اقتباس
ودرس ابن كثير الخط على الشيخ نجم موسى بن علي الجيلي ثم الدمشقي، الكاتب الفاضل المعروف بابن البصيص، شيخ صناعة الكتابة في زمانه المتوفى سنة 716 ، كما أخذ الحديث عن عفيف الدين الآمدي، إسحاق بن يحيى، الآمدي ثم الدمشقي الحنفي شيخ دار الحديث الظاهرية، المولود في حدود 640، والمتوفى سنة 725، قال عنه ابن كثير: وكان شيخُنا حسناً بهي المنظر، سهل الإسماع، يحب الرواية ولديه فضيلة.
حدث في السادس والعشرين من شعبان
في السادس والعشرين من شعبان من سنة 774 توفي في دمشق، عن 74 سنة، الإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء ابن كثير، إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي.
ولد الحافظ ابن كثير سنة 700 في قرية اسمها مجيدل من أعمال مدينة بُصرى، وكان والده شهاب الدين أبوحفص عمر بن كثير، من قرية غربي بُصرى، ثم انتقل إلى مجيدل التي كان فيها أهل زوجته والدة الحافظ عماد الدين، وصار خطيب القرية، وكان يؤثر الإقامة في الريف لما يرى فيه من الرفق ووجود الحلال له ولعياله، وكان فقيهاً حنفياً ثم انتقل للمذهب الشافعي، وكان إلى جانب فقهه خطيباً مجيداً فصيحاً شاعراً صاحب دين وتلاوة.
وتوفي والده في سنة 703 عن 63 سنة، فرباه أخوه الأكبر لأمه الشيخ كمال الدين عبد الوهاب، وانتقل به إلى دمشق سنة 707، وسكن في درب ابن أبي الهيجاء بالصاغة العتيقة، وفيه ختم ابن كثير حفظ القرآن، قال ابن كثير عن أخيه عبد الوهاب: كان لنا شقيقا، وبنا رفيقا شفوقا، وقد تأخرت وفاته إلى سنة خمسين، فاشتغلتُ على يديه في العلم، فيسر الله تعالى منه ما يسر، وسهل منه ما تعسر. وتوفيت والدة ابن كثير في دمشق في سنة 728.
حفظ ابن كثير القرآن في الحادية عشرة من عمره على الشيخ الصالح الناسك شمس الدين ابن غيلان، محمد بن علي، المتوفى سنة 730، وإضافة إلى ما درسه على أخيه، درس ابن كثير على الفقيه الشافعي كمال الدين ابن قاضي شهبة، عبد الوهاب بن محمد ابن ذؤيب الأسدي، المولود بحوران سنة 653 والمتوفى بدمشق سنة 726، وكان بارعاً في الفقه والنحو، حلو المحاضرة، حسن العيش والملبس مع تقلل من الدنيا، لم يتزوج قط.
ودرس ابن كثير الخط على الشيخ نجم موسى بن علي الجيلي ثم الدمشقي، الكاتب الفاضل المعروف بابن البصيص، شيخ صناعة الكتابة في زمانه المتوفى سنة 716 ، كما أخذ الحديث عن عفيف الدين الآمدي، إسحاق بن يحيى، الآمدي ثم الدمشقي الحنفي شيخ دار الحديث الظاهرية، المولود في حدود 640، والمتوفى سنة 725، قال عنه ابن كثير: وكان شيخُنا حسناً بهي المنظر، سهل الإسماع، يحب الرواية ولديه فضيلة.
وفي سنة 724 قدم إلى دمشق في طريقه للحج الوزير العالم أبو القاسم الأزدي الغرناطي، محمد بن محمد بن سهل، قال ابن كثير: سمعت بقراءته صحيح مسلم في تسعة مجالس على الشيخ نجم الدين ابن العسقلاني قراءة صحيحة، ثم كانت وفاته في القاهرة في سنة 730، وكانت له فضائل كثيرة في الفقه والنحو والتاريخ والأصول، وكان عالي الهمة شريف النفس.
