عناصر الخطبة
1/بعض سمات الجادين المحبين للمعالي 2/حث الإسلام على الجدية والأخذ بالإسلام بقوة 3/مفاسد عدم الجدية 4/الجدية سمة من سمات الصحابة والسلف الصالح ونماذج منها 5/طغيان المادة والهزل على حياتنا 6/جدية السلف في طلب العلم وعلو همتهم في ذلك

اقتباس

أيها الأحبة: صاحب المعالي يتعب، ولا يمكن أن يركن، والجاد دائمًا في عمل، يكتشف قدراته، ويطور ذاته، ويتذكر الأجر الذي يحركه؛ لأن معرفة الأجر المحرك للعمل، ضروري لكي تحصل الحماسة، التي هي من الجدية. ديننا دينٌ متين، يحتاج إلى قوة لحمله. وعدم الجدية يؤدي إلى...

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

 

إنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].

 

أما بعد:

 

أيها المؤمنون: بعد غدٍ -إن شاء الله تعالى- يبدأ أبناؤنا فصلاً دراسيًّا جديداً، ينهلون فيه من ميادينَ معرفيةٍ شتى، ومن الملاحظ لدى كثير من المربين في السنوات الأخيرة -مع ظاهرة وسائل التواصل وانتشار المعرفات الملهية وبعض المشاهير الفارغين- اصطباغ الشخصية الهزيلة والهازلة لدى عددٍ ليس بالقليل من أبنائنا وبناتنا وعدم الجدية، ليس في الدراسة فحسب، بل بكثير من أمور الحياة، وهذا أمرٌ من الخطورة بمكان، فالمجتمع الهازل والأمة الهزيلة لا يمكن أن تنتج وتتطور وتتعلم وتنتصر.

 

أيها الأحبة: صاحب المعالي يتعب، ولا يمكن أن يركن، والجاد دائمًا في عمل، يكتشف قدراته، ويطور ذاته، ويتذكر الأجر الذي يحركه؛ لأن معرفة الأجر المحرك للعمل، ضروري لكي تحصل الحماسة، التي هي من الجدية، ولذا كان بعض السلف يقول: "مثلت نفسي في الجنة، آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها، وأغلالها، فقلت: يا نفس أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحًا، قلت: فأنت الآن فيها فاعملي".

 

ديننا -أيها الأحبة- دينٌ متين، يحتاج إلى قوة لحمله: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ)[البقرة: 63]، (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِين)[الأعراف: 170].

 

(يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ) أي مستمسكون به، عاملون به، حريصون عليه، جادون في تطبيقه.

(يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ)[مريم: 12] قال السعدي -رحمه الله-: "بجد، واجتهاد في حفظ ألفاظه، وفهم معناه، والعمل به"، فالله -عز وجل- أمرنا بالجد كما أمر مَن قبلنا، وقال: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ)[البقرة: 63] أي: بجد واجتهاد.

 

وعدم الجدية يؤدي إلى الوقوع في المعصية والنفاق -والعياذ بالله-، فسبب المعصية الأولى هو النسيان وقلة العزم والجدية، وهذا يتقاسمه كل بني البشر، وهي المنافذ الأولى التي يخترقها الشيطان من الإنسان: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)[طه: 115] لذا كان الرسل -عليهم السلام- ودعواتهم على مستوى من الجدية بقدر ما يمنع عنهم الخطأ ويحقق العصمة، وتفاوت بعضهم في العزم حتى تميّزوا بـ"أولي العزم من الرسل"... ولو تأملنا آيات القرآن الكريم، ونظرنا إلى أهم صفات المنافقين، نجد أول ملحظ هو: انعدام الجدية من حياة هؤلاء المنافقين، قال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ)[التوبة: 65]، وكذا عند معرض وصفه لعبادتهم، قال تعالى: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا)[النساء: 142].

وقد بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- صفاتهم كذلك إذ يقول: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ"(رواه البخاري ومسلم).

 

أيها الإخوة: لما دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- إلى الإسلام فأسلم، إذا بالصديق -رضى الله عنه- يستشعر المسؤولية، ويجدُّ في الدعوة الفردية، فيسلم على يديه صفوة من خيار الصحابة -رضي الله عنهم- كعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص، وطلحة بن عبيد الله، أسلم بإسلامهم خلق كثير -رضي الله عنهم وأرضاهم- كان أبو بكر -رضي الله عنه- يقول عن نفسه: "والله ما نمت فحلمت، ولا سهوت فغفلت، وإنني على الطريق ما زغت".

هذه الكلمات تعبر عن مدى تغلغل مفهوم الجدية في نفس أبي بكر -رضي الله عنه- فالعمر قصير والهدف سامٍ... ولا وقت للهزل... فمن جد وجد.

