اقتباس
فمن المعروف تاريخيا أن مدينة البصرة العراقية كانت تتعصب لعثمان وتنتقص عليا رضي الله عنهما ، في حين أن الكوفة كانت تتعصب لعلي وتنتقص عثمان ، فكان سفيان الثوري إذا ذهب إلى البصرة حدثهم بفضائل علي ، وإذا ذهب إلى الكوفة حدثهم بفضائل عثمان ، وهذه هي السياسة الراقية للدعاة وأهل العلم في مكافحة التعصب وكسر دوائره وحدته ، والآثار السلفية في هذا الباب واسعة وكثيرة جدا ، ولم يخل جيل أو عصر من دعاة التعصب ومن أزكى...
تكلمنا في الجزء الأول من المقال عن أبجديات الخطاب الدعوى ومرتكزاته التي يجب على الدعاة التزامها وانتهاجها على طريق بناء منظومة السلام الاجتماعي ، وهي الأبجديات التي تتعامل بواقعية مع أزمة العنف الاجتماعي الناشئ من تباين الأفهام والأفكار والثقافات والطموحات والأهداف ، وقد ذكرنا في المرة الفائتة عن قيمة الأمن ونشر ثقافة الرفق وخطورة الكلام وسد ذرائع العنف وتجفيف منابعه ، واليوم سنواصل الحديث عن باقي هذه المرتكزات ، ومنها :
خامسا : خطورة التعصب ؛ إن الخلاف في الأمور الظنية والفرعية هو أمر طبيعي وواقع في كل العصور ، وهو نتاج طبيعي للفروق الفردية لدى الناس ، ولكن التعصب لرأي اجتهادي يحتمل الخطأ والصواب هو الذي فتح الباب لكثير من مواقف القلق الاجتماعي والعنف البيني وسوء الفهم المفضي للتنازع ، والتعصب المذموم له أوجه وأشكال كثيرة منها التعصب للرأي والاتجاه والمذهب والجماعة والفكرة و القومية والعشيرة والقبيلة إلى آخر هذه النطاقات التي عادة يتعصب لها البشر ، والتعصب هو الآفة الاجتماعية الأبرز في فترات الضعف والتدهور الثقافي والحضاري ، وهو السلاح الماضي الذي سفك به دماء كثير من المسلمين على مر العصور ، فالتعصب هو الذي دفع الناس لتكفير وتفسيق وتسفيه مخالفيهم من أهل القبلة ، وقد ذرّ التعصب قرنه الخبيث في جسد الأمة مبكرا ومنذ العهد الأول ، فكانت الخوارج ومن سار على دربهم ، والمعتزلة من اقتنع برأيهم ، وكانت المحن الكبرى مثل محنة الإمام أحمد رحمه الله والأئمة الكبار ، لذلك ثمة كلمة إجماع بين أئمة الهدى ومصابيح الدجى ، على نبذ التعصب وكسر حدته من خلال التركيز على احتمالية الخطأ وبشرية الرأي ونسبية الصواب وكلية القضية والحقيقة ، ومن أروع الأمثلة التاريخية في ذلك ؛ منهج الإمام سفيان الثوري في نشر العلم ، فمن المعروف تاريخيا أن مدينة البصرة العراقية كانت تتعصب لعثمان وتنتقص عليا رضي الله عنهما ، في حين أن الكوفة كانت تتعصب لعلي وتنتقص عثمان ، فكان سفيان الثوري إذا ذهب إلى البصرة حدثهم بفضائل علي ، وإذا ذهب إلى الكوفة حدثهم بفضائل عثمان ، وهذه هي السياسة الراقية للدعاة وأهل العلم في مكافحة التعصب وكسر دوائره وحدته ، والآثار السلفية في هذا الباب واسعة وكثيرة جدا ، ولم يخل جيل أو عصر من دعاة التعصب ومن أزكى ناره ونفخ في أوره ، وكذلك لم يخل ممن تصدى له وحاول توعية الناس من أضراره وأخطاره .
سادسا : الظلم وهضم الحقوق ؛ من أكثر الأمور التي تثير شهية العنف وتفتح له الكثير من الأبواب والمجالات ؛ الظلم والاعتداء على ممتلكات الناس ومصادرة حقوقهم ، فالناس كما هو مشاهد على استعداد كامل وقابلية متجددة للوصول بالعنف لأعلى درجاته دفاعا عن حقوقهم ، فالظلم لا يوتر السلام الاجتماعي فحسب ، ولكن قد تصل بممن وقع عليه الظلم لئن يخون وطنه ويبيع دينه من أجل رفع هذا الظلم ، فالقاعدة المعروفة " لا شيء مقدس مع الظلم ، ولا خطوط حمراء مع ضياع الحقوق " لذلك كان الإسلام حريصا أشد الحرص على محاربة الظلم وإقامة موازين العدل ، حتى وصل الأمر بتحريم الظلم ، أن الإسلام حرّم الظلم بين الدواب والأنعام غير المكلفة " حتى يقتص للشاه الجلحاء من الشاه القرناء " ، وهذا يدفع الدعاة لتعظيم شأن القضاء في الإسلام والدفاع عن استقلاليته ونزاهته وحياديته ، فصلاح الأمم واستقرارها وأمنها الاجتماعي يبدأ بإصلاح منظومة القضاء فيها .
