اقتباس
والطريقة الجيدة في الإلقاء أن يضع الخطيب نصب عينيه أن عليه أن يفهم سامعيه ما يقول, وأن يستميلهم إلى أفكاره ويقنعهم بها, وهو لهذا يبدأ كلامه لهجة هادئة عادية, لهجة من يتحدث إلى شخص في موضوع ما ليفهم أبعاده وعناصره وليقتنع به, ثم ليحبه ويعتنقه, وفي هذا الإلقاء الذي يبدأ بلهجة متكلم غير متصنع, يجد الخطيب صوته قد ارتفع, ونبراته قد تكيفت. ويجد سمات الإخبار والاستفهام والتعجب والدهشة والسخرية وما إليها وقد ظهرت تلقائياً في هذا الحديث.
تعريف الإلقاء وأهميته:
يراد بإلقاء الخطبة طريقة التحدث بها إلى الناس, وإنهاء المعلومات بها إلى أذهانهم وقلوبهم, والإلقاء من أهم العوامل في نجاح الخطبة أو فشلها, فقد تكون اللخطبة جيدة المعاني والأفكار, حسنة العبارات والأسلوب, ثم لا تظفر بإلقاء جيد فتضيع فائدتها إذ لا يفهمها السامعون ولا تجتذب انتباههم, وقد تكون أقل من ذلك في إعدادها وتكوينها ولكن جودة إلقائها تهيئ للسامعين كل جزئية منها, فتكون فائدتهم منها أكبر وأكثر.
والخطيب الموفق هو الذي يستطيع أن يشد انتباه السامعين ويربطهم به, فيتابعون أفكاره ويشاركونه انفعالاته وعواطفه, وأكثر من هذا أن تكون خطبته موحية تولد فيهم أفكارا ً ومعاني جديدة؛ توقظ عواطفهم وتوجه مشاعرهم إلى ما يدعو إليه. ولا يكون شيء من هذا إلا مع الإلقاء الجيد المثير، لذلك فالإلقاء من أهم أدوات التأثير والإقناع التي يجب أن يتحلى بها الخطيب.
وللإلقاء المؤثر عوامل هامة من أبرزها ما يلي:
1- جهارة الصوت وقوته
وكان العرب يفضلون في الرجل أن يكون واسع الأشداق, ويصفون الخطيب الجيد بأنه أشدق, وكل متفوه ذو بيان فهو أشدق, واشتهر بهذا اللقب عمرو بن سعيد الأموي لأنه كان من الخطباء المشهورين, ويتوقف الصوت القوي أيضا ً على قوة الحنجرة, وقوة الصدر والرئتين, وهذه صفات خلقية, ومردها كلها إلى إجادة الصوت وجهارته وحسن تبيان الحروف ومخارجها. وفي الوقت الحاضر سدت مكبرات الصوت مسد هذه الصفات إلى درجة كبيرة وإن كانت لا تغني عنها نهائيا ً، فلو كان الخطيب رفيع الصوت لم تغن عنه مكبرات الصوت ولو كثرت، ولو كان ذا بحة فاحشة زادته المكبرات الصوتية فحشا في صوته وهكذا.
