اقتباس
هذه العوامل السبعة؛ هي العوامل الرئيسة والأساسية في وجود أزمة الفقر في أي مجتمع من المجتمعات، والتعمق في توصيف مشكلة الفقر يؤدي بنا إلى الوصول إلى رؤية عميقة ومركبة في علاج هذه المشكلة، رؤية تمكننا من وضع أيدينا على مواطن الداء ومواضع الخلل، رؤية تبحر في الأسباب العميقة لتخلف الأمة وانتشار الفقر ..
التاريخ الإنساني زاخر بالمواقف الفارقة في حياة الأمم والجماعات والحضارات؛ فكم من أمم وجماعات وحضارات انهارت وبادت وأصبحت أثرًا بعد عين كأنها ما كانت ولا قامت، وتعتبر أمة الإسلام من أكثر الأمم تعرضًا للعدوان والغزو على مر التاريخ، بل إن العدوان عليها يتطور مع الزمان، وفي كل حقبة جديدة تدخل وسائل العدوان عليها منحنى مختلفًا عن ذي قبل، وبملاحظة النهج العدائي للغرب نجد أن الغرب اليوم يقوم ببناء صورة ذهنية جديدة عن العالم الإسلامي تستهدف في الأساس مرجعيته وهويته ودينه، هذه الصورة في مجملها صورة سلبية مليئة بالعوار والمنفّرات، وترتكز في مجملها على أن الإسلام دين التخلف الذي يعتمد العنف سبيلاً واحدًا للتعامل مع الآخرين، وتعاليمه تمارس التمييز ضد المرأة وتضطهدها، وأن هذا الدين هو الذي يحول بين المسلمين وبين التقدم والتطور.
والغرب يمارس هذه السياسة العدائية معتمدًا على ثلاثة محاور تتكامل فيما بينها من أجل ترسيخ الذهنية السلبية عن الإسلام والمسلمين والمجتمعات المسلمة:
1- المناهج التعليمية والدراسية والتثقيفية التي تغزو عقول الغربيين ومن فُتن بهذه المناهج المستوردة من أبناء المسلمين، وهذه المناهج تصل إلى عشرات الملايين من الناشئة في الغرب والشرق، وتصل مغلفة بعوامل جذب وتشويق تضفي عليها كثيرًا من المصداقية المصطنعة والموضوعية الموهومة، من ثم تجد قبولاً ورواجًا في شتى أنحاء العالم.
2- الوسائل الإعلامية الجبارة التي لم تدع أي بيت في الشرق والغرب حتى دخلته ونشرت سمومها وأفكارها المغلوطة عن الإسلام والمسلمين.
3- الواقع المزري والسيئ الذي عليه الأمة المسلمة في شتى المجالات، والسلوكيات الخاطئة وغير المشرفة لكثير من المسلمين، والتي تعطي انطباعات سلبية متنوعة أبرزها أن الإسلام ليس هو المنهج الذي يُروج له في أدبيات الخطاب الإسلامي من أنه المنهج القويم والرشيد لانتشال البشرية المنهكة بنظريات وأطروحات المادة المجردة، وأنه لو كان كذلك لما تردت أوضاع المسلمين وتذيلوا ركب الحضارة، والمسلمون بذلك قد أعطوا خصومهم أقوى أسلحتهم في محاربتهم.
والنقطة الثالثة تحديدًا ستكون معقد كلامنا، إذ إنها اللبنة الأساسية التي انبنى عليها مخطط الكيد والتشويه للإسلام، وإيمانًا منا بأنه لو سلمت الجبهة الداخلية من الدخن والدغل لما استطاع أعداء الأمة أن يمارسوا بحقها أقسى درجات الاضطهاد والتنكيل، فبعد أحداث سبتمبر 2001 تسارعت وتيرة الهجوم على الإسلام والأمة الإسلامية، حتى إنه لا يكاد يمر أسبوع واحد في الغرب دون أن يصدر كتاب عدائي للإسلام والأمة الإسلامية، وحدث تمايز كبير بين المعسكرين الإسلامي والكفري، وهذا الواقع الجديد يفرض على المسلمين الوقوف على مواطن الداء ومواضع الخلل، والوصول إلى رؤية إستراتيجية شاملة تتضافر فيها جهود جميع المخلصين من أجل إزالة تلك الصورة السلبية عن الإسلام والمسلمين، ومعرفة أسباب تخلف الأمة والوقوف على آفاتها المزمنة وأمراضها التاريخية، وهذا الأمر لن يتأتى إلا بتدقيق النظر وإمعان الفكر في هذه الظواهر السلبية التي تجتاح بلادنا الإسلامية، فأمراض الأمة وآفاتها تدخل ضمن الظواهر الإنسانية الكبرى التي تتسبب فيها عشرات العوامل والأسباب المتداخلة والمعقدة في نفس الوقت، وبالتالي فإن الابتسار والاختزال في الحل لن يأتي إلا بمزيد من المعاناة والبعد عن مسار التصحيح.
