الحج امتداد الحاضر بالماضي

عبدالله محمد الطوالة

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/من معاني ومقاصد الحج 2/بداية الحج من عهد إبراهيم -عليه السلام- 3/فضل العشر من ذي الحجة 4/الحث على الإكثار من ذكر الله فيها 4/ما يستحب فعله في هذه الأيام 5/الأضحية وبعص أحكامها

اقتباس

أوليس من أشدِّ العجب -يا عباد الله- أن يأتيَ الحجاج من أقاصي الدنيا وأطرافها النائية، يتركون بلادهم ذات الطبيعة الساحرة، والمناظر الخلابة، والجو العليل، يقطعون مسافات هائلة، ويتكبدون مشاق كثيرة، ويبذلون الغالي والنفيس، تتقطع نفوسهم شوقًا...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمدُ للهِ الملكِ العظيمِ الجليلِ، الخالقِ الرازقِ الجميلِ، أنزل التنزيل، ونصبَ الدليلَ، وأنارَ السبيلَ؛ (فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)[الزمر: 41], وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريك له، أفاضَ على عباده النِّعْمةَ، وكتبَ على نفسهِ الرَّحمةَ، وأجزَل لأمة الإسلام القسمة؛ (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ)[الرعد: 41], وأشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولهُ، ومصطفاه وخليله، أرســلهُ اللهُ رحـمـةً للعـالمينَ، وإمامـًا للمتقينَ، وقـدوةً للعـامِلينَ، فجاهدَ في الله حتى أتاهُ اليقينَ، اللهم -صلى الله عليه وسلم- وعلى آلهِ الطيبينَ، وصحابتهِ الغُرِّ الميامينَ، والتابعينَ وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا، أمَّا بعدُ:

 

فيا أيُّها المسلمون: اتقوا اللهَ حقَّ تقاتهِ؛ فإنَّ في تقواهُ -عزَّ وجلَّ- العصمةُ من الضلالةِ، والسلامةُ من الغوايةِ، والنجاةَ من المهالكِ، والفوز في الدنيا والآخرة؛ (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ)[غافر: 39، 40].

 

معاشر المؤمنين الكرام: الحجُّ قصدُ بيت الله الحرامِ وزيارته لأداءِ المناسِكِ، والحجُّ تزكيةٌ للنَّفسِ، وتربيةٌ لها على الطَّاعةِ والتسليم, الحجُّ تلبيةٌ لذلك النداء الخالد: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)[الحج: 27]، واستجابةٌ لتلك الدعوة الخالصة: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ)[إبراهيم: 37].

 

الحجُّ شعائرُ جليلة، ومشاعر جميلة، رحلةٌ عتيدة، وذكرياتٌ مجيدة، بدأت من قول إبراهيم -عليه السلام-: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)[إبراهيم: 37]، فبأمرٍ من الله -تبارك وتعالى- يترك إبراهيم -عليه السلام- ابنه الرضيع مع أمه هاجر، وحيدين وسط تلك الجبال المقفرة، وفي ذلك الوادي الموحش، بلا مأوى ولا معين، وليس معهما إلا سِقاءٌ فيه ماءٌ قليل، وجرابٌ فيه شيءٌ من طعام، ثم يمضي الخليل عائدًا لا يلوي على شيء، وتلحقه هاجر -عليها السلام- فلا يتوقف، تسأله فلا يجيب، تناديه فلا يلتفت، تناشده فلا يرد، فتتعلق بِه قائلة: "يَا إبراهيمُ إلى أينَ تذهبُ؟! لمن تدعُنَا؟!"، وحين أيست أن يردَّ عليها، قالت: "آلله أمرك بهذا؟"، فأشار بنعم، فقالت في ثباتٍ ويقين: "إذًا لا يضيعنا".

 

