اقتباس
وأصل هذه الطامة عند بعض الخطباء والوعاظ، أنهم يصيبهم الغرور، أو يدفعهم الحرص على شخوصهم أن يستعظموا رد السائل؛ حتى لا تَسقُط هيبتهم لدى الجماهير، ومِن ثَمَّ ربما سقطوا من أنظار المعجبين بهم، وهذا ما لا يريدونه.
الله - جل وعلا - يَقسِم المواهب، ويمنح العطايا، بما شاء وكيف شاء، ويفعل الله ما يشاء، ولا رادَّ لحُكمه؛ فمن الناس من آتاه الله موهبةَ الشعر، فنمَّاها حتى صار في هذا المجال آية من آيات الله -تعالى-، فإذا ألقى قصيدة شنَّف الآذان، وأدهش السامعين، وحرَّك العواطف، ودغدغ المشاعر، وفي بعض الأحيان يُقيم الدنيا ولا يُقعِدها؛ لذا عُرفت كثير من الثورات بشعرائها؛ لأنهم لسانها، والمعبِّرون عنها.
وأصبح هذا الشاعر في أوساط عامَّة الناس، (رقم واحد) يُشار له بالبنان، وتُعقَد عليه الأنامل.
وفي كثير من الأحيان يُقدَّم على الساسة، وكبار رجال الثورة، أو من كانوا سببًا في نجاح العمل تحريرًا وبذلاً وتضحية.
ذلك لأن العامة مقياسهم يختلف عن مقياس المثقفين والساسة، وهذه إشكاليَّة عبر العصور، وكر الدهور، ينبغي أن تواجه بحكمة ورويَّة وأناة، حتى توجَّه الوِجهة التي تستحق، مع إقرار الفضل لأهله، فلا إفراط ولا تفريط.
والشاهد هنا، أنه ليس كل شاعر سياسيًّا، وليس من شرط القائد أن يكون شاعرًا، والشاعر الذي يُقدَّم عند الجمهور، لا يعني أنه أكفأ الناس لهذا العمل أو ذاك، لكن العامة يُعمِّمون، من غير دراية -في الغالب- في هذه المسألة أو تلك؛ لأن لغة العاطفة هي الأصل في تقويم الأمور عندهم وتقدير القضايا في الغالب الأعم.
وهذا الأمر لا يُهمَل، بل له اعتباره الذي لا يُستهان به في كثير من الدوائر السياسية والاجتماعية والعمل الجماهيري؛ لذا نجد أن الدوائر التي تهتمُّ بهذه الشؤون، تقيم له اعتبارًا كبيرًا، لأنه تعبير مهم عن حالة مهمة، في إطار العمل العام، الذي له أثر كبير في الواقع.
وكذلك نجد في واقعنا أن أناسًا حباهم الله -تعالى- بلسان ذَرِب، وفصاحة عالية، وطلاقة لسان، إذا تكلَّم أدهش الحاضرين، وحرَّك مشاعرَهم، وشدَّهم إليه شدًّا مذهلاً، بما يَملِك من موهبة الأداء الكلامي.
والأصل في هذه الموهبة أنها منحة منحها الله لهذا الإنسان، ثم تطوَّر بالتدريب والممارسة، من هنا تجد بعض الموهوبين - وأحيانًا يكونون من العامة - عندهم هذه الموهبة المدهشة، ولكن الدُّربة يبقى أثرها أصلاً، والتعليم والدورات التي تقام لصناعة الخطباء، لها أهمية بالغة فهذا الذي يمتلك الموهبة، أو ذاك الذي تعلَّم فنون الكلام ومخاطبة الآخرين، لا يمكن أن يعتبر -لأنه يجيد الخطابة- العالم الذي لا يُشَق له غبار، ولا يُدانيه في العلم أحد على الإطلاق.
والمشكلة عندنا عامة الناس إذا سمعوا خطيبًا مفوَّهًا، اعتبروه علّامة في كل شيء، ويَصلُح لكل عمل، بل يا ويل مَن قدَّم غيرَه في أي مسألة من المسائل!
والواقع أن هذه القضية من الإشكالات التي تعمل عملها غير الصحي في كثير من الجوانب.
نعم، صاحب الموهبة الخَطابية له منزلته ومكانته، ولا بد من الاعتراف له بفضل التأثير والتوجيه، وإنزاله المنزلة التي يستحق، فهذا توجيه نبوي في إنزال الناس منازلهم.
