اقتباس
فقد أشرقت أنوار الدين على بشرية محكمة منهكة متعبة ، فرقتها الأحقاد ومزقتها الأطماع وأنهكتها الحروب البائسة ، شراذم شتى الذي يفرقهم أكثر بمراحل مما يجمّعهم ، فجاء الإسلام ليبدأ رحلة طويلة وشاقة من أجل إعادة البشرية لمسارها الأول الصحيح ، وإزالة الركام المأساوي الذي ران على فطرتها السوية ، فاستطاع ذلك على نحو معجز ، مكّن الأوائل من تحقيق انجازات بطعم المعجزات ، من الإطاحة بأكبر إمبراطوريات الزمان ـ الروم والفرس ـ وإقامة الدولة الأكبر ـ الخلافة الراشدة ـ وبناء المجتمع النموذجي في...
إنّ الله عز وجل قد فطر الإنسان على طبيعة مدنية ، يميل طبعاً نحو الاستئناس بأخيه الإنسان ، يحب الاجتماع والألفة والتعارف ، ولكن من الثابت أيضا أن اجتماع الناس بعضهم البعض يولد أنواعا شتى من التوترات والاختلافات والصدامات لتعارض الرغبات واختلاف الحاجات ووجود الأطماع والنزوات ، وأيضا بسبب اختلاف الأفهام والأهواء والأمزجة والأولويات والمصالح ، ولذلك كانت رسالة الإسلام شديدة الاعتناء بمسألة الأمن والسلام الاجتماعي بين أبناء المجتمعات ، وزخرت الشريعة بعشرات ومئات النصوص والآثار الداعية لنشر الأمن والأمان والإخوة والمحبة والوئام والتناغم بين أفراد المجتمع المسلم ، وتجربة الإسلام مع البشرية الحائرة المعذبة ببعدها عن نور السماء تجربة عظيمة واسعة الثراء ، فقد أشرقت أنوار الدين على بشرية محكمة منهكة متعبة ، فرقتها الأحقاد ومزقتها الأطماع وأنهكتها الحروب البائسة ، شراذم شتى الذي يفرقهم أكثر بمراحل مما يجمّعهم ، فجاء الإسلام ليبدأ رحلة طويلة وشاقة من أجل إعادة البشرية لمسارها الأول الصحيح ، وإزالة الركام المأساوي الذي ران على فطرتها السوية ، فاستطاع ذلك على نحو معجز ، مكّن الأوائل من تحقيق انجازات بطعم المعجزات ، من الإطاحة بأكبر إمبراطوريات الزمان ـ الروم والفرس ـ وإقامة الدولة الأكبر ـ الخلافة الراشدة ـ وبناء المجتمع النموذجي في المدينة الفاضلة ، مجتمع حاز قصب السبق بعشرات ومئات النماذج الفذة في كل باب ، وقدوات راقية لكل زمان .
ومن الثابت إنسانيا واجتماعيا أن التقدم الحضاري الكبير الذي حدث في القرن الأخير قد أدى لزيادة التصادم الأخلاقي والروحي والنفسي والعقلي بين الناس ، حتى صارت المجتمعات الموصوفة بالتقدم والرقي والتمدن تحمل في طياتها ومكوناتها عوامل هدمها وانهيارها بسبب عدم قدرتها على السيطرة على العنف المتزايد بين أبنائها في مجتمعاتها ، فحضارتها أشبه ما تكون بقشرة الطلاء الرقيقة التي تخفي تحت بريقها الكثير من التشويهات والعيوب ، وهنا يبرز دور الإسلام بما يملكه من تشريعات ومبادئ وأصول ومناهج وتصورات شاملة في إدارة أزمة العنف في المجتمعات وبناء منظومة السلام الاجتماعي ، وعلى الدعاة الالتفات جيدا لطبيعة هذه المنظومة ، وجذب انتباه الناس إلى ضرورة الاشتراك في بنائها وتفعيلها ، وذلك بتركيز الخطاب الدعوى على أهم ملامح التصور الإسلامي في معالجة أزمة العنف الاجتماعي ، منها :
أولا: قيمة نعمة الأمن ؛ فالأمن من أعظم النعم على الإنسان ، لذلك تجد أن الله عز وجل قد امتن على قريش بسبب مجاورتها للبيت العتيق ، وجاء ذلك جليا في سورة قريش وفي آخرها ( الذي أطمعهم من جوع وآمنهم من خوف ) ، وليست المنّة بالأمن في الدنيا فحسب ولكن في الآخرة أيضا فقال تعالى ( من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ) [ النمل 89] ، فشرح قيمة هذه النعمة العظيمة وبيان أهمية الاستقرار والطمأنينة والسكينة بين أفراد المجتمعات تُفتّح أفاق الناس ووعيهم بأهمية الأمن والاستقرار وحتمية الحفاظ عليهما ، كما تدفعهم للتشارك في حماية هذه النعمة والدفاع عنها ضد من يريد انتهاكها ، كما أن الإسلام قد بيّن أن التوحيد والعقيدة الصحيحة ونبذ الشركيات بكل أنواعها بدء من شرك الربوبية إلى شرك الحاكمية ، كما قال المولى في محكم التنزيل ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) [ الأنعام 82] وهذا يؤكد على أن الاستقامة والتأدب بآداب وعقائد الإسلام هي أولى لبنات الاستقرار والأمن في أي مجتمع .
