الحج إصلاح للقلوب وتطهير للنفوس

بندر بليلة

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/موسم الحج موسم خير وبركة ورحمة 2/أفضلية فريضة الحج وبعض مقاصدها 3/الرابطة الأكيدة بين الحج والتوحيد 4/بعض مظاهر الوحدة والأخوة الإيمانية في الحج 5/مميزات وخصائص العشر الأول من ذي الحجة

اقتباس

إنَّ مَن تَلَمَّحَ العباداتِ بعين التَّفَهُّمِ عَلِمَ أنَّها مُلازَمَةُ رَسْمٍ يَدُلُّ على باطنٍ مقصودُهُ تزكيةُ النَّفْسِ، وإصلاحُ القلبِ، وتعليقُه بالربِّ -جل وعلا-، والحجُّ واحدٌ منها؛ فإنَّه مَملوءٌ بالدروس الرائعة، والحِكَم النافعة، إلَّا أنَّ فِئامًا من الناس قد غاب عنهم ذلك، فأمْسَكوا الظواهرَ، وضيَّعوا الجواهرَ!...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، الحمد لله الكريم القهار، الرحيم الغفَّار، دعا عبادَه إلى أشرف بيت وأعظم مزار، وناداهم إلى أُمّ القُرى؛ ليُجزل لهم الضيافةَ والقِرى، ويحط عنهم الذنوب والأوزار، أشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، تفرَّد بالبقاء والدوام والاقتدار، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، خير مَنْ طاف وسعى ورمى الجِمارَ، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله الأطهار، وصحبه الأخيار، والتابعينَ وتابعيهم بإحسان ما تعاقَب الليلُ والنهارُ.

 

أما بعدُ: فأوصيكم أيها الناسُ ونفسي بتقوى الله -سبحانه-، فاتقوه وأطيعوه، وراقِبوه ولا تعصوه، واذكروا أن أمامكم عقبة كأداء، والمهبط بعدَها إلى جنة أو نار، فَارْتَادُوا لأنفسكم قبلَ نزولكم، ووطِّئوا المنزلَ قبل حلولكم، فليس بعد الموت مستعتَب، ولا إلى الدنيا منصرَف، اللهم ألهِمْنا الرشدَ، وقوِّنا على العمل بكل جميل، واصرف عنَّا كلَّ محذور بلطفك ورحمتك.

 

أيها المؤمنون: ها هو ذا موسم الحج قد فاحت أنسامه، ولاحت أعلامه، وهاؤم أولاء ضيوف الرحمن قد وُفِّقوا لامتثال الأوامر، فخرجوا رجالًا وعلى ضامر، قد سَلكُوا سبيلَ الهُدى والرَّشاد، ونالوا الهَنا والمُراد، وعونُ اللهِ لهم مُؤازِر؛ (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 96-97].

 

الحجُّ ركنُ الإسلامِ العظيم، وجَمْعُهُ الفَخِيمُ، الحجُّ رحلةٌ قُدْسيةٌ، ونَفحةٌ أُنْسِيَّةٌ، عبادةً وتقوًى وذِكرًا، وصَفاءً وبِرًّا وطُهرًا، فيه تجديدُ الصِّلة بالخَلَّاق، وتأكيدُ العهدِ والميثاقِ، وهو من أجَلِّ العباداتِ وأفضَلِها، وأرفعِ الطاعاتِ وأحْفَلِها، وكَفاهُ أنَّه مُكَفِّرٌ للذنوبِ وجزاؤهُ الجنةُ، قال النبيُّ صل الله عليه وسلم: "مَنْ حجَّ فلم يرفُثْ ولم يَفسُقْ رَجَعَ كيومِ وَلَدَتْهُ أُمُّه"، وقال عليه الصلاة والسلام: "الحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنةَ"(أخرجهما البخاريُّ ومسلم)، وسُئل عليه الصلاةُ والسلامُ: "أيُّ العملِ أفضل؟ " فقال: "إيمانٌ بالله ورسوله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهادُ في سبيل الله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "حجٌ مبرور" أخرجه مسلم، والحجُّ المبرورُ هو الذي وُفِّيَتْ أحكامُهُ ولا معصيةَ فيه.

