اقتباس

إن المؤمن متعلق بربه في جميع أحواله، فهو مع الله حين يسعد، ومعه حين يبأس، ومع الله حين يصح، ومع الله حين يمرض، ومع الله حين ينتصر، ومع الله حين ينهزم، قال أبو الدرداء: "ادع الله في يوم سرّائك، لعله يستجيب لك في يوم ضرائك"..

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، كل مخلوق له إليه حاجة، وهو المهيمن لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

 

أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 35].

 

عباد الله: لا يزال الحديث الشهي متواصلاً مع لذائذ المناجاة لله -تعالى-، ودعاء الباري -عز وجل-، وهل سنشبع من ذلك مهما أطلنا أو كررنا؟ لا.. ونحن نجد فيه سعادة لا نجدها في أي حديث نتحدثه، ولا في أيّ أنيس نأنس به.

 

ولكن الدعاء يصل إلى غاية أهدافه من اللذة والأنس والإجابة، حين يحمله حسن الظن بالله –تعالى- وحضور القلب وتأمل ما يقول، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاهٍ" (أخرجه الترمذي (3479)، والحاكم (1/294)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع 245).

 

وعنه أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقول الله -عز وجل-: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني"؛ (رواه البخاري (7405)، ومسلم (2675).

 

إذن فإن الله -تعالى- يتعامل مع عباده بحسب ظنونهم؛ فمن ظن به خيرًا أفاض عليه جزيل خيراته، وأسبل عليه جميع تفضلاته، ونثَر عليه محاسن كراماته وسوابغ عطياته، ومن لم يكن في ظنه هكذا لم يكن الله -تعالى- له هكذا" (انظر: تحفة الذاكرين للشوكاني: ص12).

 

وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "إن الله لا يقبل إلا الناخلة من الدعاء، إن الله -تعالى- لا يقبل من مسمِّع، ولا مراءٍ، ولا لاعب، ولا لاهٍ، إلا من داعٍ دعا ثبتَ القلب" (شعب الإيمان 2/50-51، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد: 606).

 

وعن أبي بكر الشبلي في قوله تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر:60]، قال: ادعوني بلا غفلة، أستجب لكم بلا مهلة. (شعب الإيمان: 2/54).

 

وقد حذَّر المولى -تعالى- من الاعتداء في الدعاء، والاعتداء هو كل سؤال يناقض حكمة الله، أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره، أو يتضمن خلاف ما أخبر به، قال الله تعالى: (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [الأعراف:55].

 

فمن ذلك: أن يسأل الله -تعالى- ما لا يليق به من منازل الأنبياء، أو يتنطع في السؤال بذكر تفاصيل يغني عنها العموم، أو يسأل ما لا يجوز له سؤاله من الإعانة على المحرمات، أو يسأل ما لا يفعله الله، مثل أن يسأله تخليده إلى يوم القيامة، أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب، أو أن يسأله أن يُطلعه على غيبه، أو يسأله أن يجعله من المعصومين، أو يسأله أن يهب له ولدًا من غير زوجة ولا أمة، أو يرفع صوته بالدعاء، أو يدعو مع الله -تعالى- غيره، أو أن يدعو غير متضرع بل دعاء مدلّ، كالمستغني بما عنده، المدلّ على ربه به.

 

قال ابن القيم: "هذا من أعظم الاعتداء، المنافي لدعاء الضارع الذليل الفقير المسكين من كل جهة في مجموع حالاته، فمن لم يسأل مسألة مسكين متضرع خائف فهو معتدٍ" (بدائع الفوائد: 3/13).

 

وكما نحب الدعاء، فينبغي ألا يشغلنا عن أمر واجب أو فريضة حاضرة، كصلاة مفروضة، أو إكرام ضيف، أو إغاثة ملهوف، أو نصرة مظلوم، أو صلاة، أو غير ذلك.

 

وليعلم أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من كل مسلم ومسلمة أن عملهم هذا يقرّبهم إلى الله -تعالى- فيكونون من أهل الإجابة، فعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، فتدعونه فلا يستجاب لكم" (رواه الترمذي في الفتن 2169 وحسنه، وأحمد (5/288)، والبغوي في شرح السنة (4514)، وحسَّنه الألباني في صحيح الجامع 7070).

 

قال أهل العلم: "لذا يمكن الجزم بأن ترك القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مانع من موانع إجابة الدعاء، فعلى كل مسلم يرغب بصدق أن يكون مستجاب الدعوة: القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب طاقته وجهده" (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لصالح الدرويش، ص 34).

 

أيها الإخوة: الدعاء هو العبادة، وقد كان ابن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: إني لا أحمل همّ الإجابة، ولكن همّ الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه. (ذكره ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: 2/706).

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ولي الحمد وأهله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

 

أما بعد: أيها المسلم الموفق للخير: إن المؤمن متعلق بربه في جميع أحواله، فهو مع الله حين يسعد، ومعه حين يبأس، ومع الله حين يصح، ومع الله حين يمرض، ومع الله حين ينتصر، ومع الله حين ينهزم، قال أبو الدرداء: "ادع الله في يوم سرّائك، لعله يستجيب لك في يوم ضرائك". (أخرجه أحمد في الزهد (ص135)، وأبو نعيم في الحلية (1/225)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/52).

