اقتباس
طلب إبراهيم من الله أن يُريَه شعائر دينه، فأمره أن يؤذن بالحج، فأذَّن وحجَّ هو وإسماعيل، ومن تبعهما من المؤمنين من جُرْهم سكان الحرم ومَن استجاب لدعوته من الناس، فعلّمهم إبراهيم شعائر الحج، وهي لا تخرج عما عليه اليوم.
كثُر النَّوع الإنساني في زَمَنِ إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وفَشَت بينهم عبادة الأصنام والأوثان، حتى هَاجَر إبراهيم من وطن آبائه وأجداده، وقال: إنِّي مُهاجر إلى ربي سَيَهْدين.
فكان من هدايته له أن يُسكن زوجَه وابنه منها إسماعيل باديةَ الحجاز بعيداً عن الناس ليُكوّن أسرة مُوحِّدة تَعبد الله وحدَه لا شريك له.
أخذ إبراهيم ولده إسماعيل وأُمَّه هاجر، وسارَ بهم حتى استقرَّ في مكان مكة قبل بنائها، وقد كان خالياً من الإنسان والحيوان لا نَبَات فيه ولا ماء، وترك إبراهيم ولده وزوجه في ذلك المكان المُقْفِر في حماية الله وكَنَفه، فأوجدَ الله لهم ما به الحياة وهو الماء. وسرعان ما تكونت مجموعة من الإنسان، وبدأ هذا المكان المُقْفر ينبت ويعمر.
شبَّ إسماعيل وأصبح صالحاً لما أعدَّه الله له، فأمِر إبراهيم بالعودة إلى الحجاز، وهناك يقيم بيتاً محجوجاً، تجتمع حوله الناس لعبادة الله وحده، ويذكرونه شاكرين على ما أنعم عليهم، مُتعارفين مُتعاونين.
أعلمَ إبراهيمُ ابنه إسماعيل بما عزم عليه من بناء البيت، فأخذ يُعدّ العدة لذلك، ويقيم مع أبيه تلك البَنيَّة المُحرَّمة التي ستكون قِبلة المسلمين في مشارق الأرض ومَغَاربها.
ذكر الله ذلك الحادث لعباده مُذكِّراً بنعمته عليهم، وفضل إبراهيم وابنه إسماعيل: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) [البقرة: 127-129].
أتمَّ إبراهيمُ البناء مع ابنه إسماعيل، وأصبح مُعدَّاً لما أُريد به، فأمر الله إبراهيم وإسماعيل أن يُحافظا عليه، ويبعدا عنه كل رجس: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [الحج:26].
فهو أوَّل بيت وضع للناس كما يقول الله: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) [آل عمران:96].
ولما رأى إبراهيم في مكة من الجفاف والقَحْط، طلب من ربه الرزق لسكان هذه البقعة: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ ) [البقرة:126].
طلب إبراهيم الرزق من ربه لمن آمن بالله واليوم الآخر، ولكن قد كفل الله الرزق للمؤمن والكافر، فقال الله لإبراهيم: (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ المَصِيرُ) [البقرة:126].
رأى إبراهيم عبادة الأصنام مُنتشرة في بلاده، وهي سبب هِجْرته إلى أرض غُربته، فطلب من الله حمايته وذُرِّيَّتَه من هذا الداء الوبيل: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ). [إبراهيم: 35-36].
ثم يُكرِّر الدعاء إلى الله ويطلب منه أن يجعل هذا البلد آمناً تجلب إليه الأرزاق والثمرات: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم:37].
تقبَّل الله دعاء إبراهيم، وجعل الناس تَفِد إلى مكة المكرمة طائعة مُخْتارة، ففرض الحج إلى بيته ليذهب الناس إلى مكة، ومعهم ما يوسِّع على أهلها، فقال الله لإبراهيم: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج:27].
طلب إبراهيم من الله أن يُريَه شعائر دينه، فأمره أن يؤذن بالحج، فأذَّن وحجَّ هو وإسماعيل، ومن تبعهما من المؤمنين من جُرْهم سكان الحرم ومَن استجاب لدعوته من الناس، فعلّمهم إبراهيم شعائر الحج، وهي لا تخرج عما عليه اليوم.
مات إبراهيم عليه السلام وتبعه إسماعيل، وطال زمن الفترة، فأدخل الناس في أمور الحج أشياء مُنْكرَة، ورجع الشرك، فصوّروا الأصنام، كما صوَّروا بعض الأنام، حتى صوَّروا إبراهيم يستقسم بالأزلام، وبُعث محمد -صلى الله عليه وسلم- والشرك منتشر في جزيرة العرب، وأقام في مكة ما أقام، ولم يُغيِّر شيئاً من أمور الحج، ولا ما في البيت من أصنام، لأنَّه ما كان يقوى على ذلك والأمر بيد قريش يومئذ، وكانت العرب تحج البيت في كل عام، غير أنهم غيَّروا وبدلوا حتى في الزمان، فكان الحج يقع في غير أيامه التي حُددت بأمر الله تعالى، وكان محمد يحجُّ ويعرض نفسه على حجاج بيت الله عسى أن يستجيبوا إلى داعي الحق، إلى أن وفَّق الله نَفَراً من الأوس والخزرج سكان المدينة، فبايعوا الرسول، وهاجرَ إليهم سراً، ولما نزل المدينة أخذ أمر الدين يقوى سنة بعد أخرى.