ودرس ابن كثير على الفقيه الشافعي برهان الدين ابن الفزاري، إبراهيم بن عبد الرحمن الفزاري الشافعي، المولود سنة 660 والمتوفى بدمشق سنة 729، وكان فقيهاً زاهداً عابداً، قال ابن كثير عن أستاذه: الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ المذهب وعلمه ومفيد أهله ... لم أر شافعيا من مشايخنا مثله، وكان حسن الشكل عليه البهاء والجلالة والوقار، حسن الأخلاق، فيه حِدة ثم يعود قريبا، وكرمه زائد وإحسانه إلى الطلبة كثير، وكان لا يقتني شيئا ويصرف مرتبه وجامَكَّية مدرسته في مصالحه.
ومن الكتب المهمة والمتداولة في فروع الفقه الشافعي كتاب التنبيه للإمام أبي إسحاق الشيرازي، إبراهيم بن علي، المتوفى سنة 476، وقد حفظ ابن كثير هذا الكتاب أيام طلبه، ثم صنف في صغره كتاباً حوى تخريج أدلة كتاب التنبيه، ولعله أول كتبه، وعرضه على شيخه برهان الدين الفزاري، فأعجبه وأثنى عليه.
وحفظ ابن كثير في أيام طلبه مختصر ابن الحاجب: مختصر منتهى السؤل والأمل في علم الأصول والجدل، للشيخ عثمان بن عمر المعروف بابن الحاجب. وقرأ ابن كثير أصول الفقه على الأصولي المفسر الشيخ شمس الدين الأصبهاني، محمود بن عبد الرحمن، والمولود بأصبهان سنة 674، وكان الأصبهاني قد قدم دمشق سنة 725 بعد مرجعه من الحج، فأقام بها وأكرمه أهلها وصار يتردد إلى الشيخ تقي الدين ابن تيمية، ثم انتقل إلى القاهرة وتوفي بها سنة 749.
وأخذ ابن كثير كذلك عن معاصريه من المحدثين وأبرزهم الحافظ العراقي، عبد الرحيم بن الحسين، المحدث الكبير المولود بإربل سنة 725 والمتوفى بالقاهرة سنة 806، ومن المؤلفات المشهورة للحافظ العراقي كتابه: المغني عن حمل الأسفار بالأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار، والذي صنفه سنة 760، ولكن كان له قبله كتاب في موضوعه وأكبر منه صنفه سنة 751، وأسماه إخبار الأحياء بأخبار الإحياء، وقد قرأ شيئاً منه على ابن كثير، كما ذكر ذلك ابن فهد المكي في تذييله على طبقات الحفاظ للذهبي الذي أسماه: لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ.
وتتلمذ ابن كثير على الإمام الحافظ الذهبي، وقال الشيخ عن تلميذه في كتابه المعجم المختص: فقيه متقن ومحدث محقق ومفسر نقاد، وله تصانيف مفيدة. ولما كتب الإمام الذهبي تاريخه الموسوم: تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، نجد أن ابن كثير قد كتب في آخره ما يلي: أنهاه مطالعة من أوله إلى هذا المجلد، وعلق منه، داعيا لمؤلفه شيخنا الإمام العلامة، الحافظ، مؤرخ الإسلام، أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان ابن الذهبي، أثابه الله وجزاه. وكتب إسماعيل بن عمر بن كثير الشافعي، عفا الله الكريم عنه بمنه. آمين.
وتزوج ابن كثير بزينب ابنة شيخه الحافظ المزي، جمال الدين يوسف بن عبد الرحمن المزي، المولود بحلب سنة 654 والمتوفى بدمشق سنة 742، والذي كان محدث الديار الشامية في عصره، وعن طريقه فيما يبدو اتصل بابن تيمية، فإنه يقول في البداية والنهاية عندما أورد خبر وفاة ابن تيمية في الحجِر في قلعة دمشق سنة 728 قال: وكنت فيمن حضر هناك مع شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي رحمه الله، وكشفت عن وجه الشيخ ونظرت إليه وقبلّته.
زار ابن كثير القدس وبلاد فلسطين في طلب العلم عدة مرات كانت أولها في سنة 723 ، وقرأ في سنة 733 كثيراً من الأجزاء والفوائد على الشيخ عبد الله بن محمد ابن نعمة المقدسي النابلسي الحنبلي، المولود سنة 647 والمتوفى سنة 737.
