عناصر الخطبة
1/ثبات أئمة أهل السُّنة على الدين 2/من أروع النماذج في الثبات 3/من أهم أسباب الثبات على الدين 4/السمع والطاعة لولاة الأمور 5/حقوق ولاة الأمور وواجباتهم 6/ائتلاف القلوب واجتماع الكلمة.اقتباس
فكل ما جاء في الاعتقاد عن السلف الصالح إنما أخذوه من الكتاب والسنة, وليس من عند أنفسهم, مهما بلغ الواحد منهم في الاجتهاد والرَّأي, فإنهم يعتمدون اعتماداً كاملاً على نصوص الوحيين....
الخُطْبَة الأُولَى:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إن المُتأمِّل في سيرة أئمة أهل السُّنة يرى عجباً في ثباتهم على عقيدتهم وتمسكهم بسُنّة نبيهم, وتحمُّلهم المشاق والأذى في ذلك, وربما فقد الواحد منهم حياته أو ماله أو تعرَّض للسجن والأذى والإبعاد, ومع ذلك تجدهم صابرين محتسبين, راضين شاكرين ثابتين؛ لأنَّهم يُعاملون الخالِق ولا يتعاملون مع الخلق.
ومن أروع النماذج في ثباتهم على دينهم, واحتمالهم لأشدِّ أنواع التعذيب والأذى ما جاء عن ميمون بن الأصبغ -رحمه الله- قال: "كنتُ ببغداد فسمعتُ ضجَّةً, فقلت: ما هذا؟ فقالوا: أحمد بن حنبل يُمتحَن. فدخلتُ فلمَّا ضُرِبَ سوطاً؛ قال: بسمِ الله. فلمَّا ضُرِبَ الثاني؛ قال: لا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله. فلمَّا ضُرِبَ الثالث؛ قال: القرآنُ كلامُ الله غيرُ مخلوق. فلمَّا ضُرِبَ الرابع؛ قال: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا)[التوبة: 51], فضُرِبَ تسعةً وعشرين سوطاً"(صفة الصفوة: 2/350).
عباد الله: إن أهل السنة في كل مكان وزمان يدعون مَنْ ضلَّ إلى الهدى, وينهونه عن الردى, يُحيون بكتاب الله -تعالى- الموتى, وبسُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهل الجهالة والردى, فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه! وكم من ضال تائه قد هَدَوه! فما أحسن آثارهم على الناس, ينفون عن دين الله -عز وجل- تحريف الغالين وانتحال المبطلين, وتأويل الضالين الذين عقدوا ألوية البدع, وأطلقوا عنان الفتنة, يقولون على الله وفي الله وفي كتابه بغير علم - تعالى عمَّا يقول الظالمون علواً كبيراً, ونعوذ بالله من كل فتنة مُضلَّة.
معاشر المسلمين: إنَّ الدين الإسلامي يحثّ أتباعه على الثبات على الدين والحق المبين, والعقيدة الصحيحة, والمنهج القويم, ومن أهم أسباب الثبات على الدين:
1- سؤالُ الله تعالى الهدايةَ والاستقامة:
من نعمة الله -تعالى- على المُوحِّدين أنْ هداهم الطريق المستقيم؛ لأنهم يُعوِّلون في شؤونهم كلِّها على سؤال الله -تعالى- الهدايةَ إلى الصِّراط المستقيم؛ إذْ يُردِّدون في كلِّ ركعةٍ من الصلاة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[الفاتحة: 6].
ومن أعظم عوامل الثبات على الدِّين: الدعاءُ والإلحاحُ على الله في الثبات على الصراط المستقيم حتى الممات. وفي طلبهم الهدايةَ والثباتَ عليها من الله -تعالى- تبَرُّؤ من الحول والقوة, وهذا يدل على تعلُّقهم بربِّهم واطمئنانهم إلى رحمته بهم.
ومن أهم أسباب الثبات على الدين:
2- الجَمْع بين الإيمان والعلم والعمل:
اعلم -أخي الكريم- أنه إذا اجتمع الإيمانُ والعلمُ والعملُ ازداد العبد ثباتاً ونوراً ويقيناً, وهذا أحد أسباب الثبات على الدِّين, يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "إِنَّ الإنْسَانَ قَدْ يُؤْتَى إيمَانًا مَعَ نَقْصِ عِلْمِهِ, فَمِثْلُ هَذَا الإيمَانِ قَدْ يُرْفَعُ مِنْ صَدْرِهِ؛ كَإِيمَانِ بَنِي إسْرَائِيلَ لَمَّا رَأَوْا الْعِجْلَ, وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ الْعِلْمَ مَعَ الإيمَانِ, فَهَذَا لا يُرْفَعُ مِنْ صَدْرِهِ, وَمِثْلُ هَذَا لا يَرْتَدُّ عَنْ الإسْلامِ قَطُّ"(مجموع الفتاوى: 18/305).