2- حسن مخارج الحروف وتمييز أجزاء الكلمة
وكان العرب يكرهون من الخطيب أن يكون ألثغ – ينطق بالشين سينا ً مثلا ً, أو بالراء غينا ً, أو بالكاف تاء, فذلك يضيع بهاء الخطبة وقد يوقع السامعين في لبس, أو على الأقل يكلفهم شيئا من المشقة في فهمه – فإذا تحدث خطيب عن أثر الكبر وأخلاق المتكبرين فيقول: إن الشخص قد يزهو وينتفس فلا يطيق الناس نفسه – وهو يريد أن الشخص ينتفش فلا يطاق نفشه – وينتفش بمعنى يزهو كالديك, أو يقول: إن الشخص السيئ كالجغح المنتبغ قد يفضى انتباغه إلى ضغغ عظيم, وهو يريد أنه كالجرح المنتبر أي المتورم المرتفع. فيلتبس كلامه بالعبقرية والنبوغ وهو معنى بعيد جدا ً عن مراده, ويعني ( بالضغغ) الضرر وهذا سيء. وقد أفرد الجاحظ في كتابه ( البيان والتبين ) فصلاً للحروف التي تدخلها الثغة وما حضره منها فذكر أنها أربعة: القاف والسين, واللام, والراء, وأورد صورا ً كثيرة من النطق بها, وذكر بعضاً من مشهوري الخطباء الذين كان بهم شيء من اللثغ وكيف كانوا يتجنبونه وينجحون في تحاشيه، ومنهم محمد بن شبيب وهو من رجال الكلام, وكان ينطق الراء غيناً ولكنه كان يستطيع النطق بالراء إذا ضغط لسانه وكان لحسن تصرفه في الكلام وسعة المفردات لديه يستبدل الكلمة بأخرى خالية من الراء, وهذا عجيب وشاق ولكنه تأتي له بطول المران حتى وصفه بعض الشعراء بقوله:
عليم بإبدال الحروف وقامع **** لكل خطيب, يغلب الحق باطله
ومن أشهر هؤلاء واصل بن عطاء رأس المعتزلة, فإنه كان ألثغ فاحش اللثغ وكان مخرج الراء منه فاحشاً شنيعاً, وكانت مكانته وموقفه من خصومه الكثيرين وحاجته لشرح مذهبه والدفاع عنه تحوجه إلى الخطب الطوال, وأنها لابد أن تكون فصيحة بينة الألفاظ واضحة الحروف, فعمل على إسقاط الراء من كلامه فلم يزل يكابد ذلك حتى استقام له أن يلقي الخطب الطوال خالية من هذا الحرف, وكان يعادي بشار بن برد الشاعر الزنديق, وكان بشار يلبس القرط في أذنه على طريقة العجم فكان واصل يقول عنه: هذا الأعمى المشنف, يريد ذا القرط. ومن كلامه فيه: ( أما لهذا الأعمى الملحد المشنف المكنى بأبي معاذ من يقتله, أما والله لولا أن الغيلة سجية من سجايا الغالية لبعثت إليه من يبعج بطنه على مضجعه ويقتله في منزله وفي يوم حفله )....... فتحاشى اسم بشار وكلمة كافر, ويبقر بطنه, وعلى فراشه, وفي داره. ........., وكان الناس يعجبون منه ومن حسن تصرفه في الكلام لتحاشي هذا الحرف.
ويتوقف مثل هذا العمل على سعة العلم بالمفردات اللغوية والتراكيب, وعلى التدريب والتمرين. والخطيب الموهوب لو كان به بعض هذه اللثغات طلب الطب لعلاجها، وثمة مراكز متخصصة في إصلاح الحروف المعيبة، وعلاجها يسير ومتوافر بفضل الله، فليس مشكلة في هذا الأمر إن شاء الله.