والخطباء لهم مكانة كبيرة في صناعة الحياة، وهم مِفصَل مهم في التوجيه والإرشاد، فإذا لم يوجدوا وَجَب علينا أن نُوجِدهم؛ فوجودهم فرض كفاية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ولكن الذي نريد تأكيده في هذا المقام، ما يأتي:
أنه في كثير من الأحيان تجتمع موهبةُ الخطابة مع العلم الشرعي فيكون خطيبًا وعالمًا في نفس الوقت، فهذا غاية المنى، فهذا الخطيب يَحِق له أن يتصدَّر للفتوى؛ لأنه عالم وهذا أمر لا إشكال فيه.
أما إذا كان خطيبًا وليس عالمًا، فهذا ينبغي أن يُلاحظ هذا المعنى في التعامل معه، ويجب عليه أن يعرف قدْر نفسه، فلا يتجاوز حدوده، فيقع في الهَلَكة، والعياذ بالله.
نقول هذا، حتى لا يقع ما لا يُحمَد عقباه؛ لأن مَن تَجاوز حده في هذا الشأن، معنى ذلك أنه يفتي بغير عِلم، ومن أفتى بغير علم، كان آثمًا إثمًا عظيمًا.
وأصل هذه الطامة عند بعض الخطباء والوعاظ، أنهم يصيبهم الغرور، أو يدفعهم الحرص على شخوصهم أن يستعظموا رد السائل؛ حتى لا تَسقُط هيبتهم لدى الجماهير، ومِن ثَمَّ ربما سقطوا من أنظار المعجبين بهم، وهذا ما لا يريدونه.
أما الصِّنف الآخر من هؤلاء الوعَّاظ والخطباء، يُعلِن على الملأ أنه لا يدخل في عالم الفتوى؛ لأنه ليس من أهل هذا الميدان.
وسمعنا بعضهم يقول هذا في فضائيات مشهورة ومعروفة.
وهذا -والله أعلم- من الإخلاص لله، الذي رسخ في قلب هذا المرء الصالح إن شاء الله، وأمر كهذا يحتاج إلى تَجرُّد لله تعالى، وعلامة خير تؤشِّر على متانة التربية التي تَربَّى عليها هذا المرء، وهذا الذي نريده من إخواننا ترشيدًا للعمل الإسلامي؛ حتى لا تقع العَثْرة والسقطة، التي في كثير من الأحيان تؤدي إلى فوضى، وإثارة جدَل وإقلاق للمجتمع، ومن ثَمَّ فإن هذا يسوق إلى حدوث البلبلة التي يستغلها خصوم الدعوة، وأعداء العمل الإسلامي، إضافة إلى أن هذا الأمر يُعطي صورة سيئة بشكل أو بآخر عن هؤلاء الوعاظ؛ لذا شنُّوا حملاتهم المعروفة على هؤلاء الوعاظ واتهموهم بتهم كثيرة، أهمها إفراغ نشاط هؤلاء من مضمون العمل للإسلام، وهذا ظلم ظاهر، واصطياد في الماء العَكِر، ولكن بنفس الوقت يجب ألا نُعطي الفرصة لهؤلاء المتربصين.
هذا فيما يَخُصهم في إطار الواجب الذي يتحتَّم عليهم أن يفعلوه، أما بالنسبة لنا من حيث التعامل معهم، علينا أن نتعرَّف على حقيقة عِلم هذا المرء الذي يَخطب، هل هو عالم عارف بأصول العلم الشرعي ومُطَّلِع عليها، ومُستوِعب لأصولها، وحافظ لفروعها، أم أن الأمر مجرد وعْظ وقدرة على تفتيق الجمل، وتشكيل العبارات المؤثِّرة؟
فإذا كان الأمر على هذه الصورة، علينا ألا نُكلِّف هذا فوق طاقته، من مِثل تكليفه بالفتوى ونحن نعلم علم اليقين، بأنه ليس أهلاً لهذا المنصب الخطير، والمجاملة في هذا الشأن حرام، بل علينا أن ننصح هذا الأخ إن فعل ألا يفعل، ومصيبتنا أن بعضنا يسيِّس الأمور في كثير من الأحيان، إن بحسن نيَّة، من باب استثمار اسم هذا الواعظ أو ذاك؛ لأن تأثيره أكبر وسُمعته أطيب، وشهرته أوسع، وهذا كله يَنعكِس على الفتوى، وآثارها في المجتمع، أما إذا كان بسوء نيَّة، فهذا شرٌّ مستطير، وعاقبته وخيمة.
التعليقات