ويبدو أن ابن كثير تمكن مبكراً من علم الحديث وصار ذا قدم فيه، لأنه يقول في ترجمة قاضي القضاة علاء الدين القونوي، علي بن إسماعيل القونوي التبريزي الشافعي، المولود بقونية سنة 668، والمتوفى بدمشق سنة 729، والذي قدم دمشق قاضياً عليها في سنة 727: وله تصانيف في الفقه وغيره، وكان يحرز علوما كثيرة منها النحو والتصريف والأصلان والفقه، وله فهم بالحديث، وفيه إنصاف كثير وأوصاف حسنة، وتعظيم لأهل العلم، وخرَّجت له مشيخة سمعناها عليه، وكان يتواضع لشيخنا المزي كثيرا.
ودرس على ابن كثير عديدٌ من علماء عصره الذين نبغوا فيما بعد في الحديث والفقه وغيرها من العلوم، ومن هؤلاء الإمام الفقيه الشافعي بدر الدين الزَّرْكَشي، محمد بن بهادر المولود سنة 745 والمتوفى سنة 794، والفقيه الشافعي شمس الدين العيزري، محمد بن محمد، المولود سنة 724 والمتوفى سنة 808، والحافظ المؤرخ ابن حجي، شهاب الدين أحمد بن حجي السعدي الدمشقي، المولود سنة 751 والمتوفى سنة 816، والذي كتب تاريخاً ذيّل فيه على كتاب ابن كثير، وقال ابن حجي في تاريخه عن شيخه ابن كثير: كان أحفظَ من أدركناه لمتون الأحاديث، وأعرفهم بجرحها، ورجالها، وصحيحها وسقيمها، وكان أقرانه وشيوخه يعترفون له بذلك. وكان يستحضر شيئاً كثيراً من التفسير والتاريخ، قليل النسيان، وكان فقيهاً جيد الفهم، صحيح الذهن، يستحضر شيئاً كثيراً، ويحفظ التنبيه إلى آخر وقت، ويشارك في العربية مشاركة جيدة، وينظم الشعر، وما أعرف أني اجتمعت به على كثرة ترددي إليه إلا وأفدت منه، وقد لازمته ست سنين.
وفي سنة 736 تولى ابن كثير التدريس بالمدرسة النجيبية، وكان أول درس له هو في تفسير قوله تعالى في سورة فاطر ?إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ?، وكان درسا حافلا، حضره القضاة والأعيان، وأثنوا عليه وتعجبوا من جمعه وترتيبه.
وفي سنة 746 اكتملت عمارة الجامع في المزة الفوقانية الذي جدده وأنشأه الأمير بهاء الدين المرجاني، محمد بن أحمد، المولود سنة 690 والمتوفى سنة 749، وعقدت فيه الجمعة بجمع كثير وجم غفير من أهل المزة ودمشق، ووقع اختيار الواقف على أن يكون ابن كثير رحمه الله أول خطيب في جامعه.
وبعد وفاة الإمام الذهبي رحمه الله في أواخر سنة 748 تولي ابن كثير مشيخة المدرسة الصالحية المعروفة كذلك بتربة أم الصالح ومشيخة دار القرآن والحديث التنكزية في سوق البزورية التي بناها سنة 728 نائب السلطنة سيف الدين تنكز الملكي الناصري، وكان موضوع أول درس له الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن الإمام الشافعي عن الإمام مالك عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنما نسمة المؤمن طائر معلق في شجر الجنة حتى يرجعه إلى جسده يوم يبعثه.
ولم يلبث ابن كثير طويلاً في هذه الوظيفة، بل انتزعها منه بعد فترة غير طويلة القاضي كمال الدين المعري، عمر بن عثمان، المولود سنة 712، والمتوفى سنة 783، مع أن شرط الواقف أن تكون مع أعلم أهل البلد بالحديث، ولم أعثر على كيفية انتزاعها منه، ولكن ذلك أدى أن كره الناس المعري ومقته الطلبة وترصدوا هفواته الكثيرة.
وفي أواخر سنة 767 افتتح ابن كثير درس التفسير بالجامع الأموي، والذي أنشأ بمساعي نائب السلطنة في دمشق، الأمير سيف الدين منكلي بغا، عند تجديده أوقاف الجامع، وحضر الدرس القضاة والأعيان، وكان موضوعه تفسير الفاتحة، ويذكر ابن كثير رحمه الله أنه تصدق حين دعي لإلقاء هذا الدرس، لما في ذلك من تشريف كبير لشخصه وعلمه، وكان في السنة التي قبلها قد قرأ البخاري حتى ختمه في ستة أماكن في دمشق من مساجد ومدارس ودور أمرائها.