3- تلوين الصوت وتكييفه
فيجهر الخطيب مرة ويعلو صوته. ويلين أخرى حتى يكون كلامه همسا, كما يسرع في جملة ويمد صوته في أخرى, ولا بد من أن يميز لهجة الاستفهام من لهجة الخبر وهكذا. والرسول صلى اله عليه وسلم كان خير من يستخدم هذه الطريقة فكان إذا خطب علا صوته واحمرت عيناه واشتد غضبه كأنه منذر جيش، وكان إذا وعظ ألان الكلام وضرب الأمثال وبالغ في الوصف حتى قال الصحابة " كأنّا نرى الجنة والنار رأي العين "
ويزري بالخطبة ويذهب بتأثيرها أن يكون صاحبها رتيب الصوت مطرد النغم تجري كل تعبيراته على وتيرة واحدة, وبعض الخطباء يثير الناس بحسن إلقائه, فإذا قرئت الخطبة بعد ذلك كانت قليلة التأثير لأن تأثيرها في الواقع كان راجعاً إلى حسن إلقائها لا حسن تأليفها, وقد يكون الأمر على العكس من ذلك, وخير الخطب ما جمع بين حسن التأليف وحسن التأثير و وتلوين الصوت يأتي من الدربة ومن انفعال الخطيب نفسه بخطبته, فيكون تكييف صوته نتيجة انفعاله وتأثره, فإذا عدم هذا الشعور كان قائدا ً لا خطيبا, ولا يستحسن لهذا – أن تكون الخطبة مكتوبة ولا محفوظة ولكن على الخطيب أن يعد عناصر خطبته والأفكار التي يريد نقلها إلى الناس ثم يعبر عنها بطريقته و لكن هذا يتوقف على مقدرة الخطيب الكلامية ومحصوله اللغوي ومحفوظاته الأدبية كما يتوقف على حسن تفكيره وقدرته على تحليل موضوعه.
4- استعمال الإشارات
فإن هذه الإشارات مما يوضح المعنى ويثبت أثره في سامعه, وفي هذا يقول الجاحظ: (والإشارة واللفظ شريكان, ونعم العون له ونعم الترجمان هي عنه, وما أكثر ما تنوب عن اللفظ وتغني عن الخطأ). وفي الإشارة بالطرف والحاجب وغير ذلك من الجوارح مرفق كبير ومعونة حاضرة ومبلغ الإشارة أبعد من مبلغ الصوت, فذا أيضاً باب تتقدم الإشارة فيه بالصوت، وحسن الإشارة باليد والرأس من تمام حسن البيان باللسان مع الذي يكون مع الإشارة من الدل والشكل والتفتل, واستدعاء الشهوة وغير ذلك من الأمور. والإشارة أيضا وليدة الانفعال والتأثر, والخطيب الذي لا يكون متأثراً بكلام نفسه ويفقد أهم صفات الخطيب المؤثرة لا يكون مؤثر في الآخرين.
ونذكر مع هذا أن من الخطباء من يسرف في تلوين صوته وكثرة إشاراته حتى يخرج عن ذلك بالخطبة عما يراد منها, بل ويفقدها نهائياً قيمتها, والخطيب الموفق من يستعمل ذلك في موضعه المناسب بغير إهمال ودون إسراف.
والطريقة الجيدة في الإلقاء أن يضع الخطيب نصب عينيه أن عليه أن يفهم سامعيه ما يقول, وأن يستميلهم إلى أفكاره ويقنعهم بها, وهو لهذا يبدأ كلامه لهجة هادئة عادية, لهجة من يتحدث إلى شخص في موضوع ما ليفهم أبعاده وعناصره وليقتنع به, ثم ليحبه ويعتنقه, وفي هذا الإلقاء الذي يبدأ بلهجة متكلم غير متصنع, يجد الخطيب صوته قد ارتفع, ونبراته قد تكيفت. ويجد سمات الإخبار والاستفهام والتعجب والدهشة والسخرية وما إليها وقد ظهرت تلقائياً في هذا الحديث.
هذا, وليس من المناسب أن يبدأ خطبته ثائراً منفعلاً, كما أنه ليس من المناسب أن يظل على نبرات رتيبة, وهذا غالباً أو قطعاً يرجع إلى انفعال الخطيب بما يقول, ولهذا تفتر الخطبة إلقاء وتأثيرا ً إذا كانت مكررة لا أثر لها في نفس الخطيب.
وبهذا نجد أن الإلقاء يكون من أقوي أدوات التأثير والإقناع وأنفعها.
المراجع والمصادر :
البيان والتبيان للجاحظ
الأمالي للقالي
الخطابة وإعداد الخطيب عبد الجليل شلبي
الخطابة لأبي زهرة
فن الخطابة لأحمد الحوفي
الخطابة للدكتور سعيد الصاوي وزملائه
التعليقات