوز في الشخصية الإسلامية شعور صاحبها الدائم بالمسئولية؛ فلا يقف المسلم المعطاء من الأحداث موقفاً سلبياً، فثمة ارتباطا شرطيا بين العطاء المتجاوز والمسئولية، فالمسلم مسئول عن نفسه وعن زوجته وأبنائه وعن مجتمعه ووطنه، وفي الحديث "كلكم راع وكل راع ومسئول عن رعيته، والأمير راع والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" [متفق عليه – عن ابن عمر]، فالمسلم دائماً يقف موقفاً إيجابياً من تفاعلات الكون من حوله ولا شك أن اكتساب القوة والتحلي بها من علامات الايجابية، والإسلام يدعو المسلمين أن يكونوا أقوياء لقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله ما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان" [رواه مسلم- عن أبي هريرة].
إن واقع الأمة يفرض على كل مسلم وخاصة الدعاة منهم استنهاض الهمم واستثارة العزائم وتفجير الطاقات واكتشاف المواهب من أجل نهضة الأمة والمجتمعات الإسلامية، فنحن الآن على شفا مرحلة فارقة من حياة أمتنا بعد ربيع الثورات العربية التي أطاحت بالعديد من الطواغيت في منطقتنا العربية، والحبل مازال على الجرار كما يقولون، وإذا لم يتمتع المسلمون بهذه الروح الوثابة المعطاءة المتشوفة والمتشوقة -أيضا- لنهضة الأمة، فستذهب كل دماء الشهداء والأبرياء الذين قضوا على طريق الحرية هباء منثورا، ويا لها من خيانة لهؤلاء الذين بذلوا أثمن ما عندهم من أجل أن يحيى غيرهم في رفاهية وأمان وعدل وسلام!
كتبه لملتقى الخطباء شريف عبد العزيز
التعليقات