معشر الفضلاء: والعلم النافع هو المتبوع بالعمل, فما زال العلم يهتف بالعمل فإنْ أجابه وإلاَّ ارتحل, وليس العلم بمقدار ما يحفظه المرء من مسائل وأحكام, بل لا بد أن يُضيف إليه العمل, وإلاَّ أصبح حجَّةً عليه, وكان علماً لا ينفع.
ومن أسباب الثبات على الدين:
3- الاعتصام بالكتاب والسنة:
أهل السُّنة يؤمنون بجميع ما جاء في كتاب الله, وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-, يؤمنون بجميع ذلك إيماناً مجملاً ومُفَصَّلاً؛ إيماناً مُجملاً بكلِّ ما أخبرَ الله تبارك و-تعالى- به من أمور الإيمان، وإيماناً مُفَصَّلاً بكلِّ ما بلغهم عِلْمُه من كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-, والله -تعالى- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ)[النساء: 136]. ويقول -سبحانه-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا)[الحجرات: 15]؛ أي: في إيمانهم, ومن اعتصم بكتاب الله -تعالى- وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- واعتمد عليهما؛ سيكون ثابتاً مستقيماً بعيداً عن الانحراف والضلال. (انظر: مجموع الفتاوى: 13/135, 136).
ومن أسباب الثبات على الدين:
4- الاعتقاد باكتمالِ الدِّين؛ كتاباً وسُنَّة:
استناداً إلى قوله -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسْلامَ دِينًا)[المائدة: 3]؛ فقد أخبر الله -تعالى- في معرض امتنانه على عباده بأنه أكمل لهم الدِّين؛ بجميع عقائده وعباداته, وأحكامه وآدابه, وأتم عليهم نعمته -ظاهرة وباطنة-، ورضي لهم الإسلام ديناً ومنهجاً وشريعة, فلا يحتاجون لدين سواه. (انظر: أيسر التفاسير لكلام العلي القدير, لأبي بكر الجزائري: 1/591, 592).
ومما يدل على اكتمال الدِّين قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ؛ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌ, ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ, إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ"(رواه مسلم: ح 403).
ومن أسباب الثبات على الدين:
5- الرجوع عند التَّنازع إلى الكتاب والسُّنة:
أمر الله -تعالى- المسلمين جميعاً في حال حصول الاختلاف والجدال فيما بينهم؛ من أصول الدِّين وفروعه, أنْ يُرجِعوا في ذلك إلى كتاب الله -تعالى- وسُنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)[النساء: 59]؛ أي: ذلك الردُّ إلى الكتاب والسنة خير لكم من التنازع والقول بالرأي. (انظر: تفسير القرطبي: 5/261؛ تفسير ابن كثير: 2/345).
ومن الأسباب أيضاً:
6- أخْذُ العقيدةِ من الكتاب والسُّنة:
فكل ما جاء في الاعتقاد عن السلف الصالح إنما أخذوه من الكتاب والسنة, وليس من عند أنفسهم, مهما بلغ الواحد منهم في الاجتهاد والرَّأي, فإنهم يعتمدون اعتماداً كاملاً على نصوص الوحيين, وفي هذا الشأن يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "لَيْسَ الاعْتِقَادُ لِي, وَلا لِمَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنِّي؛ بَلْ الاعْتِقَادُ يُؤْخَذُ عَنْ اللَّهِ -سُبْحَانَهُ وَتعالى-, وَرَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم-, وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمَّةِ"(مجموع الفتاوى: 3/203).
ومن الأسباب أيضاً:
7- الارتباط بفهم السَّلف الصَّالح:
ارتبط أهلُ السُّنة ارتباطاً وثيقاً بفهم السلف الصالح؛ الصحابة ومَن اتَّبعهم بإحسانٍ، فهم يُعَوِّلون في فهم النصوص ومعرفةِ دلالتها على ما جاء عن الصحابة ومَن اتَّبعهم بإحسان؛ لأن الأفهام قد تضلُّ وتنحرف, ولهذا يرتبط أهل السنة غاية الارتباط بفهم الصحابة للنصوص والأدلة؛ وفي ذلك يقول الله -تعالى-: (وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)[النساء: 115].
وسبيلُ المؤمنين: هو طريقهم ومنهجهم في عقائدهم وعباداتهم وسلوكهم وأخلاقهم, وهو أيضاً ما أجمعت عليه الأمة المحمدية.(انظر: تفسير ابن كثير: 2/412؛ تفسير السعدي, 1/202).
