عناصر الخطبة
1/سبب قصة التحريم 2/أهم الدروس المستفادة من قصَّة التَّحريماقتباس
لم يَستعملِ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أُسلوبَ الضَّرْبِ لِحَلِّ هذه المُشكلَةِ الزَّوجيةِ، لكنه اتَّخذ قرارًا حازِمًا يَتَوافَقُ مع هذا الخطأ الذي يُهَدِّدُ الحياةَ الزوجية، ويَقْضِي على استقراها، فاستعملَ أُسلوبَ الهَجْرِ، وهو أُسلوبٌ تربويٌّ هادف، وهو...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد: جاء في سَبَبِ قِصَّةِ التَّحرِيمِ: عَنْ عُمَرَ -رضي الله عنه- قَالَ: "دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأُمِّ وَلَدِهِ مَارِيَةَ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ فَوَجَدْتُهُ حَفْصَةُ مَعَهَا، فَقَالَتْ لَهُ: تُدْخِلُهَا بَيْتِي مَا صَنَعْتَ بِي هَذَا مِنْ بَيْنَ نِسَائِكَ إِلَّا مِنْ هَوَانِي عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: "لَا تَذْكُرِي هَذَا لِعَائِشَةَ فَهِيَ عَلَيَّ حَرَامٌ إِنْ قَرَبْتُهَا"، قَالَتْ حَفْصَةُ -رضي الله عنها-: وَكَيْفَ تُحَرَّمُ عَلَيْكَ وَهِيَ جَارِيَتُكَ؟ فَحَلَفَ لَهَا لَا يَقْرَبُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تَذْكُرِيهِ لِأَحَدٍ"، فَذَكَرَتْهُ لِعَائِشَةَ -رضي الله عنها- فَآلَى لَا يَدْخُلُ عَلَى نِسَائِهِ شَهْرًا فَاعْتَزَلَهُنَّ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ)[التحريم: 1] الْآيَةَ"(رواه النسائي، والحاكم، والدارقطني، وابن سعد)، وفي روايةٍ للبخاري: "فَاعْتَزَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- نِسَاءَهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ حِينَ أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ إِلَى عَائِشَةَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ قَالَ: "مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا"؛ مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ حِينَ عَاتَبَهُ اللَّهُ"(رواه البخاري).
والرَّاجِحُ في سَبَبِ نُزولِ آياتِ التَّحريم: هو "تَحريمُه صلى الله عليه وسلم مَارِيَةَ"، وأمَّا حادِثَةُ "شُرْبَ العَسَلِ" ليست سببًا للنزول، وإنما ذُكِرَتْ فيها آيةُ التَّحريمِ على سبيل الاستشهاد، قال ابنُ حَجَرٍ -رحمه الله-: "وَالرَّاجِحُ مِنَ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا قِصَّةُ مَارِيَةَ؛ لِاخْتِصَاصِ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ بِهَا. بِخِلَافِ الْعَسَل فَإِنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُنَّ".
عباد الله: قِصَّةُ التَّحريمِ من أهمِّ الحَوادِثِ التي حَدَثَتْ في بيت النُّبوة؛ لأنها تُبيِّنُ بِجلاءٍ حِكْمَةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في إدارةِ الأَزَمَات، وحَلِّ المُشْكِلاتِ الزوجية، فلا بد أنْ نَسْتفيدَ منها في مُعالجة مُشْكِلاتِنا الزوجية، وخِلافاتِنا الأُسرية، ومن أهمِّ الدُّروسِ المُستفادَة مِنْ قِصَّةِ التَّحرِيمِ:
1- أهميَّةُ كِتْمانِ الأسرارِ في الحياةِ الزَّوجيةِ، وعدمُ إفشائِها، مهما كان حَجْمُ السِّرِّ، ومهما كان نوعُه، قال تعالى: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ)[التحريم: 3]، فإنَّ حفصةَ أخطأتْ حينما أفْشَتْ السِّرَّ لِعائشةَ -رضي الله عنهما-.
2- لا يَنبغِي أَنْ يُحَرِّمَ المُسلِمُ على نفسِه حَلَالاً –ولو بالامتناعِ عنه- فلا يملك ذلك أحدٌ إلاَّ اللهُ -تبارك وتعالى-، ومن رحمةِ اللهِ -تعالى-: شرعَ لنا التَّراجُعَ عن مِثْلِ هذا القرارِ الخطأ؛ فقال سبحانه: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ)[التحريم: 2]، ثم أكد النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ذلك، وحثنا على التراجع، فقال: "إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا؛ فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ"(رواه البخاري).