 

عبادَ اللهِ: إنَّ مَن تَلَمَّحَ العباداتِ بعين التَّفَهُّمِ عَلِمَ أنَّها مُلازَمَةُ رَسْمٍ يَدُلُّ على باطنٍ مقصودُهُ تزكيةُ النَّفْسِ، وإصلاحُ القلبِ، وتعليقُه بالربِّ -جل وعلا-، والحجُّ واحدٌ منها؛ فإنَّه مَملوءٌ بالدروس الرائعة، والحِكَم النافعة، إلَّا أنَّ فِئامًا من الناس قد غاب عنهم ذلك، فأمْسَكوا الظواهرَ، وضيَّعوا الجواهرَ!

 

وإنَّ أهَمَّ دُروسِ الحجِّ وحِكَمِه: تحقيقُ التوحيدِ، وتجريدُهُ لله -تعالى-؛ فالبيتُ الحرامُ قد أُقِيمَ على التوحيد، وأُسِّسَ على الهُدى، بَناهُ أبو الأنبياء، وإمامُ الحُنفاءِ؛ إبراهيمُ -عليه السلام-، وأُمِرَ في ذلك ألَّا يُشرِكَ بالله؛ بِأَنْ يُخلِصَ لله عملَه، ويُقيمَ البيتَ على اسم الله، قال سبحانه: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)[الْحَجِّ: 26]، وكان يدعو حينَ بَناهُ قائلًا: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)[الْبَقَرَةِ: 128].

 

وأعمال الحجِّ ووظائفُهُ مَبْنِيَّةٌ على التوحيد، مُرَسِّخةٌ له، ذُلًّا لله وخُضوعًا، وتوكُّلًا عليه وخُشوعًا، وإفرادًا له -سبحانه- بالعبادة دونَ مَنْ سواه؛ وفي آيات الحج من سورة الحج يقول -تعالى-: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)[الْحَجِّ: 30-31]، فالمسلمُ لا يتوجَّهُ إلَّا إلى الله وحدَه، لا يجوزُ له أن يدعوَ غيرَه، أو يتوسلَ به، أو يُنزِلَ به حوائجَه، أو يصرفَ عملًا ظاهرًا أو باطنًا لغير مولاهُ -جل وعلا-.

 

وفي الحج -يا رعاكم الله- تخليةٌ للنفس من الرذائل، وتربيةٌ لها على الفضائل، تربيةٌ على التقوى، وترويضٌ على الطاعة، وتنشئةٌ على حُسْنِ التعامُلِ وجميلِ الأخلاق؛ (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)[الْبَقَرَةِ: 197].

 

أيها المسلمون: في الحج يتجلَّى مَشْهَدُ الوَحدةِ الإنسانيةِ، والأُخُوَّةِ الإيمانيةِ، وذاكَ أَمْرُ ربِّنا -تعالى- بقوله: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)[آلِ عِمْرَانَ: 103]، وقوله: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا)[الرُّومِ: 31-32]، وقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الْحُجُرَاتِ: 10]، ونبيُّه -صلى الله عليه وسلم- هو القائلُ في حَجة الوداع: "إن ربَّكم واحدٌ، وأباكم واحدٌ، ألَا لَا فضلَ لعربيٍّ على عَجَميٍّ، ولا لعَجَميٍّ على عربيٍّ، ولا لأسودَ على أحمرَ، ولا لأحمرَ على أسودَ إلَّا بالتقوى" أخرجه الإمامُ أحمدُ.

