اقتباس
ومن الأمور المعينة على ترشيد الاختلاف وحسن توظيفه التركيز على نقاط الاتفاق التي هي دوما أكبر بكثير من نقاط الاختلاف، فمن آفات التفكير البشري انتقاء السلبيات واكتشافها سريعا أكثر من رؤية الإيجابيات، وهذه الآفة تدفع الإنسان للبحث أكثر عن مواطن الاختلاف قبل معرفة مواطن الاتفاق، حتى ولو كانت مواطن الاتفاق أكثر من 90% من الفكرة أو الأطروحة ..
من الأمور البديهية في تركيبة العقل البشري، أن إعمال العقول يؤدي دائما إلى تباين في الإنتاج الفكري والثقافي وتعدد في الرؤى، وذلك بسبب تنوع الخلفيات الثقافية واختلاف زاويا الأنظار وطرائق الأفهام بين الناس، فلكل واحد مقدماته العقلية ومنطلقاته الثقافية وسلسلة معقولاته التي يقيم بها الأحداث ويوزن بها الأمور، لذلك كان لابد من قبول هذا الاختلاف والتباين الثقافي والفكري واحترامه وإيجاد الصيغة الملائمة لتوظيفه وتحقيق أعظم استفادة منه، ومن ثم يبرز دور الدعاة إلى الله عز وجل في تكوين رؤية كاملة لإدارة الخلافات الفكرية والثقافية في المجتمعات الإسلامية، فهم أكثر الناس اتصالا بشرائح المجتمع المختلفة وأكثرهم تأثيرا فيهم إذا حسُن خطابهم ومنهجهم الدعوي.
بداية لابد من الإقرار بأن قضية الخلاف الفكري والتباين العقلي في الناس من الأمور الكونية القدرية التي اقتضت حكمة الله عز وجل أن تكون واقعة في بني آدم وسنة ماضية في الحياة، قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود: 118، 119]، وقال: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) [المائدة: 48]، لذلك فإن العلاقات الإنسانية الطبيعية لا تقوم مطلقا على التطابق الكامل، ولكن على درجة من الخلاف المقبول والمنظم بحيث لا يتحول إلى شقاق وعراك، فالتطابق الفكري ليس ميزة في أغلب أحواله، لأنه يدل على تعطيل القوى العقلية والريادية عند طائفة من الناس، أو يدل على تسلط النتاج الفكري لطائفة على حساب الأخرى، والإسلام حض أتباعه على الاستقلالية في التفكير واتخاذ القرار، فقد نهى الإسلام على أن يكون المسلم إمّعة يردد كلام غيره دون تفكير أو تمحيص، فالمحصلة النهائية لأمثال هذه الظواهر السلبية هي إفقار الحياة الفكرية والثقافية للمجتمعات الإسلامية، وإعادة إنتاج لأخطاء الماضي وعمل مستنسخات فكرية كربونية تحمل نفس الآفات الذهنية والفكرية عبر الأجيال .
دور الدعاة يبرز في تأطير هذا الاختلاف وجعله اختلافا راشدا إيجابيا يثري الحياة الفكرية والثقافية للمسلمين ويحي فضائل التفكير السوي في حياتهم مرة أخرى، وذلك بإيجاد أرضية مشتركة قوامها الثوابت العقدية والشرعية ومبادئها العامة، وهو ما يعني بعبارة أخرى " التنوع في إطار الاتحاد "، ودون هذا الجهد الدعوى المستمر سيتحول الاختلاف إلى تضاد وتنازع ومصدر لفساد ذات البين وربما الحروب الأهلية والتطاحن، وشواهد التاريخ أكثر من الحصر في هذا المضمار تحديدا .
وهناك العديد من الأمور الهامة التي ترشد الاختلاف وتبني لها قواعد فكرية في عقولنا وحياتنا الثقافية من أبرزها:
عدم الاستهانة مطلقا بحجم القصور والوهم الذي يمكن أن يكون عليه التفكير عند كل واحد منا، وفي نفس الوقت ما يمكن أن يكون عند الآخرين من الأفكار اللامعة والمفاهيم الممتازة، فالثقة المفرطة في النفس من أبواب الشر الواسعة، وعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهلكات عندما قال كما في حديث ابن عباس وغيره " ثلاث مهلكات؛ شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه " [السلسلة الصحيحة(1802)] وداء العجب من الأدواء القاتلة للقلوب والنفوس التي أعيت الأطباء والحكماء، وعلماؤنا وأئمتنا كانوا أوعى الناس بهذه المسلمة العقلية، فقالوا " كلامنا صواب يحتمل الخطأ وكلام غيرنا خطأ يحتمل الصواب " ووعينا بأنفسنا مقدمة ضرورية لوعينا بالغير، حتى ولو كان هذا الغير منافسا وعدوا لنا، لذلك قال المولى جل في علاه (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام: 55]، فلا أحد من الناس يحمل الحقيقة المطلقة والصواب المطلق، بل ثمة دوما احتمالية للخطأ والسهو والجهل، من ثم كان لابد من إيجاد خط للرجعة وباب للتحول الفكري والمذهبي، والعقلاء فقط هم الذين يجعلون لأنفسهم طرقا للرجوع، أما أهل البدع -وخصوصا في باب العقائد- فلم يجعلوا لأنفسهم هذا الخط، فالتزموا التزامات وأقروا نتائج لمقدمات عقلية فاسدة عندهم، أوجبت عليهم الوقوع في أعظم وأخطر البدع، وردوا بهذه المقدمات القرآن وصحيح السنة وإجماع الأمة .