وفي المحرم من سنة 767 هاجمت سفن الفرنج الإسكندرية على حين غرة، فدخولها وقتلوا وأسروا ونهبوا، وبقوا فيها 4 أيام ثم انسحبوا بمجرد وصول طلائع القوات المصرية من القاهرة، ورداً على ذلك أصدر السلطان المملوكي أمراً بأن يصادر من النصارى في أنحاء المملكة ربع أموالهم لتستخدم في عمارة ما خرب من الإسكندرية ولتمويل بناء سفن حربية تغزوا الفرنج، قال ابن كثير في تاريخه: فأهانوا النصارى، وطُلبوا من بيوتهم بعنف، وخافوا أن يُقتلوا ولم يفهموا ما يراد بهم، فهربوا كل مهرب، ولم تكن هذه الحركة شرعية، ولا يجوز اعتمادها شرعا... وقد طلبت الاجتماع بنائب السلطنة... فرأيت منه أنسا كثيرا، ورأيته كامل الرأي والفهم، حسن العبارة كريم المجالسة، فذكرت له أن هذا لا يجوز اعتماده في النصارى، فقال: إن بعض فقهاء مصر أفتى للأمير الكبير بذلك، فقلت له: هذا مما لا يسوغ شرعا، ولا يجوز لأحد أن يُفتي بهذا، ومتى كانوا باقين على الذمة يؤدون إلينا الجزية... لا يجوز أن يؤخذ منهم الدرهم الواحد فوق ما يبذلونه من الجزية، ومثل هذا لا يخفى على الأمير. فقال: كيف أصنع، وقد ورد المرسوم بذلك ولا يمكنني أن أخالفه؟ وذكرت له أشياء كثيرة مما ينبغي اعتماده في حق أهل قبرص من الإرهاب ووعيد العقاب... فجعل يعجبه هذا جدا... وكتب به مطالعة إلى الديار المصرية... ثم في صبيحة يوم الأحد طلب النصارى الذين اجتمعوا في كنيستهم إلى بين يديه، وهم قريب من أربعمئة، فحلّفهم كم أموالهم، وألزمهم بأداء الربع من أموالهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي سنة 767 وقع خلاف بين قضاة المذاهب الأربعة حول جواز أن ينقل الواقف عقاراً وقفه إلى عقار آخر لمصلحة رآها، فقد وافق القضاة الشافعي والحنفي والمالكي على جواز ذلك، ووافقهم على ذلك ابن كثير، ولكن القاضي الحنبلي في دمشق اعترض على ذلك اعتراضاً شديداً بحجة أن مذهب الإمام أحمد يسمح بالمناقلة في حالة الضرورة وحيث لا يمكن الانتفاع بالموقوف، وتطور الخلاف إلى تجريح العلماء بعضهم بعضاً، وكتب بعضهم أوراقاً في التشنيع على الشافعي في موافقته على هذه القضية، وكادت الأمور أن تخرج عن حدها وتقع فتنة بهذه التحريض، الذي بلغت أخباره السلطان في القاهرة فطلب من نائب السلطنة بدمشق تداركه، فدعا العلماء إلى اجتماع حضره ابن كثير مع ثلة من علماء دمشق، قال ابن كثير: وجلسنا حوله، فكان أول ما قال: كنا نحن الترك وغيرنا إذا اختلفنا واختصمنا، نجئ بالعلماء فيصلحون بيننا، فنحن إذا اختلفت العلماء واختصموا من يصلح بينهم؟ وشرع في تأنيب من شنع على الشافعي بما تقدم ذكره من تلك الأقوال والأفاعيل التي كتبت في تلك الأوراق وغيرها، وأن هذا يشفّي الأعداء بنا، وأشار بالصلح بين القضاة بعضهم من بعض، فصمم بعضهم وامتنع، وجرت مناقشات من بعض الحاضرين فيما بينهم، ثم حصل بحث في مسائل ثم قال نائب السلطنة أخيرا: أما سمعتم قول الله تعالى في سورة المائدة?عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ?؟ فلانت القلوب عند ذلك، وأمر كاتب السر أن يكتب مضمون ذلك في مطالعة إلى الديار المصرية، ثم خرجنا على ذلك.