ومن أبرز المشاكل الحضارية والأمراض الاجتماعية -التي تواجهها أمة الإسلام وينبغي التصدي لها بالتحليل والتفسير من قبل الدعاة والمفكرين والمخلصين من أبناء الأمة- مشكلة الفقر، فالفقر مشكلة عالمية تعاني منه وعلى قطاع واسع الكثير من الأمم والدول والمجتمعات المعاصرة، وتحاول جميع الدول رفع مستوى المعيشة لمواطنيها، والتصدي لمشكلة الفقر وإيجاد الحلول المتنوعة من أجل تضييق نطاقه وتحجيم آثاره، والرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يتعوذ من الفقر، ودعا ربه أن يحيه مسكينًا لا فقيرًا. والفقر لا مشكلة فيه وحده إذا كان ثمة إيمان قوي ووازع ديني مستمر يردع صاحبه من الاستجابة لضغوطات الفقر وشظف العيش، لذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها...". أما إذا كان الفقر بلا دين أو ضمير فهو يتحول لأهم سبب للفساد والانحراف، حتى نستطيع أن نقول: إن الفقر هو المسئول الأول عن الجريمة في معظم المجتمعات، ومن ثم كان تحليل هذه الإشكالية ومعرفة أسبابها وآثارها وكيفية علاجها بصورة شاملة تخرج من أسر الاقتصار على الحلول الاقتصادية، لتخوض في جميع مسببات الأزمة.
وبنظرة عميقة لمشكلة الفقر في المجتمعات المعاصرة نستطيع أن نحدد أسباب مشكلة الفقر فيما يلي:
1- وجود نظام سياسي وجهاز إداري فاسد، يستأثر بالخيرات والمنافع وحده، ويسيء توزيع الدخول والإيرادات، ولا يهتم بالبنية التحتية اللازمة لإنعاش سوق الاستثمار وبفساد الرأس يفسد باقي الجسد، فتنتشر الرشوة والسرقة والاختلاسات من المال العام ثم إلى المال الخاص، وهذا مشاهد ومضطرد، فأينما وجدت نظامًا سياسيًا فاسدًا وجدت فقرًا مدقعًا وسوءًا في توزيع الدخول، وتفاوتًا طبقيًا رهيبًا، وعدم تكافؤ في فرص المعيشية والحياة والوظيفة، ومعدلات عالية من الانحراف والجريمة.
2- ضعف الموارد الطبيعية من مواد الطاقة والوقود وأراض خصبة أو مناخ رديء، أو موقع جغرافي مغلق أو معزول عن التواصل الدولي، وكلها أمور تجعل مناخ الجذب الاستثماري ضعيفًا، ولو أضيف إلى هذا الضعف سوء إدارة للموارد الضئيلة، فستكون الطامة أكبر والمشكلة أعم.
3- ضعف المنظومة التعليمية من غياب للمؤسسات التعليمية من جامعات ومدارس ومعاهد فنية وتقنية، أو غياب للمناهج الصحيحة في التعليم، والاعتماد على العلوم النظرية بدلاً من العلوم التجريبية التي كان سر نهضة المسلمين الأوائل، والتعليم في حد ذاته من إشكاليات الأمة المعاصرة وأزمة من أزماتها المزمنة والتي سنفرد عنها الحديث لاحقًا.
4- وجود بعض الأفكار المغلوطة عن الأموال والأرزاق التي تشيع في المجتمعات التي تروج فيها الروح الاتكالية من باب أن الرزق مقسوم ومعلوم، وهذا في الأصل ناشئ عن ضعف العقيدة الصحيحة وشيوع عقيدة جبرية مستبطنة تدفع الناس نحو القعود وترك السعي والرضا بالهوان والمذلة.
