عناصر الخطبة
1/ مكانة الحياء 2/ أعظم الحياء 3/ كيف ينشأ الحياء من الله تعالى؟ وبماذا يتحقق؟ 4/ عواقب زوال الحياء من القلباهداف الخطبة
اقتباس
من نُزِع منه الحياء -والعياذ بالله- فإنه لا يبالي في أيّ الشرور فعل، وفي أيّ الآثام والمعاصي باشر ووقع، وذلك لانتزاع الحياء من قلبه، وذهابه من نفسه، فهو لا يستحيي من الله -جلّ وعلا-، فلا يبالي بالذنوب، ولا يبالي بغشيان المعاصي والآثام, فتتنقل به نفسه الردية وقلبه الممرض الذي لا يستحيي من الله، يتنقل به في ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله حمد الشاكرين، وأثني عليه ثناء الذّاكرين، لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، له الفضل وله النعمة وله الثناء الحسن، أحمدهُ -تبارك وتعالى- على كل نعمة أنعم بها علينا في قديم أو حديث، أو سر أو علانية، أو خاصة أو عامة، أحمده -تبارك وتعالى- حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى؛ فإن تقوى الله -جلّ وعلا- خيرُ زاد، وأعظم أمر يلقى به العبدُ ربه يوم المعاد، قال الله -تبارك وتعالى-: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) [البقرة:197].
عباد الله: لقد تكاثرت الدلائل والنصوص وتضافرت في الحث على الحياء والترغيب فيه، وبيانِ مكانته العالية ومنزلته الرفيعة، وبيان ما يترتب عليه من الآثار العظيمة والثمار الكريمة على العبد في الدنيا والآخرة، والأحاديث في هذا الباب كثيرةٌ، منها ما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أنه مرّ برجل يعظ أخاه في الحياء، فقال له -عليه الصلاة والسلام-: "دعه؛ فإن الحياء لا يأتي إلا بخير".
وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الحياء شعبة من شعب الإيمان" وجاء في الصحيحين من حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الحياء لا يأتي إلا بخير" وجاء في رواية لمسلم أنه قال: "الحياء خيرٌ كله"، أو قال: "الحياء كله خير". والأحاديث في هذا المعنى كثيرة عديدة.
وقد جاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام- ما يدل على أن الحياء خلة كريمة، وخصلة عظيمة، يحبها الله -تبارك وتعالى- من عباده، كما جاء في حديث أشج عبد القيس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن فيك لخصلتين أو خلتين يحبهما الله: الحلم والحياء".
عباد الله: وأعظم الحياء شأنًا وأعلاه مكانة، وأولاه بالعناية والاهتمام: الحياء من الله -تبارك وتعالى-، الحياء من الله -جلّ وعلا-، الحياء من خالق الخليقة، ومُوجِدِ البرية، الحياء ممن يراك أينما تكون، ولا تخفى عليه منك خافية: (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) [العلق:14] (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [البقرة:265] الحياء من الله المطلعِ على سرك وعلانيتك، وغيبك وشهادتك، الذي لا تخفى عليه منك خافية.
الحياء من الله تعالى خلقٌ كريم، وخصلة عظيمة، تنشأ عن أمور ثلاثة:
الأول منها: رؤية نعمة الله -تبارك وتعالى- عليك ومنته وفضله.
والثاني: رؤيتك تقصيرَك في حقه وقيامك بما يجب لك عليه –سبحانه- من امتثال المأمور وترك المحظور.
والأمر الثالث: أن تعلم أنه -تبارك وتعالى- مطلع عليك في كل حال، وفي أي وقت من الأوقات، وأينما تكون، فهو لا تخفى عليه منك خافية، فإذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة في القلب تحرك في القلب حياء من الله، حياء عظيم من الله -تبارك وتعالى-، ثم عن هذا الحياء ينشأ كل خير وكلُّ فضيلة؛ كما قال نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "الحياء لا يأتي إلا بخير".
فإذا وجد في القلب الحياء من الله -جلّ وعلا-، انكفَّت النفس عن الأخلاق الرذيلة، والمعاملات السيئة، والأفعال المحرمة، وأقبلت النفس على فعل الواجبات، والعناية بمكارم الأخلاق، وعظيم الآداب وجميلها، الحياء من الله -عباد الله- ليست كلمةً يقولها المرء بلسانه، وإنما هو حقيقة تقوم في قلب العبد، فتبعث فيه فعل الخيرات واجتناب المنكرات، ومراقبة رب الأرض والسماوات، في كل الأحايين وجميع الأوقات.
وتأملوا -رعاكم الله- هذا الحديث العظيم الذي يجلي لنا هذه الحقيقة، ويبين لنا هذا المقصد الجليل؛ روى الإمام الترمذي في جامعه عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود الهذلي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "استحيوا من الله حق الحياء" قال: قلنا: يا رسول الله: إنا لنستحيي والحمد لله، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله: أن تحفظ الرأس وما وعى، وأن تحفظ البطن وما حوى، وأن تذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء" وهو حديث حسن بما له من الشواهد.