3- لم يَستعملِ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أُسلوبَ الضَّرْبِ لِحَلِّ هذه المُشكلَةِ الزَّوجيةِ، لكنه اتَّخذ قرارًا حازِمًا يَتَوافَقُ مع هذا الخطأ الذي يُهَدِّدُ الحياةَ الزوجية، ويَقْضِي على استقراها، فاستعملَ أُسلوبَ الهَجْرِ، وهو أُسلوبٌ تربويٌّ هادف، وهو أكثرُ أيلامًا في النَّفْسِ، وأشَدُّ وَقْعًا عليها.
4- يجبُ على المُسلِمُ أنْ يَصونَ أُسرتَه ويُحافِظَ عليها، ولا يستخدم ألفاظَ التَّحريمِ، ولا يتلَفَّظ بأيمانٍ مُغَلَّظَةٍ أو غيرِ مُغَلَّظَةٍ تُؤدِّي إلى هدمِ بَيتِ الزوجية، أو تُشَتِّتُ الأُسرةَ؛ بسببِ الجهلِ بأحكامِ الشَّرع. فبعضُهم يُلزِمُ نفسَه بإِلزاماتٍ وألفاظٍ عجيبة؛ مِثْلُ قَولِ بعضِهم: "عليَّ الحرام كذا وكذا!"، أو "عليَّ الطَّلاق كذا وكذا"، ثم يَذهب ويَبحث عن مَخْرَجٍ عند أهل العلم، فيقع في الحَرَجِ الشَّرْعِي.
5- سَماحةُ الإسلامِ، ويُسْرُ تعاليمِه، ورَفْعُ الحَرَجِ عن أتباعِه؛ فقد شرَعَ اللهُ لنا تَحِلَّةَ الأَيمان: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ)، قال الْمُهَلَّبُ -رحمه الله-: "مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ فِيمَا خَفَّفَ عَنْهُمْ: أَنَّ مَنْ قَبْلَهُمْ كَانُوا إِذَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ شَيْئًا حَرُمَ عَلَيْهِمْ؛ كَمَا وَقَعَ لِيَعْقُوبَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَخَفَّفَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يُحَرِّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ شَيْئًا مِمَّا أَحَلَّ لَهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ)[المائدة: 87].
6- مِنَ الأَدَبِ في التَّعامُلِ مع الخِلافاتِ الزَّوجيةِ الخاصَّة: السُّكوتُ عن أسبابِها، وعدمُ التَّصريحِ بها، ولا سيما إذا كانت تتعلَّقُ بِخُصوصِيَّاتِ الزَّوجين، والكِنَايةُ عنها بِلَفْظٍ عامٍّ دون الدُّخولِ في التَّفاصيل، ويدلُّ على ذلك: قولُه تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ)، فالآيةُ تَتَحدَّثُ عن شيءٍ مُعَيَّنٍ حَرَّمَه رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، ولم تُحَدِّدْ أيَّ شيءٍ كان ذلك المُحَرَّم، وقال تعالى: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا)[التحريم: 3]؛ هكذا بصيغة التَّنْكِيرِ، ولم يُحَدِّدْ نَوْعَ الحديثِ الذي أسَرَّهُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى بعضِ أزواجِه.
وقد تأدَّبَ الصَّحابةُ -رضي الله عنهم- بهذه الأدبِ الكريمِ، قال ابنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: "مَكَثْتُ سَنَةً وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ آيَةٍ؛ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ"(رواه البخاري ومسلم)، فالذي مَنَعَه من السُّؤالِ هو أنَّ المُشْكِلَةَ أمرٌ خاصٌّ لا ينبغي التَّعَمُّقُ في البحثِ عن أسبابِه، وكَشْفِ أسرارِه.
