اقتباس
وثالث يتقن عرض السيرة النبوية من سرايا وغزوات ومواقف مرت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخر غالب كلامه وحديثه عن الأمور الفقهية، وهناك من يجيد الحديث عن الواقع والأمة وآماله، ويتعرض لمشكلات المجتمع الذي يعيش فيه مثل: الربا - المخدرات - الزنا - الغش - قطعية الأرحام - الطلاق - الغيبة - الحسد وغيرها الخ .. أي هؤلاء الخطباء أفضل وأحسن؟
يميل الكثير من الخطباء إلى نوعية معينة من الخطب يحبونها ويفضلونها على غيرها وتستهويهم ويحبون المتعة فيها، فنجد أحدهم يفضل الحديث في الروحانيات مثل: الموت وسكراته، والقبر وما فيه، وعلامات الساعة، ويوم القيامة وأهواله وأحداثه ومصير الناس فيه؛ إما إلى الجنة أو النار.
وهذا خطيب ثان يميل إلى الحديث عن الأخلاق الإسلامية وأنواعها، وثالث يتقن عرض السيرة النبوية من سرايا وغزوات ومواقف مرت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخر غالب كلامه وحديثه عن الأمور الفقهية، وهناك من يجيد الحديث عن الواقع والأمة وآماله، ويتعرض لمشكلات المجتمع الذي يعيش فيه مثل: الربا - المخدرات - الزنا - الغش - قطعية الأرحام - الطلاق - الغيبة - الحسد وغيرها إلخ ..
أي هؤلاء الخطباء أفضل وأحسن؟
ولعل الإجابة التي يرتاح إليها الإنسان هي أن الخطيب الذي يجيد التحدث في أكثر من فن من هذه الفنون هو أحسنهم وأعلاهم مكانة، أما الذي لا يعرف إلا لوناً واحداً من العلوم لا يجيد غيرها فهو غير قادر على مواجهة الأحداث التي تواجه المجتمع الذي يعيش فيه هذا الخطيب.
وبالتالي فالخطيب الذي يجيد الحديث في الإيمانيات والروحانيات والأسرة ومشكلاتها والعلاقات الاجتماعية والسيرة النبوية ولا ينسى الواقع الذي يحيا فيه - هو خطيب متميز تُوزن خطبه بالذهب ويرفعه الناس في منزلة رفيعة.
وعلى هذا فالخطيب الذي يحصر نفسه في زاوية ضيقة هو أقل منزلة ممن يجيد العديد من فنون الخطابة.
اختلاف معارف وثقافة الجمهور
فالخطيب عليه أن يتذكر دائماً أن المستمعين إليه ليسوا على درجة واحدة من الثقافة والمعرفة؛ فبعض الجمهور يحب الاستماع إلى الروحانيات؛ ليرق قلبه وتدمع عيناه، ونوعية أخرى تحب معرفة رأي الشرع في الواقع الذي لا يغيبون عنه، وفئة ثالثة تفضل الاستماع إلى السيرة النبوية، وطائفة رابعة تحب الجهاد والفتوحات الإسلامية وتحب الحديث عن عظمة الإسلام وهكذا.
وهذا يعنى أن الجمهور ليسوا غطاً واحداً أو أصحاب ثقافة واحدة وهذا يُلقي على الخطيب تبعة ثقيلة أن يشبع رغبات هذا الجمهور الذي تتنوع ثقافته ومعارفه فإذا استطاع أن يُسمع كل فئة ما يحبون فهذا هو عين النجاح والتوفيق.
أما الخطيب الذي يحبذ فناً واحداً فهو يكفي أنه يشبع رغبة فئة واحدة أما باقي الفئات فهي بعيدة عن تذوق العيش في الجو الذي يجيده الخطيب.
الخطيب أول الضحايا:
فالخطيب الذي يحصر نفسه في لون واحد من الخطب لا يجيد عنه شيئاً. عن هذا جهله الكبير بباقي الفنون والعلوم الأخرى، ومن ثم ستصبح ثقافته الشرعية محدودة وقاصرة بينما زميله الذي يجيد العديد من الفنون سيصير ذا ثروة عالية من العلوم الشرعية وبالتالي يجعله قادراً على الحديث في أي موضوع وأي مكان نظراً لمعارفه الواسعة التي جمعها من غالب هذه العلوم.
فالخطيب الذي يجيد فناً واحداً ستزداد مشكلته لو نُقل من مسجده إلى مسجد آخر وكان جمهور المسجد الجديد يحبون لوناً آخر غير اللون الذي يميل إليه الخطيب وهذا سيُلقي عليه عبئاً ثقيلاً في القراءة والاطلاع، وربما يحتاج إلى وقت وجهد ليجد الثمرة المرجوة.
تربية غير متكاملة:
فالخطيب الذي لا يعرف إلا لوناً واحداً من الموضوعات سيؤدى إلى إخراج شخصيات غير متكاملة من جميع الجوانب؛ الإيمانية، والأخلاقية، والسلوكية، وفي المعاملات مع الناس، بل سينجح في تغليب جانب واحد على باقي الأمور بصورة ليس فيها توازن ولا تناسب.