لا إله إلا الله! ما أقوى الإيمان, وما أعظم التسليم!, امرأةٌ وحيدة ومعها رضيعها فِي مكانٍ موحش مُقفر, لا أنيس ولَا حسيس، لا طعام ولَا ماءٌ، ويذعِنُ الجميع لأمرِ الله -جلَّ وعلا-، ويستسلمون لحكمه، فيا له من إيمانٍ عميقٍ، وتسليمٍ مطلق، وثقةٍ عجيبة!، وسَرعان ما ينفَد الطعام والماءُ، ويبدأ الرضيع بالبكاء، يتلوَّى منَ العطشِ والجوع، فتتركه أمُّه في مكانه, وتذهب هائمةً، تُهرول هنا وهناك، تستطلع المكانِ وتبحثُ عن مُغيث، صعدت الصفَا وهو أقرب مرتفعٍ إليها، تنظرُ فِي الأفقِ، فلم تَر أحدًا، فنزلت منه حتَّى إذَا بلغتْ وسط الوادِي أسرعتْ بكل ما فيها من الجهد، تسابق الزمنَ, حتى صعدت المروة، تنظر من الجهة الأخرى، فلم ترَ أحدًا، فعادت أدراجها إلى الصفَا، يحدوها أملٌ يتجدد، كلما صعدت جبلًا أسرعت نحو الآخر، فعلتْ ذلكَ سبعَ مراتٍ, قالَ النبيُّ الكريم -صلى الله عليه وسلم-: "فذلكَ سعَيُ الناسُ بينهمَا".

 

فلما أيست أن ترى أحدًا رفعت يديها نحو السماء تدعو دعاء المضطر، فإذَا بهَا تسمعُ صوتًا، فقالتْ لنفسها صهٍ, وأخذت تتسمع، فلما تأكدت أنها سمعت صوتًا، قالت: "قدْ أسمعتَ، إنْ كانَ عندكَ غوثٌ فأغِث"، فلما نظرت جهة وليدها إذَا بالملكِ واقفٌ عندَه، وإذا بالماء المبارك يسيل غزيرًا، فأسرعت تحوط الماء بالرملِ وتمنعه من الجريان، وتملأُ منهُ سقاءهَا، قال -صلى الله عليه وسلم-: "رحمَ اللهُ هاجرَ لوْ تركتهَا كانتْ عينًا معينًا".

 

إنها -يا عباد الله- عاقبةُ الصبرِ واليقينِ, وحُسن التسليم لأمر الله؛ (رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)[هود: 73]، ومَا إنْ انتهى هذا الابتلاءُ العظيم، حتَّى بدأَ ابتلاءٌ آخر أقوَى وأعجب منَ الأولِ.

 

فحين كبرَ إسماعيلُ قليلًا، وصارَ ولدًا بارًا يعينُ أباه علَى مصالحِةِ، إذا بالوالد يرى في منامهِ أنهُ يذبحُ ولدهُ، ورؤيَا الأنبياءِ حقٌّ, فيا له من ابتلاءٍ شديد، قالَ -تعالَى-: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى)[الصافات: 102]، ووالله لو طُلب منهُ أن يُوكلَ الأمرُ إلى شخصٍ آخرَ لكان أهون، أمَّا أن يُطلب منهُ أنْ يتولَّى أمر الذبحِ بنفسهِ، فما أشدَّهُ من بلاء، ومعَ ذلكَ فقد تلقى الأمر بكلِّ رضا وتسليمٍ، وبدون أدنى ترددٍ، ولم يكن الابن أقل تسليمًا، فها هو يُصبِّر أباه ويؤيده في تنفيذ الأمر بلا تردُّد: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)[الصافات: 102]، ويستسلم الجميعُ لأمرِ الله ومشيئته؛ (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)[الصافات: 103 - 105].

 

تأمل المشهد: أبٌ والِهٌ حنون, يحمل سكينًا ليذبح ولده الوحيد الذي جاءه على كِبرٍ, وتعلق به قلبه، يضطجعُ الابن على بطنه؛ لكيلا يرى الأبُ وجهَهُ فيرقَّ قلبه، يستسلم الاثنان لأمر الله ويمرِّر الأب السكين على عنق الابن بقوة ليحزَّ رقبته، لكن السكين لم تقطع، فقد منعتها رحمة اللهِ وقدرته، ألم يمنع البحرُ أن يُغرق موسَى -عليه السلام- وهو رضيع؟، ألم يمنع النارُ أن تُحرق الخليل وقد أُلقي فيها؟، فقد منع السكين أن تقطع، والله على كل شيء قدير.

 

لقد نجح الخليل في الامتحان, ففدى اللهُ الابن بذبحٍ عظيمٍ؛ لتكون بعدها سنةُ الأضاحِي منسكًا وسنةً باقيةً إلَى يومِ الدينِ، تُذكِّرُ بالتسليم والاستسلام لرب العالمين، ولتعرفَ الأمة تضحية أبيهَا إبراهيمَ، ولِمَ سُميَ بالخليل، ولتعرف برَّ إسماعيل -عليه السلام- ولِمَ كان عند ربه مرضيًّا.

