عناصر الخطبة
1/جموع الحجيج .. العظات والعبرة 2/التوحيد في الحج 3/فضل الحج المبرور 4/كيف يكون الحج مبرورا؟ 5/آداب يجب أن يراعيها الحاج 6/فضل عشر ذي الحجة 7/الأعمال المشروعة في عشر ذي الحجة 8/الحذر من الغفلة في عشر ذي الحجةاهداف الخطبة
اقتباس
عباد الله: ها هي جموع من الناس تتقاطَرُ إلى بيت العتيق، تهوي إليه أفئدتُهم قبل أجسادِهم، يفِدون إليه رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فجٍّ عميقٍ، ملبِّين ضارعين مكبِّرين مهللين، تلبيةً لدعوة إبراهيمَ -عليه السلام- منذ آلاف الأعوام إلى أن يرث الله الأرضَ ومن عليها. وبنظرةٍ واحدة إلى تلك الجموع المؤمنة، والحجيج الخشَّعِ المتجِّمعين من كل حدبٍ وصوب تتجلى حقيقة، حقيقةُ أنَّ...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْبَرِيَّات، مَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِمَوَاسِمِ الْخَيْرَات، لِيَغْفِرَ لَهُمُ الذُّنُوبَ وَالزَّلات، وَيُجْزِلَ لَهُمْ عَظِيمَ الأَجْرِ وَالْهِبَات، أَشْكُرُهُ -تعالى- وَقَدْ خَصَّ بِالْفَضِيلَةِ أَيَّامَاً مَعْدُودَات، فَالْمُوَفَّقُ مَنِ اغْتَنَمَهَا بِالطَّاعَات، وَالْمَغْبُونُ مَنْ فَرَّطَ وَسَوَّفَ حَتَّى ضَاعَتْ عَلَيْهِ الأَوْقَات.
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، عَلَّمَ الأُمَّةَ مَا يَنفْعُهَا وَوَجَّهَهَا لِصَحِيحِ الْعِبَادَات، صَلِّ الله وَسَلِّمْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين.
أَمَّا بَعْدُ:
فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ، فَهِيَ وَصِيَّةُ اللهِ لِلأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ)[النساء: 131].
عباد الله: ها هي جموع من الناس تتقاطَرُ إلى بيت العتيق، تهوي إليه أفئدتُهم قبل أجسادِهم، يفِدون إليه رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فجٍّ عميقٍ، ملبِّين ضارعين مكبِّرين مهللين، تلبيةً لدعوة إبراهيمَ -عليه السلام- منذ آلاف الأعوام إلى أن يرث الله الأرضَ ومن عليها.
وبنظرةٍ واحدة إلى تلك الجموع المؤمنة، والحجيج الخشَّعِ المتجِّمعين من كل حدبٍ وصوب تتجلى حقيقة، حقيقةُ أنَّ هذه الأمةَ مهما بلغَ الكيد لها والمكر بها فإنها أمةٌ خالدة بخلودِ رسالتها وكتابِها، باقيةٌ ما بقي الليل والنهار، بعز عزيز أو بذل ذليل: "لَبَّيكَ اللَّهُمَّ لَبَّيكَ، لَبَّيكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيكَ، إِنَّ الحَمدَ وَالنِّعمَةَ لَكَ وَالمُلكَ، لا شَرِيكَ لَكَ".
إنها تَّلبِيَةَ يُرَدِّدُها الحَاجُّ مِن حِينِ إِحرَامِهِ إلى أَن يَرمِيَ جمرَةَ العَقَبَةِ، وتَلهَجُ بها الأَلسِنَةُ في مَوَاقِفَ كَثِيرَةٍ، وَلا تَمَلُّ مِن تَردَادِها، وفيها تَذكِيرٌ لِلأُمَّةِ بِأَعظَمِ مَا يجِبُ أَن تَهتَمَّ بِهِ وَتُحَافِظَ عَلَيهِ، وَتَغرِسَهُ في النُّفُوسِ، وَتَبُثَّهُ في الجُمُوعِ، وَتَسِيرَ عَلَيهِ في أَعمَالِها، وَتَستَشعِرَهُ في عِبَادَاتِها، ذَلِكُم هُوَ تَحقِيقُ التَّوحِيدِ للهِ.
