عناصر الخطبة
1/ حاجة الإنسان للصديق 2/ سمات الصديق الحق 3/ خطوات اختيار الصديق 4/ مراتب الأصدقاء 5/ مواضع انكشاف أخلاقهم 6/ ثمرات الصحبة الصالحة 7/نماذج من الصداقة بين السلفاهداف الخطبة
اقتباس
فإذا وفقك الله لصديق صالح، وأخ مبارك عاقل ناجح، فاستمسك بغرزه، ودم على محبته وأنسه؛ لأن الصديق الحق هو الذي يصدقك في نصحه، ويتحفك ببره، ويقف معك عند الضيق والشدة، في حال اليسر والإعسار، وعند الفاقة والافتقار.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي منَّ بالمنهج وحسن الطريق، أحمده-سبحانه- ولي الهدى والتوفيق، علمَ كل جلي ودقيق.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيَّن حقوق الصديق، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرشد إلى آداب الرفيق، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، أهل الهدى والتحقيق.
أما بعد: عباد الله، فاتقوا الله وأطيعوه، واستعدوا لما أمامكم ولا تعصوه، فالتقوى هي العز والكرامة، والرفعة وعلو المكانة.
أيها المسلمون: من حكمته -سبحانه- في عباده، أن جعل الناس أجناسًا، يألف بعضهم مع بعض، ويأنس بعضهم ببعض، فلا يستطيع أن يعيش أحد في عزلة، أو ينزوي في مكان وغرفة، أو يستقل في زاوية؛ فلهذا كان الإنسان لا بد له من صديق، وحبيب ورفيق.
ومن جميل الاستنباط، وجمال الارتباط، سؤال الله حسن الصديق، وجمال الطريق، (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة:6-7]؛ فلهذا قالوا فيها: التنبيه على الرفيق قبل الطريق.
الإنسان لا بد له من جليس، وصديق وأنيس، والصداقة ليست بكثرة المجالسة، ولا تبادل الرسائل الودية والمؤانسة، ولكل من الصديقين حقوق، متى ما قام بها الصديق سلم من التبعات، ودامت المودات، واتصلت الحياة.
فإذا وفقك الله لصديق صالح، وأخ مبارك عاقل ناجح، فاستمسك بغرزه، ودم على محبته وأنسه؛ لأن الصديق الحق هو الذي يصدقك في نصحه، ويتحفك ببره، ويقف معك عند الضيق والشدة، في حال اليسر والإعسار، وعند الفاقة والافتقار.
الصديق الحق هو الذي تجده عند الأزمات، ويسعفك عند الملمات، ويظهر جليًا عند الحاجات.
الصديق الموصوف بكريم الأخوة وكامل المودة، إذا غبت خلَّفك، وإذا حضرت كنفك، وإذا أنكرت عرفك، وإذا جفوت لاطفك، وإذا بررت كافأك.
الصديق الذي يشترى بماء الذهب، وتهون في طلبه المشقة والتعب، هو الصديق الذي أين وقع نفع.
الصديق يتخذه الإنسان ليسكن إليه، ويستأنس به، ويستفيد منه، ويستشيره في الملم، وينهض به الهمم، زينة إذا حضر، ومتعة في السفر، وأمن من الضرر.
الصديق الصالح، والرفيق الناجح، لا يحمل غلًا ولا حسدًا، ولا بغضاء ولا شحناء ولا نكدا، طاهر السريرة، حسن السيرة، سليم القلب، صالح اللب.
الصديق الوفي، والخليل الأبي، هو الذي يسوؤه ما أساءك، ويسره ما أسرك. صديق المحبة ليست صداقته سطحية، وكلمات هامشية، أو لمنفعة دنيوية، أو لحاجة وقتية.
الصديق الذي يذكرك إذا نسيت، ويعلمك إذا جهلت، وينبهك إذا غفلت، ويصوبك إذا أخطأت، يحب لك ما يحبه لنفسه، ويكره لك ما يكرهه لنفسه.
إخوان الصفا خير المكاسب، ومنية الراغب، زينة في الرخاء، وعدة في البلاء، ومعونة على الأعداء.
لعمرك ما مال الفتى بذخيرة *** ولكن إخوان الصفاء الذخائر
الصديق من يكتم سرك، ويحفظ ودك، وينسى إساءتك.
فلهذا؛ اختر صديقك في أول أمرك، وتفحص صديقك في مشوار عمرك، وتطلّب من هو سعادته في دنياك وآخرتك، فليس كل بيضاء شحمة، ولا كل سوداء فحمة.