7- بعدَ هذا الهَجْرِ الذي دامَ شهرًا، أنزلَ اللهُ الوحيَ؛ لِيَضَعَ حدًّا لهذه المُشْكِلَةِ عن طريقِ التَّوبةِ الخالِصَةِ: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)، والخِطاب هنا: للزَّوجتين الكَرِيمتين؛ عائشةَ وحفصةَ -رضي الله عنهما-؛ فعلى كُلِّ زوجةٍ أخلَّتْ بأدبِ المُعاشرةِ مع زَوجِها أنْ تتوبَ إلى اللهِ مِنْ فِعْلِها؛ لِتَفْتَحَ بذلك صفحةً جديدةً في حياتِها الزوجية، قِوامُها الطاعَةُ والاحترامُ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله... أيها المسلمون:
ومن أهمِّ الدُّروسِ المُستفادَة:
8- من آدابِ الحَياةِ الزَّوجيةِ: ألاَّ يستقصي الزَّوْجُ عُيوبَ زَوجَتِه، ولا يترصَّدَ أخطاءَها، ومَواطِنَ الضَّعْفِ عندها، فإنَّ ذلك يَبْعَثُ على السَّآمَةِ والمَلَلِ في نفسِها، مما يؤدي إلى فَسادِ الحياةِ الزوجية، قال تعالى وهو يتحدَّثُ عن مَوقِفِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- من إِفْشَاءِ بعضِ نسائِه السِّرَّ: (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) قال سفيانُ الثوريُّ -رحمه الله-: "مَا اسْتَقْصَى كَرِيمٌ قَطٌّ، وَمَا زَالَ التَّغَافُلُ مَنْ فِعْلِ الْكِرَامِ، عَرَّفَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حَفْصَةَ بَعْضَ مَا فَعَلَتْ، وَأعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ".
9- مُخالفةُ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أمْرٌ عظيمٌ لا ينبغي للمسلمِ أنْ يقعَ فيها؛ لقوله تعالى: (وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)[التحريم: 4]، وفيه عِنايَةُ اللهِ برسولِه -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنَّ هؤلاء جمعيًا هم أعوانٌ له، وفي هذا أكبرُ فضيلةٍ وشَرَفٍ لِسَيِّدِ المرسلين؛ حيث جعلَ اللهُ نفسَه الكريمةَ، وخَواصَّ خلقِه، أعوانًا له.
10- فيه تَحذِيرٌ وتَخوِيفٌ يَشُقُّ على النِّساءِ غايةَ المَشَقَّةِ؛ وهو الطَّلاق؛ لقوله تعالى: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ)[التحريم: 5]، فهذا شيءٌ شاقٌّ على النساء، وهو أداةُ رَدْعٍ مُهمة، ووسيلةٌ للتأديب، ولا يُتَوَسَّعُ فيه.
11- لمَّا اختارَ اللهُ لرسولِه بَقاءَ نِسائِه المَذْكوراتِ معه؛ دلَّ على أنهنَّ خيرُ النِّساءِ وأكملَهُنَّ؛ فعندما سَمِعَتْ أُمَّهاتُ المؤمنين -رضي الله عنهنَّ- هذا التَّخويفَ والتَّأْدِيبَ بادَرْنَ إلى رِضَا رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فكان هذا الوصفُ مُنْطَبِقًا عليهنَّ، فَصِرْنَ أفضلَ نِسَاءِ المؤمنين، وفي هذا دليلٌ على أنَّ اللهَ لا يَخْتارُ لرسولِه -صلى الله عليه وسلم- إلاَّ أكملَ الأحوال.
12- الإِشَاعَةُ لها أثَرٌ ضَارٌّ في الأُسرةِ، وفي المُجتمع، ولا سيما فيما يَتَعَلَّقُ بالحياة الأُسرية، فعندما اعتزلَ النبيُّ نِساءَه -في حادثةِ التَّحريمِ– شاعَ في المدينةِ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- طَلَّقَ نِساءَه، فما كان من عُمَرَ -رضي الله عنه- إلاَّ أنْ ذهَبَ لِتَحَرِّي الخَبَرِ من مَصْدَرِه –رَغْمَ كَثْرَةِ ناقِلِيه، وانْتِشارِه بين الناس- يقول عُمَرُ -رضي الله عنه-: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَطَلَّقْتَهُنَّ؟ قَالَ: "لاَ"، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَالْمُسْلِمُونَ يَنْكُتُونَ بِالْحَصَى، يَقُولُونَ: "طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نِسَاءَهُ!"، أَفَأَنْزِلُ فَأُخْبِرَهُمْ أَنَّكَ لَمْ تُطَلِّقْهُنَّ؟ قَالَ: "نَعَمْ إِنْ شِئْتَ"(رواه مسلم).
ومن فوائد الحديث التي ذَكَرَها ابنُ حَجَرٍ -رحمه الله-: "أَنَّ الْأَخْبَارَ الَّتِي تُشَاعُ وَلَوْ كَثُرَ نَاقِلُوهَا، إِنْ لَمْ يَكُنْ مَرْجِعُهَا إِلَى أَمْرٍ حِسِّيٍّ؛ مِنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ سَمَاعٍ، لَا تَسْتَلْزِمُ الصِّدْقَ".
التعليقات