ومن طريف ما جرى لابن كثير رحمه الله ما ذكره ابن حجة الحموي، المولود سنة 767 والمتوفى سنة 837، في كتابه ثمرات الأوراق، وهو أنه كانت لابن كثير صُفَّة على باب داره يجلس ويطالع فيها استئناساً بالمارّة لسآمة الوحدة، وكان في جواره جار له رث الثياب، وكان إذا رأى الشيخ جالساً على الصفَّة، يجيء من وراء ظهره ويقرأ ما يقرأه ابن كثير، فتفوح منه رائحة يتأذى منها ابن كثير، ولكن يستحي أن يصرفه، فاشتد غيظه يوماً فقال له: يا شيخ أما تستحي كلما تراني جالساً تجيء تركب أكتافي، وأنت لست تعرف ما أطالعه، ولا لك شعور به! فلما أخجله بهذا التعنيف قال له الجار: يا سيدي الشيخ، ما هذا الذي تطالع فيه من العلوم؟ فقال: شيء في الاقتباس. وهو تضمين شيء من القرآن في النثر أو الشعر، فقال له: أنشدني منه شيئاً. ففكر ابن كثير ساعة، ثم قال:
كيدُ حسودي وهَنَا ... ولي سرورٌ وهنا
الحمد لله الذي ... أذهب عنّا الحَزَنا
فلما فرغ من إنشاده قال له جاره: هذا الذي أفكرت فيه وتتكثر به! اسمع ما أقول، وأنشد ارتجالاً من غير وقفة:
قلبي إلى الرشد يسير ... وعنده النَّظم يسيرْ
الحمد لله الذي ... فضّلنا على كثير
فاعتذر له ابن كثير، وقال له جاره: إياك أن تزدري بأحد، فإن مواهب الله تعالى في الصدور لا في الثياب.
ولابن كثير مصنفات قيمة فيها فوائد كثيرة وترتيب جيد، ومن أهمها كتابه العظيم في التفسير المعروف بتفسير ابن كثير، وقد كتبه قبل سنة 742 في حياة شيخه أبي الحجاج المزي، فهو يذكره فيه ويدعو له بطول العمر، أما منهجه في التفسير فقد ذكره في حديثه في المقدمة عن أحسن طرق التفسير، فقال: أن يُفَسَّر القرآن بالقرآن، فما أُجْمِل في مكان فإنه قد فُسِّر في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له ... وإذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك، لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها... لا سيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة والخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنه... وإذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين.
وقبل شروع ابن كثير في تفسير السور، قدّم لذلك مقدمة تعرض فيها لتاريخ نزول القرآن وجمعه وتدوينه، وتحدث فيها عن الكتب التي بيد أهل الكتاب واختلافهم فيها، على نحو يبين اطلاعه شخصياً عليها، قال رحمه الله: وذلك أن اليهود والنصارى مختلفون فيما بأيديهم من الكتب، فاليهود بأيديهم نسخة من التوراة، والسامرة يخالفونهم في ألفاظ كثيرة ومعان أيضا، وليس في توراة السامرة حرف الهمزة ولا حرف الياء، والنصارى أيضا بأيديهم توراة يسمونها العتيقة، وهي مخالفة لنسختي اليهود والسامرة، وأما الأناجيل التي بأيدي النصارى فأربعة: إنجيل مُرقس، وإنجيل لوقا، وإنجيل متّى، وإنجيل يوحنا، وهي مختلفة أيضا اختلافا كثيرا، وهذه الأناجيل الأربعة كل منها لطيف الحجم منها ما هو قريب من أربع عشرة ورقة بخط متوسط، ومنها ما هو أكثر من ذلك إما بالنصف أو بالضعف، ومضمونها سيرة عيسى وأيامه وأحكامه وكلامه، وفيه شيء قليل مما يدعون أنه كلام الله، وهي مع هذا مختلفة، كما قلنا، وكذلك التوراة مع ما فيها من التبديل والتحريف، ثم هما منسوخان بعد ذلك بهذه الشريعة المحمدية المطهرة.