سابعا : مستوى المعيشة ؛ من طبائع البشر الأصيلة والتي لا تتغير عبر الأزمان والأماكن ؛ حب المال والمسارعة لاقتنائه والمزاحمة من أجل حصوله كما قال المولى سبحانه وتعالى ( وتحبون المال حبا جمّا ) [ الفجر 20 ] وقال ( وإنه لحب الخير لشديد ) [ العاديات 8 ] وهذا الحب ليس له عند كثير من الناس سقف ينتهي عنده ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو كان لابن آدم واد من مال لابتغى إليه ثانيا ، ولو كان له واديان لابتغى لهما ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب " [ متفق عليه ] ، أضف لتلك الطبيعة البشرية ، شيوع ثقافة الاستهلاك التي تسرع من وتيرة الازدحام على طلب المال ، حيث لم يعد ثمة شيء مجاني سوى الهواء ، مما يجعل الحاجة للمال في ازدياد وتجاذب مستمر.
وهذه النوازع السلوكية تدفع كثيرا من الناس لارتكاب الجرائم الكبرى حينما يجدون أنفسهم يعانون من قسوة الحياة أو ظروف معيشة متردية جدا ، فالإنسان إذا لم يجد ما يسد رمقه ورمق من يعول فإنه يتحول لإنسان آخر تماما ، بل ربما يتحول لوحش كاسر من أجل لقمة العيش أو تحول إلى الذلة والوضاعة التي تسقط آدميته وباسمها يقدم كل التنازلات ، لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ من الجوع والفقر ، فقال " اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة " وقال " اللهم إني أعوذ بك من الجوع ، فإنه بئس الضجيع " والإسلام يقدر خطورة الإحساس بالجوع المفضي لارتكاب الجرائم فشرع الزكاة التي تحقق التكافل الاجتماعي وشرع الصدقات والهدايا والمواساة حال النوازل ، وحضّ على رعاية الأرامل واليتامى وكفالتهم ، من أجل الوصل إلى الاستقرار الاجتماعي والأمن والسلامة بين أبناء المجتمع الواحد.
ثامنا : تنمية الوعي بالإنسان ؛ لقد حقق البشر في العقدين الأخيرين طفرة كبيرة في مجال المعارف الطبيعية والعلوم التجريبية ، وانفتحت أمام الكثير من أبواب المعرفة المغلقة ، ولكن في المقابل لم يكن هناك تقدم في العلوم الإنسانية والمتعلقة بشئون الإنسان وأحواله وحاجاته النفسية والاجتماعية على نفس القدر ، وهذا الضعف في مجال العلوم الإنسانية ، وقلة المعروض الثقافي منه أدى لحالة من الجهل بالمؤثرات والمتغيرات في سلوكيات البشر ، مما جعل مسألة انفجار العنف والعنف المضاد واردة في مواقف كثيرة ، بلا صعوبة أو مشقة ، وهناك العديد من الأمور التي تثير حفائظ الناس وتدفعهم للمصاولة والمصارعة تبدو في نظر الكثيرين بأنها تافهة أو ساذجة ، والإسلام كان أسبق من غيره في كشف طبائع البشر ومعرفة المؤثرات والمحركات ، والمنهج الإسلامي زاخر بالكثير من العلاجات والمخففات لآثار التجاذب الإنساني ، فمثلا آفة العجب بالنفس من الأمور التي يصاب بها كثير من الناس ، وهو أيضا من الأمور التي تؤدى لكثير من الاشتباك والاختلاف وربما العنف ، فالناس يقبلون ما أُجمع عليه ، ولكنهم يقفون عند الأمور الظنية والمختلف فيه ، ولو تمسك كل واحد برأيه وأعجب به ، ورآه صوابا وما عداه خطأ ، فإنه عندئذ يفتح بابا واسعا للتدابر والتشاحن والاختلاف المفضي للاضطراب والفتن التي تهدد السلام الاجتماعي ، لذلك فقد نهى الإسلام عن مدح النفس أو مدح الغير بإفراط أو بما ليس فيه ، لأن المدح المفرط يفتح الباب على مصراعيه أما إعجاب المرء بنفسه ، لذلك قال المولى ( فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ) [ النجم 32] وقال ( ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا ) [ النساء 49] ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمن مدح أخاه " ويلك قطعت عنق أخيك ، قالها مرارا ، إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة ، فليقل أحسب فلانا ، والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا " في عبارة " قطعت عنق أخيك " دلالة نبوية عظيمة على خطورة الإطراء والمدح الزائد ، حيث يقود الممدوح للإعجاب بنفسه . وللأسف كثير من المسلمين لم يلتزموا بهذا المنهج الإسلامي ، فعمّ داء العجب بالنفس ، وأفضى ذلك لانتشار المخاصمات والمشاحنات بين الناس ، وانفرط عقد السلام الاجتماعي بينهم .
نحن معاشر الدعاة أمام ظرف تاريخي عصيب تستهدف فيه الأمة من كل اتجاه وعلى كل الأصعدة ، وإذا لم يكن المجتمع الإسلامي متماسكا قويا متجانسا ، فإنه من السهل جدا اختراقه وتذويبه وزرع الآفات والأزمات فيه ، وعلى الدعاة تركيز جهودهم في بناء منظومة متكاملة للسلام والاستقرار والأمن الاجتماعي التي تضمن بقاء الداخل صامدا أمام التيارات الثقافية والفكرية والغزوات الحضارية الوافدة ، وإذا وقفت الأمة على أرض صلبة فلن يضرها أبدا كيد أعدائها .
التعليقات