اقتباس
وخلال تلك الفترة المضيئة من تاريخ الأمة برز العديد من أمراء البحر الكبار وعبروا المحيطات الواسعة، وركبوا الأهوال والمخاطر، ليس من أجل الدنيا أو الغنائم ولكن من أجل نشر رسالة الإسلام السامية في شتى أنحاء الأرض، ومن شدة ما أوقعوه في نفوس أعداء الأمة، كان مجرد ذكرهم ولو بالاسم فقط كان يلقى الرعب والفزع في قلوب السامعين، للهيبة العظيمة التي ألقاها الله عز وجل في قلوب أعدائهم.
هذه صفحة من صفحات تاريخ الأمة الإسلامية العظيمة قد غابت عن حياة المسلمين وحاضرهم، وأصبحت مجهولة حتى على المهتمين بأحوال الأمة، وربما حتى على المتخصصين في دراسة التاريخ الإسلامي والإنساني، ومن شدة ما لاقته هذه الصفحة من إهمال وتجاهل حتى طواها النسيان وتاهت وسط بطون الكتب أًصبحت المصادر والمراجع التي تناولها بشيء من التفصيل والتعليل قليلة جدًا على الرغم من أهميتها وروعتها.
هذه الصفحة هي صفحة الجهاد البحري وعطاء المسلمين الكبير والواسع في هذا المجال الذي ظن الناس أن المسلمين لم يطرقوه أو يعرفوه، وأن أوروبا هي صاحبة اليد العليا في اكتشاف البحر وخدمة البشرية في نطاق العطاء البحري.
فربما يحفظ المسلمون بعض أمجادهم وفتوحاتهم الكبرى مثل القادسية واليرموك وغيرهما، ولكنهم يجهلون تمامًا أن لأمتهم أمجادًا عظيمة في عباب البحر وفوق أمواجه، لا يعرفون أن الأمة الإسلامية قد سيطرت وسادت البحار والمحيطات لعدة قرون، وأن أساطيل الدول الإسلامية في المشرق والمغرب قد حققت مجدًا يفوق التصورات، حق لكل مسلم أن يفخر ويزهو به على مر العصور، حتى تحول البحر الأبيض المتوسط والذي كان حلبة كبرى للصراع بين القوة البحرية الإسلامية والقوة البحرية الأوروبية النصرانية، تحول من بحر الروم إلى بحر العرب والمسلمين، يسيطر عليه المسلمون من شرقه إلى غربه، وذلك لعدة قرون متتابعة.
وخلال تلك الفترة المضيئة من تاريخ الأمة برز العديد من أمراء البحر الكبار وعبروا المحيطات الواسعة، وركبوا الأهوال والمخاطر، ليس من أجل الدنيا أو الغنائم ولكن من أجل نشر رسالة الإسلام السامية في شتى أنحاء الأرض، ومن شدة ما أوقعوه في نفوس أعداء الأمة، كان مجرد ذكرهم ولو بالاسم فقط كان يلقى الرعب والفزع في قلوب السامعين، للهيبة العظيمة التي ألقاها الله عز وجل في قلوب أعدائهم.
أولا: العرب والبحر قبل الإسلام
لم تكن القبائل العربية قبل ظهور الإسلام على نفس المستوى الواحد من العلاقة والتعامل مع البحار وسواحلها الطويلة والمحيطة ببلاد العرب، فعلى الرغم من كون أرض العرب في الأساس شبه جزيرة أي تحيط بها المياه من ثلاث جهات إلا أن علاقة معظم القبائل العربية بالبحر كانت مقطوعة، وغلبت بيئتهم الصحراوية على توجهاتهم البحرية، فنسوا وأهملوا شؤونه وفقدوا الدربة على ركوبه واقتحام أهوله، ويعلل ابن خلدون تخلف العرب في ثقافة البحر وركوبه ببدواتهم.
و أثرت البيئة الصحراوية أيضًا على العرب وأدت لعزوفهم عن ركوب البحر لسبب آخر وهو ندرة الموارد الأولية اللازمة لبناء السفن بهذه البيئة، فالأشجار الكبيرة نادرة، ومعظم بلاد العرب تخلو من معدن الحديد- باستثناء جبال اليمن، ومن الزفت والقطران()، هذا غير وقوع الطرق البحرية المعروفة وقتها في قبضة القوى العالمية القديمة فالفرس في الشرق يسيطرون على تجارة الهند، ويحكمون قبضتهم على الخليج حتى نسبوه إلى أنفسهم وأسموه الخليج الفارسي، والأحباش يسيطرون على السواحل الجنوبية ويحتلون اليمن وحضرموت، واحتكروا طريق التجارة في البحر الأحمر، في حين يسيطر البيزنطيون تمامًا على حركة الملاحة في سواحل البحر الأبيض بسبب احتلالهم لبلاد الشام ومصر ومعظم سواحل الشمال الإفريقي، وبالتالي بقى العرب حبيسي الداخل حيث القفار والصحارى والبوادي، مما جعل خبرة العرب بأحوال البحر وأموره قليلة وضعيفة حتى أصبح مجرد ذكر البحر وأمواجه الهادرة مصدر رعب وفزع عند كثير من العرب، بل أصبح مجهولاً كثيرًا من أبناء القبائل العربية الذين ولدوا وعاشوا وتوارثوا عبر الأجيال، ولم ير أحد منهم البحر.