وقد أفادنني أستاذي الفاضل الداعية محمد عادل فارس وتلميذ والدي رحمه الله تعالى أنه كان يوصيهم بقراءة تفسير ابن كثير، وأنه حين كان مسجوناً في سجن تدمر كان يعقد حلقة علم يقرأ فيها من التفسير المذكور، ويشرح مما آتاه الله من علم، وما حباه من أدب.
وثاني كتب ابن كثير في الأهمية هو تاريخه المسمى بالبداية والنهاية، وهو كتاب ضخم في مجلدات عديدة، انتهى فيه إلى حوادث سنة 767، ونلاحظ أنه مع معايشته لكثير من الأحداث إلا أنه ينقلها في الغالب عن البرزالي حتى سنة 739، وابن كثير معتدل المنهج في تاريخه، ويتعامل مع الأشخاص والأحداث بحيدة ملحوظة، فهو عندما يذكر في أحداث سنة 767 وفاة المعلم داود ناظر الجيش والديوان، والذي كان يهودي الأصل، يقول: فاجتمع له هاتان الوظيفتان ولم يجتمعا لأحد قبله كما في علمي، وكان من أخبر الناس بنظر الجيش وأعلمهم بأسماء رجاله، ومواضع الإقطاعات، وقد كان والده نائبا لنظار الجيوش، وكان يهوديا قرائيا، فأسلم ولده هذا قبل وفاة نفسه بسنوات عشر أو نحوها، وقد كان ظاهره جيدا والله أعلم بسره وسريرته.
وعندما يتحدث في وفيات سنة 726 عن ابن المطهر الحلي، جمال الدين حسن بن يوسف بن مطهر الحلي العراقي الشيعي، يصفه بشيخ الروافض الذي لم تطهر خلائقه، ولكنه مع ذلك يقول: رأيت له مجلدين في أصول الفقه على طريقة المحصول والإحكام، لا بأس بها فإنها مشتملة على نقل كثير وتوجيه جيد.
وفي إيراده لوفاة الأمير سيف الدين بهادر آص في سنة 730 يقول عنه في تلطف حصيف: أكبر أمراء دمشق، وممن طال عمره في الثروة والحشمة، وهو من اجتمعت به الآية الكريمة وهي قوله تعالى في سورة آل عمران: ?زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ?، وكان محبباً إلى العامة، وله بر وصدقة وإحسان.
وعلى ضوء ما عثرت عليه مما كتبه ابن كثير في تفسيره وتاريخه أرجح أنه كان أشعري العقيدة رغم علاقته الوثيقة بابن تيمية، مع ملاحظة أنها علاقة لم تمتد سنوات طويلة، إلا أنها تركت آثارها العميقة على ابن كثير ومنهجه، فقد انتسب إلى مدرسة ابن تيمية الفكرية ومال إليها ميلاً واضحاً، تتردد أصداؤه في ذكره المتكرر في ثنايا كتبه، ولكن مع ذلك انتمى ابن كثير إلى المدرسة الأشعرية، كما تبين ذلك قصةٌ حدثت في منازعة على منصب تدريس في مدرسة بين ابن كثير وبين إبراهيم ابن الحافظ ابن قيم الجوزية، المولود سنة 716 والمتوفى سنة 767، فقد قال له ابن كثير في أثناء النزاع: أنت تكرهني لأني أشعري! فقال له: لو كان من رأسك إلى قدمك شعرٌ ما صدَّقك الناسُ في قولك: أنك أشعري وشيخك ابن تيمية!
وقد لا يعتد بعض الناس بهذا الكلام ويعتبره من باب تحاجج الخصوم، وابن كثير في تفسيره ينقل عن ابن تيمية في بضعة محلات مثنياً عليه، ولكنه يقتصر في ذلك على آراءه الفقهية، أما عندما يتعلق الأمر بالعقيدة، فإن ابن كثير يستشهد بالأشاعرة حتى لو طابق رأيهم رأي ابن تيمية، ومن ذلك قوله تعالى في سورة الإسراء: ?وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا?، فهو في تفسيرها يتناول قضية الأولاد الذين ماتوا وهم صغار وآباؤهم كفار، ويميل للرأي القائل إنهم: يمتحنون يوم القيامة في العَرَصَات، فمن أطاع دخل الجنة وانكشف علم الله فيهم بسابق السعادة، ومن عصى دخل النار داخرا، وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة. ويعقب ابن كثير بعد إيراده ذلك فيقول: وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها، وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض. وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري رحمه الله، عن أهل السنة والجماعة، وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب الاعتقاد وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ النقاد.
