اقتباس
وللإشارة دور لا يستهان به في الإبانة عن المقصود، وتبليغ المراد، وقد يسكت المرء أحيانًا، وتعبر إشارته عما يقصده أبلغ تعبير، وتوصّل رسالته خير توصيل؛ فكيف إذا اشتركت مع اللفظ والصوت في أداء متناسق متناغم، يقوم به خطيب حاذق...
على الخطيب أن يتحرى حال إلقائه الوقفة الحسنة المناسبة، التي تُضفِي عليه المهابة والوقار؛ فليحرص على أن يكون بارزاً للجمهور، يراهم ويرونه؛ فهذا يتيح الفرصة للتفاعل والتجاوب بينه وبينهم؛ فيستطيع أن يستقرئ ما في وجوههم ونظراتهم، وهم يرون إشاراته وتفاعله بما يقول؛ فيسهم في إيجاد التواصل بينه وبينهم، ولا شك أن متابعة الجمهور للخطيب من خلال الرؤية والسماع، يكون أكثر فائدة، وأقوى تأثيرًا من المتابعة بالسماع فقط.
ولهذا يحسن أن يقف الخطيب على مكان مرتفع، ولا ينبغي له أن يتجاهل الجمهور، بحيث لا ينظر إليهم، بل ينظر فيهم، ويحاول أن يستنطق أفكارهم، ولا يثبّت نظره في جهة واحدة، كأن ينظر إلى أعلى دائمًا، أو إلى الأرض دائمًا، ولا يستحب أن يتكلف هيئة واحدة يثبت عليها طوال خطابه، مثل جعل اليدين على الصدر؛ كهيئة المصلى حين قراءة الفاتحة والقرآن في الصلاة.
وليحرص على اجتناب بعض العادات المستهجنة؛ كوضع اليد في الخاصرة، أو كثرة الحركة، وذلك بأن يعتدل في وقفته، ويبرز إلى الأمام صدره، ويقدم رجلا على الأخرى، ليتزن جسمه، ويستريح نَفَسُه، ولا يعيا صوته.
وإذا كنا نقول بضرورة أن يتحرى الخطيب الوقفة التي تضفي عليه المهابة والوقار؛ فليس معنى ذلك أن يقف وقفة المستكبر المتعالي؛ لا بل يجب أن يكون متواضعًا، ولا تعارض بين التواضع والمهابة.
ويحسن بالرأس أن يحيد عن الانتصاب الزائد، والانحناء المفرط، وبالوجه والنظر أن يكون كمرآة للنفس في بيان عواطفها، وباليدين أن لا تُرخَيا مهملتين، ولا تُمدّا بإفراط أو تُلصقا بالصدر.
وللإشارة دور لا يستهان به في الإبانة عن المقصود، وتبليغ المراد، وقد يسكت المرء أحيانًا، وتعبر إشارته عما يقصده أبلغ تعبير، وتوصّل رسالته خير توصيل؛ فكيف إذا اشتركت مع اللفظ والصوت في أداء متناسق متناغم، يقوم به خطيب حاذق ماهر، يتفاعل مع رسالته، ويخرج الكلام من قلبه؟ لا شك أن هذا يسهم في إخراج خطبة جذابة مؤثرة ممتعة، وإقبال الجمهور على الخطيب، والتفاعل معه، والتأثر بما يقول.
قال الجاحظ: والإشارة واللفظ شريكان، ونِعم العون هي له، ونِعم الترجمان هي عنه، وما أكثر ما تنوب عن اللفظ، وما تغني عن الخط، وبعدُ فهل تعدو الإشارة أن تكون ذات صورة معروفة، وحيلة موصوفة، على اختلافاتها في طبقاتها ودلالاتها.
وفي الإشارة بالطرف والحاجب وغير ذلك من الجوارح مَرْفِق كبير، ومعونة حاضرة في أمور يسترها بعض الناس من بعض، ويخفونها من الجليس وغير الجليس، ولولا الإشارة لم يتفاهم الناس معنى خاصِّ الخاصّ، ولجهلوا هذا الباب ألبته.
وقد قال الشاعر في دلالة الإشارة:
أشارت بطرف العين خيفة أهلها***إشارة مذعور ولم تتكلمِ
فأيقنْت أن الطرف قد قال مرحباً***وأهلاً وسهلاً بالحبيب المتيمِ
وقال الآخر:
وللقلب على القلبِ***دليل حين تلقاهُ
وفي الناس مِن الناسِ***مقاييسُ وأشباهُ
وفي العين غنىً للمرءِ***أن تنطق أفواهُ
وقال الآخر:
العين تبدي الذي في نفس صاحبها***من المحبة أو بغض إذا كانا
والعين تنطق والأفواه صامتة***حتى ترى من ضمير القلب تبيانا
وحسن الإشارة باليد والرأس من تمام حسن البيان باللسان، ومن شأن المتكلمين أن يشيروا بأيديهم وأعناقهم وحواجبهم؛ فإذا أشاروا بالعِصيّ، فكأنهم قد وصلوا بأيديهم أيديًا أخرى.
وقد كان من عادة خطباء العرب أنهم يشيرون بالعصا في خطبهم، ويذكر الجاحظ أن ذلك شيء خاص بهم، ومقصور عليهم، ومنسوب إليهم؛ يقول عبد الملك بن مروان: لو ألقيت الخيزرانة من يدي لذهب شطر كلامي.
وأراد معاويةُ سحبانَ وائل على الكلام، وكان قد اقتضبه اقتضابًا؛ فلم ينطق حتى أتوه بمخصرة فرطلها؛ فلم تعجبه حتى أتوه بمخصرة من بيته.