ومن الأمور المعينة على ترشيد الاختلاف وحسن توظيفه التركيز على نقاط الاتفاق التي هي دوما أكبر بكثير من نقاط الاختلاف، فمن آفات التفكير البشري انتقاء السلبيات واكتشافها سريعا أكثر من رؤية الإيجابيات، وهذه الآفة تدفع الإنسان للبحث أكثر عن مواطن الاختلاف قبل معرفة مواطن الاتفاق، حتى ولو كانت مواطن الاتفاق أكثر من 90% من الفكرة أو الأطروحة، وبسبب هذه الذهنية الانتقائية الانتقادية تفرعت عشرات الأقوال والمذاهب والجماعات والأحزاب حتى صارت معقدا للمفارقة والمفاصلة والولاء والبراء حتى بين العاملين لدين الله عز وجل، فضلا عن غيرهم من عموم الناس، وفي خضم ذلك جرى تعظيم شأن المختلف فيه حتى ولو كان هينا ومن حواشي المسائل الفقهية أو الفكرية، وتحولت الحبة كما يقال في أدبيات الشعوب إلى قبة كبيرة. وإن البحث عن المشترك من أكبر الأمور المعينة على ردم الهوات الكثيرة والمتباينة بين الأفكار والرؤى والشعوب والأجيال .
ومنها اعتبار وتقدير اختلاف الأزمنة والأمكنة وأثر هذا الاختلاف في طرق التفكير وما ينتج عنه من محصول فكري في شكل رؤى وأفكار وأطروحات، فللبيئة أثر بالغ في طريقة تفكيره وما يتخذه من قرارات، وإن معرفة هذا الأثر والوقوف على حجمه ودوره في صياغة الرؤى والأفكار يوفر علينا كثيرا من عنت الانشغال في فهم الاختلاف بين الناس، وأيضا يمنحنا القدرة على تجسير هذه التباينات، وإيجاد صيغة لردم الهوات الفاصلة بين الأجيال والأفكار.
ومنها أيضا معرفة طبيعة البناء الثقافي والحضاري عامة، حيث يتشكل هذا البناء من جزء ثابت وآخر متغير، شأنه في ذلك شأن سائر الرؤى والأطروحات والمعارف، فالثابت يعتبر بمثابة الحق الصريح المجرد الذي قامت عليه دلائل وبراهين قطعية ثابتة لا يلحقها التغير مهما اختلفت الأنظار والعقول، وهو في مجمله يمثل قواعد الفهم والتنظير، ويعتبر صغيرا نسبيا مقارنة بالجزء المتغير الذي يحتل المساحة الأوسع في البناء الثقافي والحضاري، وهذا يعني بعبارة أخرى أن الذي يقبل التأويل والاختلاف والمراجعة والتمحيص وتباين وجهات النظر هو الجزء الأكبر من أي منظومة أو بناء ثقافي في حياتنا الفكرية، وهذا يفتح مجالا رحبا لقبول الاختلافات والتعامل الصحيح مع الفراغات الثقافية الموجودة في حياة الشعوب والجماعات، بحيث لا يسطو عليها الغير ويملأها بأفكاره وعاداته ومناهجه الفكرية والثقافية، وهذه النقطة تحديدا هي التي ولج منها أعداء الأمة إلى ساحتنا الثقافية فغزوا عقول شبابنا وعبثوا بأفكارهم وحرفوا توجهاتهم، وما يحدث اليوم من انحرافات فكرية وثقافية قد تصل لمرحلة الإلحاد والزندقة ممن ينتسب لهذه الأمة على شبكة المعلومات ممن أسموا أنفسهم ليبراليين أو تنويريين أو حداثيين خير دليل على هذا الضياع الثقافي وأعظم شاهد على الخلل الفكري .
وفي النهاية يجب أن نعي أن قضية التقارب وتجسير الاختلافات من الأمور الهامة والحيوية في حياتنا الثقافية، وهي أكبر من تبادل الثناء والإعجاب والإشادة في المحافل العامة فهي من الأمور الشكلية التي لا تبني توافقا حقيقيا، ولا تردم بها الهوات الثقافية والفكرية الكثيرة والمتنوعة في مجتمعاتنا، بل نحن في حاجة لبناء معرفي جديد نتقبل فيه كل الأطروحات والرؤى التي تسهم في رقي هذه الأمة، وهو أمر ليس بالهين اليسير والله المستعان.
التعليقات