أيها الحاج: حين تنطقُ بنداءِ التوحيد: "لبيك اللهم لبيك" فإنَّ الكونَ كلَّه معك يردِّد توحيدَ الخالق ويسبِّح بحمده، تلبِّي الأحجار ويهتف المدر والأشجار، قال صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلمٍ يلبِّي إلاّ لبَّى من عن يمنيه أو عن شماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرضُ من ها هنا وها هنا"[أخرجه الترمذي].
أيها الحاج: يقول النبي –صلى الله عليه وسلم: "الحجُّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"[رواه البخاري ومسلم].
والحجُّ المبرورُ يتطلَّب إخلاصاً لله، فمن خرج من بيته متطلِّعاً إلى المدح والثناء، والسمعةِ والمباهاة، فقد حبط عمله وضلَّ سعيُه، قال تعالى في الحديث القدسي: "من عمل عملا أشرك فيه معيَ غيري تركتُه وشركَه" [أخرجه مسلم].
أيها الحاج: تقام شعائرُ الحجِّ في مشاعر عظيمة، وأماكن لها قدسيتُها، ومن برِّ الحج: احترامُها فضلاً عن الفساد أو مقارفة شيء منها. وإنَّ من الفظاعة وسوء الحال أن يستغلَّ أصحابُ النوايا السيئةِ هذه المناسبةَ العظيمة، ويتدثَّر بقدسيتِها، فيقدَم إلى بلاد الحرمين لممارسةِ نوازِعهم المدمِّرة، في تهريب
السّموم الفتاكة، ونشْر المعتقدات الفاسدة، وترويج الأفكار المضلِّلة، ونهب الأموال، قال تعالى: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج: 25].
من برِّ الحج: الاجتهادُ في موافقته لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما قلَّ أو كثر، وعدم مخالفته لشيء من سنته -عليه الصلاة والسلام-، وقد نُقلت سنته لأمتِه في كلِّ موقف وقول، وكان يقول صلى الله عليه وسلم: "خذُوا عنِّي مناسككم".
والتساهل في السنن قد يؤدِّي إلى التسَاهل في الواجبات والأركان، وقد تتوالى الأخطاءُ التي قد تفسِد الحجَّ أحياناً، والخيرُ كلُّ الخير في تعلُّم هدي الرسول.
ومن برِّ الحجّ: التسليمُ لله، والانقياد لأوامر الله ورسوله، وحسن الاتباع فيما لم يُكشف عن معانيه ولو لم تُعلم الحكمة فيه.
مال الحجّ المبرور يجبُ أن يكون حلالاً طيباً؛ لأنَّ النفقةَ الحرام من موانع الإجابة.
أيها الحاج: أيامُ الحجِّ المبرور تُحيَى بذكر الله، وتُضاء بتلاوةِ آياتِ الله، وتطهَّر بالاستغفار وبذل المعروف والدعوة إلى الله -عز وجل-، فهي تحصّنُ الحجَّ من الآفات المهلِكة، ولصوصِ الحسنات، وتزيد الحجَّ برًّا، فالأيامُ فاضلة، وتلك البقاع مفضَّلة، وفيها تتضاعف الأجور، فسمة الحاجِّ في هذه البقاع العظيمة السكينةُ والطمأنينة وسلوكُ أدبِ هذه الشعيرة بخفض الصوت وعدم الإزعاج وأذية المسلمين، والهدوء في العبادة والدعاء، ومن رام حجاً مبروراً امتثلَ قولَه صلى الله عليه وسلم: "من حجَّ لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدتْه أمّه"[رواه البخاري].
عباد الله: من تطلَّع إلى حجّ مبرور أدَّب جوارحَه فلا تنظر العين نظرة فاحشة، ولا ينطِق اللسان بألفاظ طائشة، ولا تمتدّ اليد بأذًى إلى أحد، ولا ينطوي القلبُ على بغضاء أو حسد.