كذلك نلاحظ أن ابن كثير يورد في تاريخه عديداً من الأمور التي تتعارض مع منهج ابن تيمية السلفي، ولكنه لا يستنكرها، فمثلاً يذكر في أحداث سنة 741 أن القاضي تقي الدين السبكي الخطيب أمر المؤذنين بزيادة أذكار على الذي كان سنَّه فيهم الخطيب بدر الدين من التسبيح والتحميد والتهليل الكثير ثلاثا وثلاثين، فزادهم السبكي قبل ذلك: أستغفر الله العظيم ثلاثا، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، ثم أثبت ما في صحيح مسلم بعد صلاتي الصبح والمغرب: اللهم أجرنا من النار سبعا، أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ثلاثا، وكانوا قبل تلك السنوات قد زادوا بعد التأذين الآية ليلة الجمعة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وآله، يبتدئ الرئيس منفردا ثم يعيد عليه الجماعة بطريقة حسنة، وصار ذلك سببا لاجتماع الناس في صحن الجامع لاستماع ذلك، وكلما كان المبتدئ حسن الصوت كانت الجماعة أكثر اجتماعا، ولكن طال بسبب ذلك الفصل، وتأخرت الصلاة عن أول وقتها.
ويذكر في أحداث سنة 746 أنه عندما ظهر الطاعون في دمشق وانتشر، اجتمع الناس بمحراب الصحابة في الجامع الأموي وقرأوا متوزعين سورة نوح ثلاثة آلاف مرة وثلثمئة وثلاث وستين مرة، عن رؤيا رجل أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرشده إلى قراءتها على ذلك النحو.
ولابن كثير في علم الحديث كتاب: التكميل في الجرح والتعديل ومعرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل، جمع فيه بين تهذيب الكمال للمزي، وبين ميزان الاعتدال لشيخه الذهبي، مع زيادات وتحرير عليهما في الجرح والتعديل، وهو في خمسة مجلدات. وله كتاب موجز مفيد هو: الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث، وهو اختصار لمقدمة ابن الصلاح؛ معرفة أنواع علم الحديث، ويقدم ابن كثير في مختصره تعليقات ونظرات مفيدة، منها عند حديثه عن صحة سماع من ينسخ أو إسماعه، يقول: هذا هو الواقع في زماننا اليوم: أن يحضر مجلس السماع من يفهم ومن لا يفهم، والبعيد من القارئ، والناعس، والمتحدث، والصبيان الذين لا ينضبط أمرهم بل يلعبون غالباً، ولا يشتغلون بمجرد السماع. وكل هؤلاء قد كان يُكتب لهم السماع بحضرة شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي رحمه الله.
ولابن كثير كتب أخرى إلى جانب ما سبق، منها كتاب طبقات الفقهاء، وكتاب مناقب الشافعي المسمى: الواضح النفيس في مناقب الإمام بن إدريس، وكتاب الفتن والملاحم وهو المعروف بالنهاية، وبدأ ابن كثير في شرح لصحيح البخاري ولم يكمله.
وآخر مصنفات ابن كثير كتاب جامع المسانيد والسُنن؛ الهادي لأقوم سَنن، جمعه ابن كثير من عشر كتب حديثية؛ من صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن النسائي وأبي داود والترمذي وابن ماجه، ومن مسانيد أحمد والبزار وأبي يعلى والمعجم الكبير للطبراني، ورتبه ابن كثير على حروف المعجم، يذكر كل صحابي له رواية، ثم يورد في ترجمته جميع ما وقع له في هذه الكتب، وما تيسر من غيرها.