عباد الله: الحياء من الله خلق يقوم في قلب العبد، يستدعي فيه أمورًا عديدة، منها قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أن تحفظ الرأس وما وعى" فالرأس -عباد الله- فيه السمع والبصر واللسان، وفيه الشم وفيه حواس العبد أو جملة من حواسه، ومطلوب من العبد إذا كان يستحيي من الله أن يحفظ جميع الرأس وما حواه: أن يحفظ سمعه، فلا يسمع به ما يسخط الله حياءً من الله وأن يحفظ بصره، فلا ينظر به إلى ما يغضب الله حياءً من الله -تبارك وتعالى-، وأن يحفظ لسانه، فلا يتكلم به بما يسخط الله حياءً من الله -تبارك وتعالى-، ومن الحياء أن تحفظ البطن وما حوى، ومن أعظم ما حواه البطن القلب فقلبك -عبدَ الله- أعظم ما ينبغي أن تحقق فيه الحياء من الله، بل هو موطن الحياء، ومنبع الحياء، وأساس الحياء، وإذا تحقق في القلب الحياء من الله، صلحت الجوارح كلها، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
ومن تحقيق الحياء من الله -عز وجل- أن لا يشتغل العبد بفتن الدنيا ومغرياتها وملهياتها، بل يتذكر أنه سيلقى الله، وأنه سيغادر هذه الحياة، وأنه سيُدرَجُ يومًا من الأيام في قبر، وحيدًا ليس معه إلا عمله الصالح.
"وأن تذكر الموت والبلى": إذا تذكرت أنك ستموت، وأنك ستَبلَى، وأنك ستقف أمام الله، وأن الله -جلَّ وعلا- سيسألك عما قدمت في هذه الحياة، فكل هذه الأمور روافد عظيمة، ودوافع كريمة لتحقيق الحياء من الله -تبارك وتعالى-، ويعينك على تحقيق الحياء أن يكون دائمًا نصب عينيك الدارُ الآخرة، وما أعد الله -تبارك وتعالى- فيها من نعيم أو عذاب قال -صلى الله عليه وسلم-: "ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا" أن تكون مريدًا بأعمالك وجه الله -جلّ وعلا- والدار الآخرة، فيتحرك فيك أعمال صالحات، وطاعات زاكيات، وأخلاق فاضلات، تستمر عليها في هذه الحياة، قال الله تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء:19].
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العليا، وبأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت، يا من وسعت كل شيء رحمة وعلمًا، أن تجعلنا أجمعين من الذين يستحيون منك حقَّ الحياء، اللهم اجعلنا أجمعين من الذين يستحون منك حق الحياء، اللهم اجعلنا أجمعين من الذين يستحون منك حق الحياء، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
عباد الله: وعندما يُنْزَع الحياء من العبد -عياذًا بالله- فلا تسأل عن هلكته واجتماع أنواع الشرور فيه؛ فقد جاء عن نبينا -عليه الصلاة والسلام- الإخبارُ، بأن من الأمور التي كانت متوارثة في قديم الزمان، مسموعة من الأنبياء في اختلاف الأوان: "إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت"، ففي الصحيح عن نبينا -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت".
وهذا الحديث العظيم -عباد الله- يدل دلالة واضحة على أن من نزع منه الحياء -والعياذ بالله- فإنه لا يبالي في أيّ الشرور فعل، وفي أيّ الآثام والمعاصي باشر ووقع، وذلك لانتزاع الحياء من قلبه، وذهابه من نفسه، فهو لا يستحيي من الله -جلّ وعلا-، فلا يبالي بالذنوب، ولا يبالي بغشيان المعاصي والآثام فتتنقل به نفسه الردية وقلبه الممرض الذي لا يستحيي من الله، يتنقل به في أودية الهلكة واديًا تلو الآخر، حتى يلقى الله -جلّ وعلا- ويقف بين يديه وقد أهلكته الذنوب، وأوبقته الخطايا والواجب علينا -عباد الله- أن نتدارك أنفسنا مادمنا في ميدان الحياة ودار العمل نتدارك أنفسنا بالحياء ممن خلقنا وأوجدنا، وتفضّل علينا بصنوف النعم وأنواع المنن، ومع ذلك فلا نزال نقصر في جنابه وفي تحقيق الواجب نحوه، مع علمنا بأنه -تبارك وتعالى- يرانا ويطلع علينا، ولا تخفى عليه منا خافية.
عباد الله: إن الكَيِّس من عباد الله مَنْ دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، واعلموا -رحمكم الله- أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وعليكم -عباد الله- بالجماعة؛ فإن يد الله مع الجماعة.
وصلوا وسلموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا"
للهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان ذي النورين، وأبي الحسنين علي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إنا نسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يقربنا إلى حبك اللهم أصلح ذات بيننا، وألف بين قلوبنا، واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وأموالنا وأولادنا وأوقاتنا، واجعلنا مباركين أينما كنا.
اللهم يا ذا الجلال والإكرام، نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العظام، أن تجعلنا ممن يستحون منك حق الحياء اللهم حقق فينا الحياء منك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وأعنا على طاعتك، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم واغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا أنت المقدم والمؤخر، لا إله إلا أنت، اللهم اغفر لنا ذنبنا كله: دقه وجله، أوله وآخره، سرَّه وعلنه، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار) [البقرة:201].
عباد الله: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر لله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
التعليقات