الجنة دار النعيم المقيم

صلاح بن محمد البدير

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: الحياة الآخرة
عناصر الخطبة
1/نعيم الجنة خير نعيم 2/رؤية الله في الجنة

اقتباس

دارٌ لا ينفد نعيمها ولا يبيد، دارٌ فيها من كل خير مزيد، أُعِدَّتْ وأُدنيت وَقُرِّبَتْ، وزُينت وأُزلفت كرامةً للمتقين، لا يخشون فيها خوفًا ولا همًّا، ولا صخبًا ولا نَصَبًا، ولا يخافون فيها فقرًا ولا دَيْنًا، ولا إخراجًا ولا انقطاعا ولا فَنَاء..

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي خلقنا للعبادة، وأنذرنا موارد الرمادة، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) [يُونُسَ: 26]، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدا عبده ورسوله، مَنِ اتبعه نال الفوزَ والسعادةَ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، أهل القيادة والريادة والسيادة.

 

أما بعد فيا أيها المسلمون: اتقوا الله فإن تقواه أفضل مكتَسَب، وطاعته أعلى نَسَب، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التَّوْبَةِ: 119].

 

أيها المسلمون: تدنو الآجال وتنتهي الآمال وتنقطع الحبال ويحين الارتحال والانتقال، وينقطع عن الأهل اللقاءُ والوصالُ:

لا أرى الموت يسبق الموت شيء *** نغَّص الموتُ ذا الغنى والفقيرا

 

وانظر إلى الدنيا بعين مودِّع *** فلقد دنا سفر وحان وداع

 

وكل بيت وإن طالت إقامته *** على دعائمه لا بد مهدوم

 

إن الحبيب من الأحباب مختَلَس *** لا يمنع الموتَ بوابٌ ولا حَرَسُ

فكيف تفرح بالدنيا ولذتها *** يا من يُعَدّ عليه اللفظُ والنَّفَسُ

 

أيها المسلمون: ولما كانت الدنيا دارا للبليات والآفات والتنغيص، يقاسي فيها العبدُ طلبَ المعيشة، والكدّ والتعب، وعروض الآفات والأسقام والمصائب، ومعاشرة الأوغاد وتزيين الشيطان وأهل الفساد، دعا الجواد الرحيم العظيم عبادَه المؤمنين إلى جنته ودار كرامته، إلى دار السلام والنعيم، إلى دار خالصة عن الغموم والهموم والأحزان والأكدار، سالمة من المنفرات والآفات والبليات، (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [يُونُسَ: 25].

 

وإن ضاقت الدنيا عليكَ بِأَسْرِهَا *** ولم يكُ فيها منزل لكَ يُعلم

فَحَيَّ على جنات عدن فإنها *** منازلنا الأولى وفيها المخيم

ولكننا سَبْيُ العَدُوِّ فهل تُرَى *** نعود إلى أوطاننا ونسلم

 

دار لا ينفد نعيمها ولا يبيد، دار فيها من كل خير مزيد، أُعِدَّتْ وأُدنيت وَقُرِّبَتْ، وزُينت وأُزلفت كرامةً للمتقين، لا يخشون فيها خوفًا ولا همًّا، ولا صخبًا ولا نَصَبًا، ولا يخافون فيها فقرًا ولا دَيْنًا، ولا إخراجًا ولا انقطاعا ولا فَنَاء، (وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) [الْحِجْرِ: 48]، من يدخل الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه، ويناديه المناد: "إنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا" فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرَّعْدِ: 23-24]، تدخل عليهم الملائكة، وتفد عليهم الملائكة، وتسلم عليهم الملائكة، وتهنئهم الملائكة، (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) [الزُّمَرِ: 73]، فما أعظم هذا التقريب والتكريم، في دار السلام والنعيم.

 

وإن الله -تبارك وتعالى- يقول لأهل الجنة: "يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تعْطَ أَحَدا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَنَا أَعْطَيْكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَبُّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا" (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) [التَّوْبَةِ: 72]، أكبر من جنانها وأنهارها، وأجل من تحفها وقصورها وحللها.

 

أما رؤية الله في الجنة: فتلك الغاية التي شمر إليها المشمرون وتنافس فيها المتنافسون، وحرمها الذين عن ربهم محجوبون، وعن بابه مطرودون، قال جل في علاه: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [الْقِيَامَةِ: 22-23]، عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهَا، وَمَا فِيهَما، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهَا وَمَا فِيهَما، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ، أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ" (متفق عليه).

 

وعن صهيب -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ -عَزَّ وَجَلَّ-" (رواه مسلم).

 