وهنا نذكر ما قاله ابن حجر في كتابه إنباء الغمر بأبناء العمر عن تصنيف ابن كثير لهذا الكتاب، قال: ولما رتب الحافظ شمس الدين بن المحب المعروف بالصامت مسند أحمد على ترتيب حروف المعجم، حتى في التابعين المكثرين عن الصحابة، أعجب ابن كثير فاستحسنه، ورأيتُ النسخة بدمشق بخط ولده عمر، فألحق ابن كثير ما استحسنه في الهوامش من الكتب الستة ومسندي أبي يعلى والبزار ومعجمي الطبراني ما ليس في المسند، وسمَّى الكتاب جامع المسانيد والسنن، وكُتبت منه عدة نسخ نُسبت إليه، وهو الآن في أوقاف المدرسة المحمودية، المتن ترتيب ابن المحب والإلحاقات بخط ابن كثير في الهوامش والعصافير، وقد كنت رأيت منه نسخة بيضها عمر بن العماد بن كثير مما في المتن والإلحاق، وكتب عليه الاسم المذكور.
وهنا نقول إننا نلاحظ أن ابن حجر في تراجمه يميل للغمز الجلي والخفي من قناة من سبقه من الأئمة، وقد أصاب ابن كثير من ذلك نصيب غير قليل، يقول ابن حجر في ترجمة الحافظ تقي الدين العميدي، محمد بن رافع، المولود سنة 704 والمتوفى سنة 774: وذكر لي شيخنا العراقي أن السبكي كان يقدمه لمعرفته بالأجزاء وعنايته بالرحلة والطلب. قلت: والإنصاف أن ابن رافع أقرب إلى وصف الحفظ على طريقة أهل الحديث من ابن كثير لعنايته بالعوالي والأجزاء والوفيات والمسموعات دون ابن كثير، وابن كثير أقرب إلى الوصف بالحفظ على طريقة الفقهاء لمعرفته بالمتون الفقهية والتفسيرية دون ابن رافع، فيجمع منهما حافظ كامل. وقد علق السيوطي في طبقات الحفاظ على هذا فقال: العمدة في علم الحديث؛ معرفة صحيح الحديث، وسقيمه وعلله، واختلاف طرقه، ورجاله جرحاً وتعديلاً، وأما العالي والنازل ونحو ذلك فهو من الفضول لا من الأصول المهمة.
تزوج ابن كثير، إلى جانب ابنة شيخه المزي، زوجة ثانية هي ابنة شرف الدين يعقوب بن فارس الجعبري وكان من تجار دمشق الأثرياء وصديقاً لابن تيمية، وجاءه منها ولد أسماه عز الدين عمر، ولد سنة 738، وتوفى سنة 783، وكان فقيهاً، وكتب تصانيف أبيه، وولي الحسبة مراراً ونظر الأوقاف، ودرَّس بعدة أماكن، وكان لابن كثير ولد آخر هو عبد الرحمن المتوفى سنة 792، ورغم كونه قد تزيا بزي الجند إلا أنه كان ذا مشاركة في العلم، فكتب الكثير بخطه من تصانيف أبيه، وكتب ذيلاً قليلاً على تاريخ أبيه، ولابن كثير ابن ثالث هو أحمد المولود سنة 765 والمتوفى سنة 801، وكان كذلك قد سلك طريق الجندية، وابنه الرابع محمد المولود سنة 759 سار في طريق العلم والتحديث وتميز قليلاً، وكان له خط حسن معروف جيد الضبط، وبعد وفاة والده خلفه على التدريس في مشيخة الحديث بتربة أم الصالح، وتوفي سنة 803.
أصيب ابن كثير بضعف متزايد في بصره قبل وفاته، وبسببه لم يتمكن من إتمام جامع المسانيد، وتوفي يوم 26 شعبان، ودفن قرب ابن تيمية في مقابر الصوفية، ورثاه بعض طلبته:
لفقدك طلاَّب العلوم تأَسفوا ... وجادوا بدمْع لا يبيد غزير
ولو مزجُوا ماء المدامع بالدِّما ... لكان قليلاً فيك يا ابن كثير
كان ابن كثير رحمه الله ينظم الشعر، كما ذكر ذلك من ترجموا له، ولكنني لم أعثر له إلا على البيتين الأسبقين في قصة جاره التي أوردتها، وعلى هذين البيتين:
تمر بنا الأيام تترى وإنما ... نساق إلى الآجال والعين تنظر
فلا عائدٌ ذاك الشباب الذي مضى ... ولا زائلٌ هذا المشيب المكدر
التعليقات