 

ثم تأمَّل -يا رعاك الله- هذا القاسم المشترك الجميل بين مناسك الحج، وبين ما حدث لتلك الأسرة المباركة، وهو التسليم والانقياد لله ربِّ العالمين، فمنذ أن يدخل الحاج في النسك إلا وهو يعلن تمام التسليم لربه، ثم تراه في كل مشعرٍ ومنسكٍ ذاكرًا موحدًا، يقتفي أثر الخليلين في كل مشعرٍ ومنسك؛ ليحقق التوحيد، ويسلُّم أمره كله لله، ودون أن يكون في صدره أدنى حرجٍ مما أُمر به.

 

أوليس من أشدِّ العجب -يا عباد الله- أن يأتيَ الحجاج من أقاصي الدنيا وأطرافها النائية، يتركون بلادهم ذات الطبيعة الساحرة، والمناظر الخلابة، والجو العليل، يقطعون مسافات هائلة، ويتكبدون مشاق كثيرة، ويبذلون الغالي والنفيس، تتقطع نفوسهم شوقًا ورغبة إلى بلادٍ ذات طبيعةٍ قاسية، وحرارةٍ مرتفعة، جبال سوداء، وأرض قاحلة جرداء، وأودية مقفرة، لا زرع فيها ولا ماء، فإذا بدؤوا في أداء المناسك، رأيتهم في قمة السعادة والرضا، يترقبون بكل شوقٍ ولهفة الانتقال من شعيرة إلى أخرى، وحين يسألون عن مشاعرهم، ترى دموعهم تسابق عباراتهم، وتراهم يستعذبون التعب، ولا يبالون بالمشقة ولا بشدة الحرِّ!.

 

يقول لإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "وأما الحجُّ فشأنٌ آخر, لا يدركه إلا الحنفاء الذين ضربوا في المحبة بسهم، وشأنه أجلُّ وأعظمُ من أن تحيطَ به العبارة، فهو مؤَسَّسٌ على التوحيد المحض، والمحبة الخالصة، وهو استزارة المحبوب لأحبابه، ودعوتهم إلي بيته ومحلِّ كرامته، فهو إجابةُ محبٍّ لدعوة حبيبه", ويقول العلامة ولي الله الدهلوي: "وربما يشتاقُ الإنسانُ إلى ربه أشدَّ الشوقِ، فيحتاجُ إلى شيءٍ يقضي به شوقه فلا يجدُ إلا الحج؛ ولذا قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب, كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة".

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)[الحج: 27 - 29].

 

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامًا على عباده اللذين اصطفى.

 

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وكونوا مع الصادقين، وكونوا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

 

معاشر المؤمنين الكرام: هذه الأيام المباركة، هي أفضلَ أيامِ الدنيا، جاء في الحديث الصحيح قال -صلى الله عليه وسلم-: "أفضلُ أيامِ الدُّنيا أيامُ العشرِ"، أيامٌ فاضلةٌ، وموسمٌ مباركٌ، وأوقاتٌ نفيسةٌ معظَّمة، بل هي أعظمُ الأيام عند الله فضلًا، وأكثرُها أجرًا، وأحبهَا إليهِ عملًا، ففي الحديث الصحيح: "ما مِن أيَّامٍ العملُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام"، وفي صحيح البخاري قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما من عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ الله -عزَّ وجلَّ- ولا أَعْظَمَ أَجْرًا من خَيْرٍ يعملهُ في عَشْرِ الْأَضْحَى"، قِيلَ: ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله؟ قال: "ولا الْجِهَادُ في سَبِيلِ الله -عز وجلَّ- إلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ, فلم يَرْجِعْ من ذلك بِشَيْءٍ".

 

عشرٌ مباركات، كثيرةٌ الخيرات، مُتعددةُ الفضائل والمميزات، أقسمَ الله بها فقال: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ)[الفجر: 2]، واللهُ لا يُقسمُ إلا بعظيمٍ، وتجتمعُ العبادات فيها ولا تجتمعُ في غيرها، وهي أحب الأيام إلى الله -تعالى-، والعملَ الصالح فيها أحب إليه من العمل في غيرها، وفيها يومُ عرفةَ، يومُ الحجِّ الأعظم، ما رئي الشيطانُ أصغرَ ولا أحقرَ ولا أدحرَ مِنهُ في ذلك؛ لما يَرَى من كثرة تنَزُّلِ الرحمات، كما أنَّ صَومهُ لغير الحاجِّ يُكفرُ ذنوبَ سنتين، وفيها يومُ النَّحرِ، يوم العيد الأكبر، وهو أفضلُ الأيام كما في الحديث، وفيه مُعظمُ أعمالِ الحجِّ.