فقد يترتب على كثرة الحديث الدائم عن الدار الآخرة بصورة مبالغ فيها قد تؤدي إلى زهد الناس في الدنيا وعدم السعي للتمكين للإسلام ومجاهدة الباطل وقد يظنون أن التمتع بالطيبات من الرزق لا يتفق من كمال الإيمان.
وهذا يتنافى مع قوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ …) الأعراف.
صورة غير متكاملة عن الإسلام:
فالإسلام دين شامل يشمل مظاهر الحياة فهو يتضمن: أخلاقاً، وسلوكاً، وعبادة، وعقيدة، ومعاملات، وإيمانيات، وسيرة، وتاريخ، وغيرها ..
فعندما يتحدث الخطيب باستمرار عن فن واحد يظن المستمع أن هذا هو الإسلام، وأما غيره فليست لربه علاقة.. وهذه صورة خاطئة عن الإسلام الذي تميز بشموله فهو عقيدة، وعبادات، وأخلاق، ومعاملات، بينما هذا الخطيب لا يعرف إلا شيئاً واحداً وهذا يمثل ظلماً لهذا الدين قد أساء هذا الخطيب في عرض شريعة الله تعالى للمستمعين.
في القرآن البيان والشفاء:
والناظر في آيات القرآن الكريم سيجد أن السورة الواحدة ربما اشتملت على العديد من الموضوعات مثل الحديث عن قدرة الله عز وجل، وعن آياته في الكون، وتناول الأنبياء السابقين وما جرى مع أقوامهم، وقد تتطرق للحديث عن بعض الأخلاق الإسلامية، وقد تشير إلى يوم القيامة وما يكون فيه.
فمثلاً لو أخذنا سورة الغاشية التي تتناول الحديث عن الآخرة وعن افتراق الناس إلى فريقين: أهل الجنة وما أُعد لهم ، وأهل النار وما ينتظرهم، ثم تأخذ الآيات إلى رحاب الكون الواسع والدعوة إلى التفكر في كون الله تعالى، وما حول الإنسان من الإبل والسماء والجبال والأرض، ثم الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأن مهمته قاصرة على البلاغ المبين، ثم بعد ذلك فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ثم الله تعالى يتولى حساب الخلائق يوم القيامة، افتح المصحف واقرأ هذه السورة جيداً يقول الله تعالى : (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ * وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ * لاَ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ * وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لاَ تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ) الغاشية.
فالقرآن الكريم متكامل في عرضه للموضوعات والله تعالى يقول: (إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ …) الإسراء.
وفي السنة النبوية المباركة الحُجة والبرهان:
وإذا نظرنا إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم سنجد أنها عامرة بالعديد من الموضوعات التي يحتاجها الفرد والمجتمع؛ سواء في علاقته مع ربه أو مع الناس، ولن نجد فناً واحداً أو إطاراً محدداً تنحصر فيه السنة النبوية هذا ما يدفع الخطيب إلى الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمثلاً هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد، رضي الله عنه: عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن".
فهذا يستطيع الخطيب أن يتحدث عن موضوع التقوى وثمراتها، وكذلك عن مآل الحسنات والطاعات وأجرها عند الله تعالى، وأخيراً الخلق الحسن عند معاملة الإنسان لغيره.
وبالتالي فهنا ثلاثة موضوعات يمكن للمتحدث أن يتناولها في خِطابه وهي متنوعة لتعلم الخطيب أن يتنوع في خطابه مع الناس.
وهكذا السنة تتناول العديد بل العشرات من الموضوعات وليس موضوعاً واحداً ويمكن لأي إنسان أن يعرف هذا دون بذل جهد كبير.
انفضاض الناس من حوله:
وإذا اعتاد الخطيب لوناً واحداً من الخطابة فقد يترتب على ذلك أن يفقد أعداداً كبيرة من مؤيديه ومحبيه الذين لا يجدون بُغيهم عنده أو ضآلتهم فيه، ويأخذون في البحث عن بديل آخر يشبع لهم رغبتهم؛ أما الخطيب الذي يجيد الحديث في أكثر من لون من فنون البيان فهذا سيزيد شعبيته بين الناس ويرفع أسهمه عند المستمعين.
وقد سمعنا وعاصرنا العديد من الخطباء الذين ملكوا قلوب الناس وردد الجمهور خطبهم؛ لأنهم تميزوا بقدرتهم على الحديث في كل موضوع يخدم الإسلام والمسلمين.
كلمة أخيرة لابد منها:
ليس معنى ذلك أن الخطيب الجيد هو الذي يتحدث في كل الأمور بدرجة واحدة من الكفاءة والإتقان، ولكنه قد يكون متميزاً في جانب على باقي الجوانب، ولكنه يمتلك القدرة على الحديث في العديد من الموضوعات.
أخي الخطيب رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة فهيا نبدأ من الآن الطريق نحو التميز في الخطابة. كيف الطريق: هذا ما سنكمله الحلقة التالية.
التعليقات