5- شيوع أنماط سلوكية خاطئة، تميل نحو تعظيم قيم الاستهلاك والتمتع بمباهج الدنيا، والإسراف والتبذير وسوء التقدير، والركون إلى طلب الراحة، في مقابل قيم الجدية والبذل والعمل والإنتاج، ما يفرز في نهاية المطاف مجتمعًا أكولاً عجولاً عالة على غيره من المجتمعات والأمم.
6- انشغال المجتمع بصراعات داخلية أو خارجية تستهلك معظم طاقاته وقدراته، وتوجه كل إمكاناته في إذكاء هذه الصراعات، بالتوسع في شراء السلاح، وأثر هذا العامل قد ظهر بقوة في المجتمعات التي اندلعت فيها نائرة الحروب الأهلية ذات الطابع الطائفي أو العرقي، مثلما حدث في العراق ولبنان واليمن وبعض البلاد الإفريقية، فرغم الثراء الكبير الذي عليه بعض هذه البلاد مثل العراق إلا أن غالبية أهلها يعانون من فقر مدقع وتردٍّ في مستوى الخدمات اليومية.
7- قلة الوازع الديني والثقافة الإسلامية الصحيحة التي تبني الإنسان الصالح، وليس المواطن الصالح، وثمة فارق كبير بين هذا وذاك، فالقيم الدينية التي ترشد سلوكيات الأفراد، وتعلمهم معاني المواساة والبذل والعطاء والتآخي ونجدة الملهوف وحمل الكلّ وإعانة الضعيف وإعالة اليتامى والأرامل وسائر الفضائل التي حض عليها الإسلام، كل هذه القيم إذا غابت عن المجتمع تحول المجتمع إلى غابة من الذئاب والأنعام، يأكل القوي الضعيف والكبير الصغير وهكذا.
هذه العوامل السبعة؛ هي العوامل الرئيسة والأساسية في وجود أزمة الفقر في أي مجتمع من المجتمعات، والتعمق في توصيف مشكلة الفقر يؤدي بنا إلى الوصول إلى رؤية عميقة ومركبة في علاج هذه المشكلة، رؤية تمكننا من وضع أيدينا على مواطن الداء ومواضع الخلل، رؤية تبحر في الأسباب العميقة لتخلف الأمة وانتشار الفقر المدقع بين أبنائها، فتضع حلولاً عملية وشاملة وحقيقية، وليس حلولاً مؤقتة تسكينية، ولنعطِ مثالاً توضيحيًا للحلول العملية الحقيقية ومثالاً لتلك الأخرى التسكينية، فمن الحلول العملية الحقيقية طويلة المدى: تحسين وعي الناس بالعلل والأدواء المترتبة على انتشار الفقر، ومنها مكافحة الفساد الإداري والعشوائية التنظيمية، إصلاح منظومة التعليم منهجًا وتدريسًا، نشر قيم العمل الخيري والتطوعي والبذل والعطاء والمواساة، وإثراء الجانب الروحي في حياة المسلمين الذي يقاوم الجانب المادي الاستهلاكي، ونشر ثقافة الزهد والإيثار والاستعلاء بالاستغناء، واستحضار الصور المشرقة من حياة سلف الأمة وصالحيها.
أما الحلول المسكنة المؤقتة التي تضر أكثر مما تنفع: الاقتراض من الخارج، فرض القوانين الصارمة التي تفرض التقشف والزهد فرضًا على الناس، وإجبارهم بقوة القانون على انتهاج سلوكيات معينة، لو وجدوا أدنى فرصة لانتهكوها، إلى آخر هذه الحلول النافعة على المدى القصير والضارة جدًّا على المدى الطويل.
مشكلة الفقر مثال بيّن لمشاكل الأمة الحضارية الكبرى والتي أعطت في النهاية صورة سيئة عن الإسلام والمسلمين، وكما ليس مطلوب منا أن نكون أمة مستبدة ظالمة، فليس مطلوبًا منا أن نكون أمة ضعيفة ذليلة تستجدي قوتها من حثالة الشرق والغرب، فالمؤمن القوي الغني عمن سوى الله -عز وجل- أفضل وأعز وأكرم من مؤمن ضعيف عالة على الناس.
التعليقات