 

وفي موقف لصحابي آخر -رضي الله عنه- يُروى أثناء معركة القادسية تقدم سعدَ بن أبي وقاص -رضي الله عنه- رجلٌ كفيف.. وهو عبد الله وقيل: عمرو ابن أمِّ مكتوم -رضي الله عنه-، وكان مؤذناً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع بلال.. وانضم إلى الجيش رغم أن الجهاد رُفع عنه لأنه كفيف.. وطلبَ أن يمسك باللواء. وكان يقول: ادفعوا إلي اللواء فإني أعمى لا أستطيع أن أفرَّ وأقيموني بين الصفين... وبعد المعركة وجدوه شهيداً واللواء في يده...".

وهذا صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- القائد العظيم، يسيطر عليه همُّ الأقصى الأسير، فلا يمزح ولا يضحك ويقول: "إني لأستحي من الله أن يراني أضحك وبيت المقدس في أيدي الصليبيين"، فأكرمه الله بتحرير بيت المقدس على يديه.

 

هذه صور يسيرة من جدية سلفنا الصالح -رضي الله عنهم- الذين نهضوا بالأمة.

 

أمَّا نحن -والله المستعان- فقد طغت علينا الماديات والهزليات حتى أصبحت شعاراً لبعضنا.. لله نشكو بُعدنا عن القران وعن الدعوة وعن طلب العلم والعبادة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. لله نشكو عدم جديتنا وتقاعسنا، لا بدَّ أن يكون لدينا برامج علمية وعملية وتدريبية، لا بدَّ أن يكون عندنا خطط لحياتنا، قال ابن القيم -رحمه الله-: "ومما ينبغي أن يعلم: أن من رجا شيئًا استلزم رجاؤه ثلاثة أمور: أولاً: محبة ما يرجوه. وثانيًا: خوفه من فواته. وثالثًا: سعيه في تحصيله".

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله...

 

وبعد: فاتقوا الله -عباد الله-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة: 119].

 

أيها الإخوة: وأمَّا الجدية في طلب العلم فذاك شأن آخر عند سلفنا الصالح.. قال الإمام مسلم في صحيحه، قال يحيى بن أبي كثير: "لَا يُسْتَطَاعُ الْعِلْمُ بِرَاحَةِ الْجِسْمِ".

وكان الخليل بن أحمد الفراهيدي يقول: "أَثْقَلُ سَاعَاتٍ عَلَيَّ سَاعَة آكل فِيهَا".

وكان أحدهم ليحزن ويصيبه المرض إذا فاته شيء من العلم، فقد ذكروا لشعبة حديثًا لم يسمعه، فجعل يقول: واحزناه! وكان يقول: "إني لأذاكر الحديث فيفوتني، فأمرض".

وعن عبد الرحمن بن تيمية قال عن أبيه: "كان الجد إذا دخل الخلاء يقول لي: اقرأ في هذا الكتاب، وارفع صوتك حتى أسمع".

وهذا الإمام أبو يوسف القاضي "كان شديد الملازمة لشيخه أبى حنيفة، لازم مجلسه أكثر من سبع عشرة سنة، ما فاته صلاة الغداة معه، ولا فارقه في فطر ولا أضحى إلا من مرض، رَوَى محمد بن قدامة، قال: سمعتُ شُجاعَ بن مَخْلَد، قال: سمعتُ أبا يوسف يقول: مات ابنٌ لي، فلم أحْضُر جِهازَهُ ولا دفنه وتركتُهُ على جيراني وأقربائي، مخافةَ أن يفوتني من أبي حنيفة شيءٌ لا تَذهَبُ حسْرَتُه عنى".

وهذا الإمام ابن جرير الطبري -رحمه الله تعالى- يقول عن نفسه: "حفظت القرآن ولي سبع سنين، وصليت بالناس وأنا ابن ثماني سنين، وكتبت الحديث وأنا في التاسعة".

 

ومما يدل على علو همته وقوة تحصيله ما أخبر به عن نفسه قال: "جاءني يوماً رجل فسألني عن شيء في علم العروض، ولم أكن نشطت له قبل ذلك، فقلت له: إذا كان غداً فتعال إليَّ، وطلب سِفْرَ العروض للخليل بن أحمد، فجاؤوا له به فاستوعبه وأحاط بقواعده وكلياته في ليلة واحدة، يقول: "فأمسيت غير عروضي، وأصبحت عروضيًّا".

 

فهذه الجديَّة عند هؤلاء القوم يجب أن تكون نبراساً لنا نخطو بخطاهم.

 

والله المستعان، وعليه التكلان.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.

المرفقات
8BVSv1Mz83uC6ZbsN59S8tSsA1bzOCX4epIqoCw6.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life