ثانيا : نشر ثقافة الرفق ؛ الرفق هو اللطف وسهولة الأخلاق ويسر التعامل مع الخلق ، واللطيف من أسماء الله عز وجل ، وقد مدحه رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث منها " ما كان الرفق في شيء إلا زانه ، وما نزع من شيء إلا شانه " وقوله " إنّ الله رفيق يحب الرفق ، ويرضاه ، ويعين عليه ما لا يعين على العنف " وهذه النصوص النبوية تفتح آفاقا واسعة لنشر ثقافة الرفق بين الناس ، فكل ما يمكن أداؤه بعنف وشدة وغلظة وجفاف ، يمكن أن يؤدى برفق ولين وجمال وسهولة ، وعلى المسلم أن يتحرى الطريق الراشد في الأداء ، ووصلا بهذا النهج في بناء ثقافة الرفق ، حضّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على السماحة والسهولة في المعاملات اليومية فقال " رحم الله عبدا سمحا إذا باع ، سمحا إذا اشترى ، سمحا إذا قضى ، سمحا إذا اقتضى " [ البخاري ] ، فالناس دائما ما يتوقع منها التجاوزات من كل الأشكال والأنواع إذا ما دخلوا في معاملات يومية وحياتية ، فالزحام يثير دوما حفيظة الناس ويزعجهم ويستخرج أسوأ ما في نفوسهم ، وإذا غابت ثقافة الرفق واللين بين الناس ، أوشكوا على الانفجار ، والمولى جل وعلا يعالج هذه الآفات النفسية والأخلاقية أعظم علاج ، ويحض عباده على كسر ألف هذه العادات الذميمة والانتصار على النفس ، واستلال ما فيها من رذائل وآفات قد تدفع الناس لدخول دوائر من العنف والعنف المضاد ، وهي دوائر لا تنتهي إلا بسفك الدماء وإزهاق الأنفس ، قال تعالى ( ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ) [ النور 22] في ذلك تعويد وتدريب للنفس على مواجهة الإساءة بالعفو والعنف بالحلم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصحح المفاهيم عن معنى القوة والشدة المغيرة باستخدام العنف مع الناس " ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " ( متفق عليه ) فالشدة ليست فيمن يصرع الناس ويصارعهم ويغلبهم ، ولكن من يعفو ويصفح ويتحكم في دوائر الغضب الموجودة في نفسه حتى لا تنتج طاقة الغضب المحركة لبواعث العنف والعنف المقابل .
ثالثا : أثر الكلمة ؛ تشريعات الإسلام مليئة بالإجراءات التي تخفف من حدة الاشتباك المقلق والمكدر للسلام الاجتماعي ، وتضعه تحت السيطرة والتحكم وتجعل من إدارته عملا سهلا ، ومن أهم هذه الإجراءات وضع جارحة اللسان تحت منظومة متكاملة تتحكم في إنتاجه ، فالإسلام قد عظّم من خطورة الكلمة وأثرها وأهميتها في المجتمع ، وأعطاها أولوية كبرى ، فكل عنف بدني وتوتر اجتماعي وصراع ثقافي منشأه ومبدأه من كلمة تقال هنا أو هناك ، وتحمل هذه الكلمة طابع التحدي أو السخرية أو الاستهزاء أو التحقير والازدراء ، وتُزكي روح العنف والانتقام والثأر عند سامعها ، لذلك حرّم الله عز وجل كل هذه الآفات وشنّع على مرتكبها ، ليقطع دابرها من المجتمعات السوية المستقرة ، ولعل سورة الحجرات كاملة من أروع الوسائل القرآنية في القضاء على الآفات الاجتماعية المكدرة للسلام والاستقرار، مثل الغيبة والنميمة والسخرية واللمز والتنابز والطعن والفحش وسائر الآفات الاجتماعية التي توتر العلاقات بين الناس وتهدد السلام الاجتماعي بينهم ، ولو أضفنا إليها عشرات الأحاديث النبوية التي تنهى عنها لصار لدينا ثروة من التشريعات المانعة من الانزلاق في دوائر العنف .
رابعا : التدابير الواقية ؛ وهي سلسلة الإجراءات التحفظية التي اتخذها الإسلام من أجل منع التورط في أعمال وممارسات عدائية أو ينتج عنها عنف غير مقصود يهدد السلام والأمن الاجتماعي ، مثال نهيه صلى الله عليه وسلم من أن يُتعاطى السيف مسلولا ، حتى لا يصاب المسلم في بدنه أو يصيب غيره ، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم " لا يشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح ، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده ، فيقع في حفرة من النار " [ البخاري ومسلم ] ومنها قوله " من أشار إلى أخيه بحديدة ، فإن الملائكة تلعنه ، وإن كان أخاه لأبيه وأمه " [ أبو داود والترمذي ] ، فهذه الأحاديث وغيرها إجراءات احترازية من التورط في أعمال مباحة أو على وجه الهزل ، فتنتج إيذاء بدنيا أو نفسيا يدفع لعنف مقابل ، وقد رأينا عواقب مخالفة هذه الإجراءات في حوادث وفواجع مأساوية ، وعلى غرار ذلك نجد الإجراءات التي وضعها الإسلام من أجل علاج مشكلة الغضب وتخفيف آثاره التي قد تكون ضارة جدا وربما مدمرة ، مثل تغير المكان أو الحال أو الهيئة ، والمحصلة والهدف النهائي وضع الغضب تحت السيطرة وتحجيم آثاره وأضراره قدر الاستطاعة .
وللحديث بقية إن شاء الله
التعليقات