هذا؛ واستخدام الإشارة في الخطبة يجب أن يكون في موضعه، بحيث تؤدي الإشارة مع اللفظ إلى توكيد المعنى وتجليته؛ ألا ترى إليه -صلى الله عليه وسلم-، حين كان يقول في خطبته - كما أشرنا سابقًا -:"بُعثْت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى"؛ فهذه الإشارة جاءت في مناسبتها، وأنها أسهمت مع اللفظ في توكيد معنى الاقتران والتزامن بين البعثة النبوية الشريفة، وبين الساعة، وقرب قيامها.
كما ينبغي أن تكون إشارة الخطيب متوافقة مع مضمون كلامه، ومعاني ألفاظه؛ فليس من المناسب أن يتحدث الخطيب -مثلًا- عن النار وجحيمها، وجهنم ولهيبها، بوجه منبسط وثغر باسم، كما لا يكون من المناسب -أيضًا- أن يخطب عن الأمل، ويدعو إلى التفاؤل والاستبشار بالفرج، بينما هو عابس الوجه، مقطب الجبين.
ثم إن الاستخدام المنظم للإشارة، والذي يساعد في جودة الإلقاء؛ يختلف تمامًا عما تعوده بعض الخطباء من كثرة الحركة، والعبث بملابسهم أو لِحاهم أو جبين أحدهم، أو الضغط بقبضة أيديهم بعصبية شديدة، وتوتر غير ملائم، أو الإكثار من خلع النظارة ولبسها، وبعضهم كثير التحرك في مكانه إلى الأمام تارة وإلى الوراء أُخرى.. ونحو هذا، فهذا العبث ونحوه لا يدخل فيما نحن فيه، بل نرى أنه يخل بالأداء، وربما يضر بهيبة الخطيب ووقاره.
هذا؛ ويجب ألا تؤدي الإشارة إلى معنى فاسد، مثل ما حدث من بعض الخطباء حين ذكر الحديث الشريف: "إن قلوب بني آدم كلَّها بين أصبعين من أصابع الرحمن"؛ حيث قرن الكلام بأن أشار بأصبعيه السبابة والوسطى، فهذا يوهم أن أصبعي الرحمن مثل أصبعي هذا الخطيب -تعالى الله-.
وعلى الخطيب أن يعرف مدلول الحركات والإشارات لتتناسب مع المعنى الذي يقصده - كما يذكر ذلك بعض الباحثين:
فمثلا العين المفتوحة تمثل الغيظ أو الخوف أو الإعجاب، والعين المغلقة تشير إلى التواضع أو البغضاء، والنظر الشزر يترجم عن الاحتقار والاستهانة والكراهية.
والعين المتحركة يمينًا وشمالًا تنبئ عن الرياء والاشمئزاز، والعين المتطلعة إلى السماء ترمز إلى الدعاء، والنظر إلى الأرض تعبير عن اليأس.
أو الخشوع أو الحياء، والعين المستقرة في نظرتها تفصح عن الشدة والإثبات والرجاء، والعين اللامعة ترجمان عن الظفر.
والوجه كله معبر عن الانفعالات بما يرتسم على صفحته من خطوط وأشكال؛ فارتفاع خطوط الجبهة قليلًا يمثل الانتباه، وارتفاعها كثيرًا يرسم الدهشة أو الفرح العظيم، أو الألم الأليم، وانخفاضها يدل على القلق والتفكير.
والوقفة المعتدلة الناهضة تدل على التحدي، والوقفة المنحنية تدل على الحنان والشفقة والاستسلام، وانطلاق الذراع إلى الأمام ينبئ عن التقدم وعن التهديد وهكذا..
ويحسن أن تسبق الإشارة القول ممهدة له منبئة به؛ فيتنبه السامعون له ويترقبونه، ليجيء في وقت الحاجة إليه، فيثبت فضلَ ثبات، فالإشارة تكون مع الفكرة مصاحبة لها، والفكرة سابقة على القول؛ فالإشارة مثلها.
حسن المظهر:
إن الخطيب المسلم عنوان لدعوته، وسفير لدينه، أينما حلّ وأينما ارتحل، فليكن جميلاً، حسن المظهر، وليكن تطبيقا عمليا لمبادئ الدعوة الإسلامية، الداعية إلى النظافة والتجمل والتطهر.
قال -تعالى- يوصي الداعية الأول -صلى الله عليه وسلم-: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ)[المدثر: 4]،وقال -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)[البقرة: 222].
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنة، قال: "إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطَرُ الحق وغَمْطُ الناس".
والخطيب يكون محط أنظار الجمهور، وفي دائرة الضوء، وأي إهمال في مظهره، أو هندامه، لاشك في أنه سوف ينعكس بالسلب على نظرة الجمهور له، وربما يقلل من احترامهم وتقديرهم له، والعكس صحيح، فالخطيب الأنيق في ملبسه، الجذاب في مظهره، النظيف في سمته ومنظره؛ تكبره العين، وتهابه النفس، وتبعث على الارتياح رؤيته.
بل إن حسن المظهر له أثر طيب على الخطيب نفسه، إذ يمنحه شعورًا بالثقة والارتياح، وقد أُرْسِل سؤال إلى مجموعة كبرى من الناس من قِبَل عالم نفسي ورئيس جامعة، يتساءل عن التأثير الذي تتركه الملابس في أنفسهم، فأجمع كل الأفراد على أنهم عندما يكونون بمظهر لائق وأنيق، ويتأكدون من ذلك، يشعرون بتأثير ذلك، ومن الصعب شرح ذلك الشعور، لأنه غير محدد، رغم كونه حقيقيًا، فقد منحهم الثقة بالنفس، ورفع تقديرهم الذاتي.
المصدر/ الألوكة
التعليقات