حجّ مبرور يوقَّر فيه الكبير، ويُرحم الصغير، ويُواسي الضعيف، ويحافَظ فيه على نظافة البدن والثوب والمكان، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهّرِينَ) [البقرة: 222].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وفَّق من شاء إلى حجِّ بيته الحرام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام.
أما بعد:
فلله -تعالى- في بعض الأيّام المباركة نفحاتٌ ينالها الموفَّقون من عباد الله، ومن تلك الأيام أيامُ عشر ذي الحجة، روى ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما العملُ في أيامٍ أفضَل منها في هذه" قالوا: ولا الجهاد؟ قال: "ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطرُ بنفسه وماله فلم يرجع بشيء"[أخرجه البخاري].
وكان السلفُ إذا دخلت أيامُ العشر من ذي الحجّة يجدّون في البرّ والطاعة، ويكثرون من الذكر والدعاء وتعظيم الله.
ومما هو مشروع في هذه الأيام: الإكثار من صلاة النافلة، والتهليلِ والتكبير والتحميد، وقراءة القرآن والصدقة على الفقراء والمساكين، وإغاثة الملهوفين، وبرّ الوالدين، وقيام الليل، وغير ذلك من الأعمال الصالحة.
ومن ذلك: صومُ غير الحاجّ ما تيسر له من أيام العشر، خاصة يوم عرفة لما في صحيح مسلم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أحتسب على الله أن يكفِّر السنةَ التي قبله والسنة التي بعده".
ومما يشرع: إعدادُ الأضحية، ومن أراد أن يضحِّي ودخل شهر ذو الحجة فلا يحلّ له أن يأخذ شيئاً من شعره أو أظفاره حتى يذبحَ أضحيتَه، ففي صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحّي فليمسِك عن شعره وأظفاره".
والأمر للوجوب، والحكم متعلق بالمضحي، سواء وكَّل غيره أم لا، والوكيل لا يتعلق به نهي.
والحكم أيضًا خاصّ بصاحب الأضحية، ولا يعمّ الزوجة والأولاد؛ لأن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كان يضحي عن آل محمد، ولم ينقل أنه نهاهم عن الأخذ.
ومن أخذ من شعره أو ظفره أول العشر لعدم إرادته الأضحية ثم أرادها في أثنائها أمسك من حين الإرادة، وإن حلق أو قلَّم أظافره ناسيًا فلا شيء عليه؛ لأن الله تجاوز عن الناسي، ولو تعمد إنسان وأخذ فعليه أن يستغفر الله، ولا فدية عليه، ولا حرج في غَسل الرأس للرجل والمرأة أيام العشر؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما نهى عن الأخذ.
عباد الله: الغنيمة الغنيمة، بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة، فما منها عوض ولا لها قيمة.
المبادرة المبادرة بالعمل، قبل هجوم الأجل، وقبل أن يندم المفرط على ما فعل، قبل أن يسأل الرجعة ليعمل صالحاً فلا يجاب إلى ما سأل، قبل أن يحول الموت بين المؤمل وبلوغ الأمل، قبل أن يصير المرءُ مرتهناً في حفرته بما قدم من عمل.
قطعت شهور العام سهوًا وغفلة *** ولم تحترم فيما أتيت المحرَّما
فلا رجبًا وافيت فيه بحقه *** ولا صمتَ شهر الصوم شهرًا متمَّمًا
ولافي ليالي عشر ذي الحجة الذي *** مضى كنت قوّامًا ولا كنت محرِمًا
فهل لك أن تمحو الذنوب بعبرة *** وتبكي عليها حسرةً وتندُّما
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
اللهم وفقنا في هذه الأيام إلى أحسن العبادة وأحسن العمل وأحسن الدعاء.
اللهم أرنا الحق حقًّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم يسر للحجيج حجهم، وأعنا وإياهم على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك، واجعلنا جميعًا من المقبولين.
اللهم سلِّم الحُجَّاج والمُسافرين، اللهم تقبَّل منهم إنك أنت السميعُ العليمُ.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسنةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
التعليقات