قال ابن القيم -رحمه الله-: "هذا وإن سألت عن يوم المزيد وزيادة العزيز الحميد، ورؤية وجهه المنزَّه عن التمثيل والتشبيه، كما ترى الشمس في الظهيرة، والقمر ليلة البدر، كما تواتر عن الصادق المصدوق النقلُ فيه، وذلك موجود في الصحاح والسنن والمسانيد، فاستمع يوم ينادي المنادي: يا أهل الجنة، إن ربكم تبارك وتعالى يستزيركم فحيَّ على زيارته، فيقولون: سمعًا وطاعةً، وينهضون إلى الزيارة مبادرينَ، حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيح الذي جُعِلَ لهم موعدًا، وجمعوا هناك فلم يغادر الداعي منهم أحدًا، أمَر الربُّ -تبارك وتعالى- بكرسيه فنُصب هناك، ثم نُصبت لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضلة، وجلَس أدناهم -وحاشاهم أن يكون فيهم دنيء- على كثبان المسك، لا يرون أن أصحاب الكراسي فوقَهم في العطايا، حتى إذا استقرت بهم مجالسُهم واطمأنت بهم أماكنُهم نادى المنادي: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيِّض وجوهَنا؟ ويثقِّل موازينَنا، ويدخلنا الجنةَ ويزحزحنا عن النار؟ فبينما هم كذلك إذ سطع لهم نور أشرقت له الجنة، فرفعوا رؤوسهم فإذا الجبار -جل جلاله وتقدست أسماؤه- قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة، سلام عليكم، فلا تُرَدّ هذه التحيةُ بأحسن من قولهم: اللهم أنتَ السلامُ، ومنكَ السلامُ، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام، فيتجلى لهم الرب -تبارك وتعالى- يضحك إليهم ويقول: يا أهل الجنة، فيكون أول ما يسمعون منه: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني؟ فهذا يوم المزيد، فيجتمعون على كلمة واحدة: قد رضينا فارضَ عنا، فيقول: يا أهل الجنة، إني لو لم أَرْضَ عنكم لم أُسكنكم جنتي، هذا يوم المزيد فاسألوني، فيجتمعون على كلمة واحدة: أَرِنَا وجهَكَ ننظر إليكَ، فيكشف الربُّ -جل جلاله- الحُجُبَ ويتجلى لهم فيغشاهم من نوره وَيَنْسَوْنَ كلَّ نعيم عاينوه، ولولا أن الله -تعالى- قضى ألا يحترقوا لاحترقوا، ولا يبقى في ذلك المجلس أحد، إلا حاوره ربه -تعالى- محاورةً حتى إنه ليقول: يا فلان، أتذكر يوم فعلتَ كذا وكذا؟ يُذَكِّرُهُ ببعض غدراته في الدنيا، فيقول: يا ربِّ ألم تغفر لي؟ فيقول: بلى بمغفرتي بلغتَ منزلتَكَ هذه".

 

الله أكبر، الله أكبر، ما أَجَلَّ هذا النعيم! وما أعظم هذا التكريم! يرون ربهم في الجنة، يرون الله ذا الجلال والجمال والكمال، يرون إلها طالما عبدوه وسبحوه وهللوه، وكبَّروه، وسجدوا له وعظَّمُوه، أيُّ لذةٍ وأيُّ متعةٍ وأيُّ نعمةٍ وأيُّ حياةٍ وأيُّ سعادةٍ وأيُّ اصطفاءٍ واختيارٍ؟ يرون اللهَ الذي ما طابت الدنيا إلا بذكره، ولا الآخرة إلا بعفوه، ولا الجنة إلا برؤيته، واحنيناه، واشوقاه إلى دار النعيم التي يرى فيها الموحدون ربهم، يتجلى لهم ويضحك لهم ويُشرف عليهم ويَبْرُزُ لأهل الجنة في كل جمعة، في كثيب من كافور فيكونون في قُرْب منه على قَدْر تسارعهم إلى الجمعة في الدنيا، لا يزدادون نظرا إلى ربهم إلا ازدادوا كرامة وإحسانا.

 

ترى وجه الإله ونِعْمَ وجهٌ *** مليء بالمحبة والجلال

 

أيها المسلمون: هذه لذة الخبر، فكيف بلذة النظر؟ لمثل هذا النعيم فَأَعِدُّوا، اللهم إنا نسألكَ لذةَ النظر إلى وجهك والشوقَ إلى لقائكَ، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله آوى مَنْ إلى لُطْفِهِ أَوَى، وأشهد ألا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، داوَى بإنعامه مَنْ يَئِسَ مِنْ أسقامِه الدَّوَا، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدا عبده ورسوله، من اتبعه كان على الهدى، ومن عصاه كان في الغواية والردى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.

 

أما بعد فيا أيها المسلمون: اتقوا الله وراقِبُوه وأطيعوه ولا تعصوه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) [الْأَحْزَابِ: 70].

 

أيها المسلمون: حُثُّوا رواحلَكم، وبادِرُوا حياتَكم، واغتنموا أوقاتَكم، فما بعد النضارة والغضارة ورونق الحياة والتبسُّم في طيبها إلا الموت والفنا والبِلَا، (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آلِ عِمْرَانَ: 133].

 

الموت باب وكل الناس داخله *** يا ليت شعري بعد الباب ما الدار؟!

الدار جنة عدن إن عملت بما *** يرضي الإله وإن فرطت فالنار

هما محلان ما للناس غيرهما *** فانظر لنفسك ماذا أنتَ تختار

 

وصلوا على أحمد الهادي شفيع الورى طرا، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة، أصحاب السنة المتبعة، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الآل والأصحاب، وعنا معهم يا كريم يا وهاب.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وعم بالأمن والرخاء جميع أوطان المسلمين يا رب العالمين.

 

اللهم آمنا في أوطاننا واحفظ أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، وولي عهده يا رب العالمين، اللهم وفقهما لهداك، واجعل عملهما في رضاك، يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك النصر المؤزر لجنودنا وجيوشنا المرابطين على حدودنا، حماة العقيدة والتوحيد، اللهم نصرك المؤزر، اللهم النصر والفتح والتمكين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين يا رب العالمين، اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم أعتقنا من رق الذنوب، وخلصنا من أشر النفوس، يا عظيم العفو، يا قريب الرحمة، هب لنا من لدنك مغفرة ورحمة، وأسعدنا بتقواك، واجعلنا نخشاك كأننا نراك، اللهم ارحم موتانا واشف مرضانا وفك أسرانا، وانصرنا على من عادانا، اللهم اجعل رزقنا رغدا، ولا تشمت بنا أحدا، ولا تجعل لكافر علينا يدا.

 

اللهم اجعل دعاءنا مسموعا، ونداءنا مرفوعا، يا كريم يا عظيم يا رحيم.

المرفقات
الجنة-دار-النعيم-المقيم.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life