هذا الكلام وإن كان ينطبق على معظم القبائل العربية إلا إنه لا ينطبق على جميعها، وذلك لأن عرب اليمن وحضرموت وعمان والبحرين كان لهم خبرة كبيرة في ركوب البحر والاحتكاك مع الدول البحرية، بحيث يصح أن يطلق عليهم اسم القبائل البرمائية()، وامتاز عرب الخليج بالقدرة على ركوب البحر والطواف بسفنهم خارج نطاق الخليج والقيام بدور كبير في الدفاع عن حدود العالم الإسلامي الجنوبية ضد هجمات أوروبا الصليبية، كما أضلعت هذه القبائل بحمل دعوة الإسلام أثناء رحلاتهم التجارية إلى الهند والصين وشرق إفريقيا، وسيظهر أثر تلك الخبرة البحرية لعرب اليمن وحضر موت عند قيام ونشأة البحرية الإسلامية وبداية حركة الفتوحات البحرية، وسيبرز العديد من أبناء اليمن في قيادة الأساطيل الإسلامية مثل جنادة بن أبي أمية الأزدي اليمني الذي قاد الأساطيل الغازية لجزر قبرص ورودوس وإقريطش [كريت]، وعرب اليمن هم الذي أنشئوا أول قوة بحرية في الأندلس بعد فتحها، وطائفة البحريين الذين كانوا يرابطون على سواحل الأندلس ويجاهدون في البحر التيراني يمنيون من بني سراج القضاعيين.
ثانيا: فضل الجهاد البحري
جاءت رسالة الإسلام السامية للبشرية وأشرقت شمس الهداية النبوية في مطلع القرن السابع الميلادي، وحدث تغير شامل وجذري في حياة البشر عامة والعرب خاصة، وأولى الإسلام عناية خاصة بالجهاد بشقيه البري والبحري كأداة من أهم أدوات نشر الدعوة الإسلامية وإزالة القوى الطاغية التي تحول بين الناس وبين سماع الحق ودعوة الغير، لذلك فإن الشريعة الإسلامية زاخرة بالدلائل والبراهين القولية والعملية على مكانة الجهاد بشقيه البري والبحري وعلى الرغم من أن هذه الدلائل والبراهين تشمل فضائل الجهاد بشقيه البري والبحري إلا أن الشريعة أولت عناية خاصة بمزيد تأكيد وفضل للجهاد البحري لشدة أهميته في الدعوة والدفاع عن الأمة.
ورغم أن القرآن نزل أول ما نزل على قريش.. التي لم تكن تعرف من أمور البحر شيئا إلا أن هذا القرآن جاء زاخر بذكر البحر في مواضع كثيرة وبكل الصيغ، فلقد وردت كملة البحر بصيغة المفرد في تسعة وعشرين موضعًا، ووردت كلمة البحران مرة واحدة، والبحرين أربع مرات، والبحار مرتين، وأبحر مرة واحدة، في حين وردت كلمة الفلك في ثلاث وعشرين موضعًا.
وعندما أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم- أصحابه المضطهدين في مكة بالهجرة اختار لهم بلدًا بحريا وهو الحبشة لعدل ملكها، وكان المهاجرون إليها يسمون بأصحاب السفينة والبحريين نسبة إلى البحر الأحمر.
- وقال ابن قدامة وغيره من أصحاب الإمام أحمد: "غزو البحر أفضل من غزو البر لأن البحر أعظم خطرًا ومشقة، فإنه بين خطر العدو وخطر الغرق، ولا يتمكن من الفرار إلا مع أصحابه فكان أفضل من غيره"
وهذه طائفة من فضائل الجهاد البحري
ـ غزاة البحر كالملوك على الأسرة:
فعن أم حرام رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم- اتكأ عندها، ثم ضحك، فقالت: لم تضحك يا رسول الله؟ فقال: " ناس من أمتي يركبون البحر الأخضر في سبيل الله، مثلهم مثل الملوك على الأسرة، فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: اللهم اجعلها منهم..." ().
غزوة في البحر أفضل من عشر غزوات في البر:
فعن بعد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : "غزوة في البحر خير من عشرات غزوات في البر، ومن أجاز البحر فكأنما أجاز الأودية محلها، والمائد في البحر كالمتشحط في دمه "().
المائد في البحر له أجر شهيد:
فعن أم حرام رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد..." .
المجاهد الغريق له أجر شهيدين:
لحديث أم حرام السابق وفي زيادة صحيحة [ والغرق له أجر شهيدين ].
كما وردت عدة آثار موقوفة عن الصحابة والتابعين في فضل جهاد البحر وعظم ثوابه، وهذه الآثار اختلف في رفعها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- ، والأصح أنها موقوفة، نذكر واحدا منها لتعم الفائدة، ويعلم القارئ مدى اهتمام الجيل الأول بالجهاد البحري والحض عليه:
فعن حيي المعافري [وهو ثقة مشهور من الطبقة الثالثة]، أنهم كانوا جلوسًا مع عبد الله بن عمرو عند منارة الإسكندرية حين رفعت المراكب متوجهين إلى العدو، "فقال عبد الله بن عمرو: يا مسلمة بن مخلد أين ذنوب هؤلاء؟ فقال مسلمة: خطاياهم في رقابهم، فقال عبد الله بن عمرو: كلا والذي نفسي بيده لقد خلفوها في هذه الجبانة [المصلى في الصحراء]، إلا ما استحدثوا من دين قبل" رواه أبو بكر بن المنذر في الأوسط وله شاهد عند ابن أبي شيبة في مصنفه كتاب الجهاد- باب الغزو في البحر
التعليقات