علمنا من الإلمامة البسيطة التي ذكرنها أنَّ إبراهيم -عليه السلام- طلب من ربه أن يرزق ذريته التي أسكنها بجوار بيته، وأن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، فأجاب الله دعوته وتقبل طلبته، فقال الله: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ) [الحج:27]. فالحج كان معروفاً عند العرب، من وقت إبراهيم إلى أن بعث محمد صلى الله عليه وسلم.
متى فرض الحج على هذه الأمة؟
عندما قوي أمر الإسلام، فرض الله الحج على المسلمين إحياءً لسنة إبراهيم -عليه السلام-، ولما فيه من النفع لهم، شأن كل فريضة فرضها الله تعالى على عباده، ورجَّح العلماء أنَّ فرض الحج كان في سنة ست من الهجرة ولكن لعدم استطاعة المسلمين الحج ومكة في أيدي المشركين، لم يحجوا إلى أن فتحت مكة في رمضان في السنة الثامنة من الهجرة، ولما استقرَّ الأمر فيها رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمن معه إلى دار هجرته، وولَّى أمر مكة عتَّاب بن أَسِيد بن أبي العيص ابن أمية، وجعل معه معاذ بن جبل ليُعلِّم الناس الفرائض والسنن، إلى أن كانت سنة تسع وقيل هي التي فرض فيها الحج، حج أبو بكر بالناس بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فُرض الحج بنص القرآن، جاء في سورة آل عمران: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ) [آل عمران: 96-97].
وبيَّن الله سبحانه وقت الحج وآداب الحاج، جاء في سورة البقرة: (الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ) [البقرة:197].
وقد ورد ذكر الحج في كثير من آي القرآن؛ وكانت فريضة الحج هي آخر ركن من أركان الإسلام، فبعث النبي أبا بكر ليحج بالناس في سنة تسع، وكانت العرب على ما هم عليه من أمور الحج، ويذهب إليها المشركون، ويطوف بالبيت العُراة على عادة العرب في ذلك.
خرج أبو بكر مع المسلمين إلى مكة المكرمة، وبعد خروجه نزل القرآن بنقض ما بين الرسول والمشركين من عهد عام: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ) [التوبة:1].
فأمر النبي علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن يَلحق أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- بهذه القصة من صدر براءة، وأن يؤذّن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى: أن لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عهد فهو إلى مُدَّتِه.
فخرج عليّ على ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العَضْباء حتى أدرك أبا بكر في ذي الحُلَيفة، ولما رآه أبو بكر قال له: أأمير أنت أم مأمور؟ قال: بل مأمور، ثم مَضَى معه، وأقام أبو بكر للناس الحج، والعربُ إذ ذاك على منازلهم في الحج التي كانوا عليها في الجاهلية حتى إذا كان يوم النحر أذَّن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الناس بالذي أمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبذلك بَطَلت أمورُ الجاهلية في الحج، وتَقَرَّرَ نظام الإسلام فلا يحج مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) [التوبة:28].
طهرت مكة من شعائر الشرك ومن أمور الجاهلية، وعَلِمَت العرب كافَّة أنَّه لا يدخل مكة مشرك بعد عامهم هذا، ولم تجئ السنة العاشرة من الهجرة إلا وأَمْرُ الإسلام قد كَمُل، وتمَّ بناؤه بفرض الحج: "بني الإسلام على خمس". فحجَّ رسول الله في تلك السنة، ونزل عليه قوله تعالى في يوم الجمعة بعد العصر وهو واقف بعرفات على ناقته: (اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة:3].
كمل الدين حيث تمَّ الركن الخامس، وانتهى أمر الشرك، واختفت أمور الجاهلية، وكانت الدورة الزمنيَّة رجعت إلى أصلها، فقد كانت العرب في حياتها الأولى تجري على سنَّة إبراهيم وإسماعيل في الحج إلى أن جاورتهم اليهود في يثرب فتعلموا منهم كبس السنة ليكون حجهم في وقت من السنة في أسهلها، وقد كانوا يُحرِّمون شهراً مكان شهر، أو يزيدون السنة شهراً، ولذلك نصَّ على عدد الأشهر في الكتاب والسنة، وكان يختلف في وقت الحج عن موعده المُحدَّد له من عند الله، وقد كان في السنة التي حجَّ فيها أبو بكر في ذي القعدة، وفي حجَّة الوداع التي حجَّها الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وودَّع الناس فيها في ذي الحجة، على ما كان عليه في عهد إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام-.
وقد أشار إلى ذلك في خُطبته -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا إنَّ الزمان قد استدار كهيئته يومَ خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، أربعة حُرُم، ثلاث مُتواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان".
علَّم الرسول الكريم في حجته هذه المسلمين شعائر الحج وأحيا سنَّة أبيه إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فكم في الحج من ذكريات تَعود إلى آلاف السنين.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
المصدر: مجلة لواء الإسلام العدد الرابع من السنة الثانية ذو الحجة 1367هـ=1948م.
التعليقات