 

فهي إذًا أيامٌ مُباركات، تتنوعُ فيها الفضائلُ والخيرات، وتتضاعفُ فيها الأجورُ والحسنات، وتزدادُ فيها النفحاتُ والرحمات، فحريٌّ بالمسلم أن يستقبلها بتوبةٍ صادقةٍ نصوح، وأن يعزمَ على اغتنامها, وأن يحرص على الإكثار من الأعمال الصالحةِ فيها.

 

وأما أفضلُ ما يُعملُ في هذه الأيام المباركة، فهو الإكثارُ من الذكر، ففي الحديث الصحيح: "فأكثروا فيهنَّ من التهليلِ والتكبيرِ والتحميد"، والذكرُ هو أيسرُ العبادات وأسهلها، وأجلُّها وأفضلُها، قال -تعالى-: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ)[العنكبوت: 45]، وفي الحديث المشهور: "أَلَا أُنَبِّئُكم بِخَيْرِ أعمالِكُم، وأَزْكاها عِندَ مَلِيكِكُم، وأَرفعِها في دَرَجاتِكُم، وخيرٌ لكم من إِنْفاقِ الذَّهَب والوَرِقِ، وخيرٌ لكم من أن تَلْقَوا عَدُوَّكم، فتَضْرِبوا أعناقَهُم، ويَضْرِبوا أعْناقكُم؟"، قالوا: بَلَى، قال: "ذِكْرُ اللهِ".

 

ذِكرُ اللهِ -جلَّ وعلا- هو رأسُ الشكر، وجِلاءُ الغفلة، وعنوانُ المحبة، وغِراسُ الجنة، وسببُ تنزُّلِ السكينةِ، وغِشيانُ الرحمةِ، وحُفوفُ الملائكة، وذِكرُ الله للذاكر: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)[البقرة: 152]، إلى غير ذلك من الفضائل العظيمة.

 

كما أنَّ من أفضلِ الأعمالِ المشروعة في هذه العشرِ المباركة المحافظةَ على السنن الرواتبِ القَبليةِ والبعدية، والإكثار من النوافلِ كصلاة الليلِ والضحى؛ فهي سببٌ مباشرٌ لنيل محبةِ اللهِ ورضوانه، وكذلك الإكثارُ من الصدقة؛ فالصدقةُ في هذه الأيامِ أفضلُ من الصدقةِ في رمضان.

 

ومن أفضل الأعمال المشروعة في هذه الأيام: الصيام؛ فمن صامَ يومًا في سبيل اللهِ باعدَ اللهُ به بينهُ وبين النار سبعينَ خريفًا، هذا في الأيام العادية، فكيفَ بصيام هذه الأيامِ المباركة؟!.

 

ومِن أعظمِ القُرُباتِ المشروعةِ في خِتام هذه الأيامِ الفاضلة: الأضاحي، ومن أرادَ أن يضحِّيَ عن نفسهِ أو أهلِ بيتهِ ودخلَ شهرُ ذي الحِجَّةِ، فلا يأخُذ مِن شعره وأظفاره أو جِلده شيئًا حتى يذبحَ أضحيتَه؛ لِما روته أمُّ سلمة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا رأيتُم هلالَ ذي الحجة وأرادَ أحدكم أن يضحِّيَ، فلا يأخذ من شعرِه وأظفاره شيئًا حتى يضحي"(رواه مسلم)، وشأنُ الأضحيةِ عظيمٌ، وفضلها كبيرٌ، فقد ثبت أن للمضحي بكلِّ شعرةٍ حسنة، وحذَّر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- القادرَ من تركها، فقال: "من وجدَ سعةً ولم يُضحِّ فلا يقربنَّ مُصلانا".

 

فدونَكم -يا عباد الله- الفضائلَ فاغتنموها، والفرصَ الغاليةَ فاستثمروها، وبادروا بالطاعات، وسابقوا في الخيرات، ونافسوا في المكرمات، (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران: 133، 134].

 

ويا بن آدم: عشْ ما شئت فإنك ميِّت، وأحبِب مَن شئت فإنك مفارقه، واعمَل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يَبلى والذنب لا يُنسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.

 

 

المرفقات
lA4YmRAv9pB5pQcnfysYQdr296jn3pvYWEM7kUU4.pdf
5qYIYiinnc14bODppAR0bxH60H0v5dVZ0Yl5xRI0.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life