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
عباد الله: ومن أسباب ثبات أهل السنة على دينهم ومنهجهم:
8- منعُهم الخروجَ على الولاة:
السمع والطاعة للولاة أصلٌ من أصول عقيدة المسلمين، فقَلَّ أن يخلو كتاب من تقرير هذا الأصل وشرحه وبيانه، وما ذلك إلاَّ لبالغ أهميته وعظيم شأنه، فبالسمع والطاعة لولاة الأمر تنتظم مصالح الدِّين والدُّنيا معاً، وقد عُلِمَ بالضرورة من دين الإِسلام أنه لا دينَ إلاَّ بجماعة، ولا جماعةَ إلاَّ بإمامة، ولا إمامةَ إلاَّ بسمعٍ وطاعة.(انظر: جامع بيان العلم وفضله, لابن عبد البر 1/127).
إخوتي الكرام: إن أهل السنة والجماعة مُتقيِّدون بأصلٍ عقدي ثابت وراسخ, وهو أنَّ المُلكَ هبةٌ من الله -سبحانه- لعباده, لا يُنازع عليها ولا يُتدافع من أجلها, فليس لأحد مهما أوتي من قوة أو جاه أن يتملَّك على الناس إلاَّ بمشيئة الله -تعالى- وقدره, ومن ثَمَّ فلا مناصَ إلاَّ الإذعان والتسليم لمراد الله -تعالى-: (قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[آل عمران: 26].
فالله -تبارك وتعالى- له الملكُ كلُّه, وهو الذي يمنح الملكَ والمال والتمكين في الأرض مَنْ يشاء من خلقه ويسلب الملكَ ممن يشاء, ومن ثَمَّ فالتأدُّب مع ولاة الأمور, هو تأدُّبٌ مع الله الذي آتاهم هذا الأمر, ولو شاء لنزعه منهم.
يقول الحسن البصري -رحمه الله- في الأمراء: "هم يلون من أمورنا خمساً: الجمعة، والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود, واللهِ لا يستقيم الدِّين إلاَّ بهم، وإنْ جاروا وظلموا, واللهِ لَمَا يُصْلِحُ اللهُ بهم أكثر مِمَّا يُفسدون"(آداب الحسن البصري, لابن الجوزي: ص 121؛ جامع العلوم والحكم: 1/262).
عباد الله: إنَّ ولاة الأُمور لهم حقوق على رعيَّتِهم:
جاءت هذه الحقوق منصوص عليها في كتب أهل السنة والجماعة, فقد قرَّروا أنَّ على المسلم السمع والطاعة لولاة الأمور إلاَّ أن يأمروا بمعصية؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وقرَّروا أيضاً وجوب النصح والدعاء لولاة الأمور, وإعانتهم على الحق, وتحريم الخروج عليهم, سواء كانوا أئمة عدولاً صالحين أم كانوا من أئمة الجور والظلم, ما داموا لم يخرجوا عن دائرة الإسلام.
وقرَّروا أيضاً الصبر على جور الأئمة وظلمهم مع ما فيه من ضرر, فإنه أخف ضرراً من الخروج عليهم.
وولاة الأمور -كما لهم حقوق- عليهم واجبات:
فمن أعظم حقوق الرعية على الولاة: أن يُقيموا فيهم شرع الله -تعالى-, ويحكموا بما أنزل الله -تعالى-, ويتركوا كلَّ ما خالف ذلك من القوانين الوضعية وغيرها, وكذلك أمر الرعية بالمعروف, ونهيهم عن المنكر. (انظر: أهل السنة والجماعة د. صالح بن عبد الرحمن الدخيل: ص 411).
ومن أسباب ثبات أهل السنة على دينهم ومنهجهم:
9- ائتلاف قلوبهم واجتماع كلمتهم:
جاءت نصوص الشريعة؛ كتاباً وسُنّة تحثّ على الترابط والتآخي بين المسلمين, والاجتماع على هذا الدِّين وعدم التَّفرُّق؛ ليزدادوا قوَّةً ونماءً, ومن ذلك قوله -تعالى-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا)[آل عمران:103]؛ فمن أعظم نِعَمِ الله -تعالى-: نعمة الهداية إلى الإسلام، واتِّباعِ الرسولِ -صلى الله عليه وسلم-, واجتماعِ كلمة المسلمين, وعدمِ تَفرُّقِها.
وقَالَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاَثًا..."، وذَكَرَ منها: "أَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا, وَلاَ تَفَرَّقُوا..."(صحيح: رواه أحمد في المسند: ح 8799).
وقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ, وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ, وَهُوَ مِنَ الاِثْنَيْنِ أَبْعَدُ, مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ"(صحيح - رواه الترمذي: ح 2165).
الدعاء ...
التعليقات