 

ألا ما أحوجَ المسلمينَ إلى وِعَايَةِ هذا الدرسِ العظيمِ، ورعايةِ ذاك المقصَدِ الكريمِ، فيَنبُذُوا من حياتهم أسبابَ الفُرقةِ والاختلافِ، ويَسعَوْا سَعيَهم نحوَ التعاونِ والاجتماعِ والائتلافِ، مُستجيبينَ لنداء إمامِهم محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحاسَدُوا، ولا تَناجَشُوا، ولا تَبَاغَضُوا، ولا تَدَابَرُوا، ولا يَبِعْ بَعضُكُمْ على بَيعِ بعضٍ، وكونوا عبادَ الله إخوانًا"(أخرجه البخاري ومسلم).

 

بارَك اللهُ لي ولكم في السنة والكتاب، ونفَعَنِي وإيَّاكم بما فيهما من الْهُدَى المستطاب، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، وتوبوا إليه؛ إنَّه هو الغفور التواب.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، جادَ بمواسم الخير لمغفرة الذنوب والآثام، ونَيْل البركات والهِبات الجسام، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه الكرام، والتابعينَ وتابعيهم بإحسان إلى يوم البعث والمقام.

 

أما بعد، فيا أيها المؤمنون: لقد فضَّل اللهُ -تعالى- بعضَ الأزمنةِ على بعض، وجعَلَها مَحَلًّا للطاعات، ومَيدانًا للعباداتِ؛ رحمةً منه وفَضلًا، وحِكمةً وعَدلًا، وعمَّا قريبٍ تنزِل بِسَاحِنا أيامُ عشرِ ذي الحجةِ، أيامٌ عَظَّم اللهُ أمرَها، ورَفَعَ على الأيام قَدرَها، وأقْسَمَ بها في كتابه الكريم؛ فقال سبحانه: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ)[الْفَجْرِ: 1-2]، والعملُ الصالحُ فيها أفضلُ منه في سائرِ العامِ، قال صلى الله عليه وسلم: "ما مِن أيامٍ العملُ الصالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى اللهِ مِنْ هذه الأيامِ؛ يعني أيامَ العشر"، قالوا: "ولا الجهادُ في سبيل الله؟ "، قال: "ولا الجهادُ في سبيل الله، إلا رجلٌ خرَج بنفسِه ومالِه فلم يَرجِعْ من ذلك بشيء"(أخرجه البخاري)، وفي رواية للإمام أحمد: "فأكثِروا فيهنَّ من التهليلِ والتكبيرِ والتحميد".

 

ألا فخذوا بحظِّكم من هذا الخيرِ الوافرِ، والفيضِ الغامرِ، واعمروا هذه الأيامَ المباركاتِ، بالطاعاتِ والعملِ الرشيدِ، وأكثروا فيهنَّ من التهليلِ والتكبيرِ والتحميدِ؛ (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)[الْبَقَرَةِ: 197].

 

هذا وصلُّوا وسلِّموا على محمد بن عبد الله، النبي القرشي الهاشمي، فاللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحب والآل، التابعين لهم بإحسان إلى يوم المآب، وعنا معهم بمنك وكرمك يا كريم يا وهاب.

 

اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، واحمِ حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين، اللهم فَرِّجْ همَّ المهمومينَ من المسلمين، ونَفِّسْ كربَ المكروبين، واقضِ الدَّينَ عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِحْ أئمتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق والتوفيق والتسديد إمامنا وولي أمرنا، اللهم وفِّقْه ووليَّ عهده لما فيه صلاح البلاد والعباد يا ربَّ العالمينَ، اللهم سَدِّدْ جندَنا المرابطينَ على الحدود والثغور، كن لهم معينًا وظهيرًا، ومؤيِّدًا ونصيرًا.

 

اللهم إنا نسألك علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا، وعملًا صالحًا متقبَّلًا، اللهم أَحْسِنْ عاقبتَنا في الأمور كلها، وأَجِرْنا من خزيِ الدنيا وعذابِ الآخرةِ، (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 53]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201].

 

عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)[النَّحْلِ: 90-91].

 

 

المرفقات
OZ1OFf08FYWESotl9HVgVIJR8OptyRykZmh6dq2n.pdf
nz31YJ2X6XbvrAE0wH2AnUDjuQ1XZBLaqRMx4BE4.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life