 

وقد نعى الله على الإنسان الجحود فقال تعالى: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ) [فصلت: 51].

 

وعلى من وصل إلى حال الضراء أن يلح في الدعاء، فإن الله -تعالى- يقول: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ) [النمل: 62].

 

عن الحسن أن أبا الدرداء كان يقول: "جِدوا بالدعاء، فإنه من يكثر قرع الباب يوشك أن يُفتح له" (أخرجه ابن أبي شيبة (7/24)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/52).

 

وعن حذيفة قال: ليأتينَّ على الناس زمان لا ينجو فيه إلا من دعا بدعاء كدعاء الغريِق (أخرجه ابن أبي شيبة (7/24)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/40).

 

ولا شك أن المؤمن كلما كان متقربًا إلى الله بالطاعات، ورعًا في تعامله مع المحرمات والشبهات، كان أحرى أن يجاب له، وإن قل دعاؤه، فعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: يكفي من الدعاء مع البر، كما يكفي الطعام من الملح. (أخرجه ابن أبي شيبة: 7/40).

 

وعن محمد بن واسع قال: يكفي من الدعاء مع الورع اليسير، كما يكفي القدر من الملح (شعب الإيمان: 2/53-54).

 

وعن طاووس قال: "يكفي الصدق من الدعاء، كما يكفي الطعام من الملح" (شعب الإيمان: 2/54).

 

 

وعن وهب بن منبّه قال: "مثل الذي يدعو بغير عمل، مثل الذي يرمي بغير وتر" (أخرجه ابن أبي شيبة (7/39)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/53).

 

ودعاء الإنسان لنفسه إذا صدق وأخلص مقدم على دعاء غيره له، لاسيما إذا كان قد بلغ حال الاضطرار، فعن عبد الله بن أبي صالح قال: دخل علي طاووس يعودني فقلت له: ادع الله لي يا أبا عبد الرحمن، فقال: ادع لنفسك، فإنه يجيب المضطر إذا دعاه. (صفة الصفوة لابن الجوزي (2/289).

 

وعلى صاحب الذنوب -وكلنا ذاك الرجل- أن يفر من ذنوبه إلى غافرها، (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) [الذاريات: 50] كان يحيى بن معاذ الرازي يقول: إلهي أسألك تذللاً، فأعطني تفضلاً، وكيف أمتنع بالذنب من الدعاء، ولا أراك تمتنع بالذنب من العطاء.

 

وعن ابن عيينة قال: "لا تتركوا الدعاء، ولا يمنعكم منه ما تعلمون من أنفسكم، فقد استجاب الله لإبليس وهو شر الخلق، قال: (قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ) [الحجر: 36- 37]". (شعب الإيمان: 2/53).

 

ولا تتعب من الدعاء، فتمل، لا.. فإنك تناجي الجليل الكريم، الذي سيعطيك بكل دعاء دعوته، في الدنيا أو في الآخرة، عطايا قد لا تراها بعين رغبتك، قال بعض العباد: "إنه لتكون لي حاجة إلى الله، فأسأله إياها، فيفتح عليَّ من مناجاته ومعرفته والتذلل له والتملق بين يديه، ما أحب معه أن يؤخر عني قضاءها، وتدوم لي تلك الحال". (مدارج السالكين: 2/229).

 

وقال بعض العارفين: "ادع بلسان الذلة والافتقار، لا بلسان الفصاحة والانطلاق". (الإحياء (1/554).

 

رباه أسألك أن تجعلنا ممن إذا سأل أعطيته، وممن إذا استغفر غفرت له.

 

ثم صلوا وسلموا على معلم الناس الخير ومربي البشرية على منهج الله القويم سيدنا ونبينا وقرة أعيننا محمد بن عبد الله كما أمركم الله جل وعلا بذلك فقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

 

اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطاهرين، وصحبه أجمعين، أخص منهم الخلفاء الراشدين المهديين من بعده؛ أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعنا معهم برحمتك وفضلك ومنك يا أكرم الأكرمين.

 

اللهم يا عزيز يا حكيم أعز الإسلام والمسلمين وانصر إخواننا المجاهدين وارفع البأس والظلم والجوع عن إخواننا المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفقهم لإصلاح رعاياهم، اللهم أيدهم بالحق وأيد الحق بهم، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا على أعدائك.

 

اللهم أرد بنا وبإخواننا المسلمين خيرًا، اللهم ردهم إلى دينك ردًّا جميلاً، اللهم أرهم الحق حقًّا وارزقهم اتباعه، وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه.

 

اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، وارحم ضعفاءهم، اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين في كل مكان، ووفقهم لتحكيم شرعك، واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وانصر صالحيهم، وأقم العدل على أيديهم.

 

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد بن عبد الله وآله الأطهار، وارض اللهم عن صحابته الأبرار، ومن اتبع سنته إلى يوم الدين يا عزيز يا غفار.

المرفقات
الدعاء-المستجاب-2.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life