وإن شئت تعرف مراتب الأصدقاء، فهم على ثلاثة أنحاء:
الأول: أصدقاء كالغذاء. كالطعام الذي تأكله، يقوي بدنك، وينشط روحك، ويقوم حياتك، وهذا الصديق الذي صفَّى لك وده، وأخلص لك نصحه، وأغدق عليك من علمه وفهمه وعقله، وأثر عليك في صلاحه، وأخلاقه، وآدابه، فاستمسك به.
الثاني: أصدقاء كالدواء. يحتاج إليه في وقت محدود، وزمن معدود، ومقدار محصور، وهؤلاء لا شر فيهم، ولا صلاح يرتجى منهم، ولا حاجة لهم إلا بمقدار، كالعلاج تأخذه في الليل والنهار، تأخذ حاجتك وبغيتك بقدر طلبك ومصلحتك.
الثالث: أصدقاء كالداء الذي يمرض، والجرب الذي يعدي، والسُم الذي يؤذي. فهذا عين الهلاك، وسبب الدمار والعار والانفكاك، فابتعد منه بعد المشرقين، وفر منه فرارك من السَبُعَين.
أيها الإخوة الأفاضل: من علامات الأصدقاء، أن تختبره في أربعة أمور:
الأول: في السفر. فكم صديق معجب بصديقه، ولم تظهر طباعه، وتتبين أخلاقه إلا في سفره معه، ولهذا في الأثر: "هل سافرت معه؟". فالسفر يسفر عن أخلاق الرجال، ويتبين خلاله جميل الخصال، أو سيء الأفعال.
وثانيًا: عند الضيق والشدة، والحاجة والكربة. فعند الأزمات يتبين الصديق الوفي من الردي، وقد قيل: "وفي تقلب الأحوال، علم جواهر الرجال".
جزى الله الشدائد كل خيرٍ *** عرفت بها عدوي من صديقي
وثالثًا: حال الخصومة والنزاع والشقاق، وسوء التفاهم والافتراق. فالبعض حال الرخاء جميل الأخلاق، حسن الوفاق، وإذا بدا نقاش أو خلاف تبدلت الأخلاق، وساد الشقاق، وأصبح مر المذاق، فالغضب والمنازعة، والخصومة والمفاهمة، ميزان الحب والصداقة.
ورابعًا: كثرة المخالطة. فالمخالطة تكشف أخلاق الرجال، وتظهر من خلالها الجمال أو سيء الأحوال، فالجلسة الواحدة لا تكفي، والمحادثة المرة لا تفي، فالتكرار يتبين عنده قرار، تدبر صديقك في هذه الأحوال، واطلب صديق الأقوال والأفعال.
سمع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- رجلًا يثني ويمدح رجلًا، فقال: "أسافرتَ معه؟". قال: لا. قال: "أخالطته؟". قال: لا. قال: "كانت بينك وبينه خصومة؟". قال: لا. قال: "والله الذي لا إله غيره ما تعرفه!".
هذا، واختر الصديق الملائم لطبعك، الموافق لحالك، المتوازن في أحوالك، المقارب لسنك، المتعقل في أموره؛ فالتباين والاختلاف مدعاة للفرقة والتنافر، والتباعد والتناحر، وقد قيل في الحكم والأمثال: "الصاحب كالرقعة في الثوب، فاطلبه مشاكلًا"، أي: مشابهًا لك، ومماثلًا لحالك، فلا تصادق من هو فوقك، ولا من هو دونك، ولكن بين ذلك.
وفي السنة: "لا تصاحب إلا مؤمنًا"، وفيها: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل".
هذا، وليُعلم أن اتخاذ الصديق الصالح من العمل الصالح، في الصحيحين: "سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله... ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه، وتفرقا عليه".
قال بلال بن سعد: "أخ لك كلما لقيك ذكرك بربك، خير لك من أخ كلما لقيك وضع في كفك دينارا". وقال الآخر: "لأن تحمل الأحجار مع الأبرار، خير من أن تأكل الحلوى مع الفجار".
وقال شيخ الإسلام: "المخلوق إذا أحب لله، كان حبه جاذبًا إلى حب الله، وإذا تحاب الرجلان في الله، واجتمعا على ذلك، وتفرقا عليه، كان كل منهما جاذبًا للآخر إلى حب الله".
وينبغي أن يصبّر المرء نفسه مع الصحبة الصالحة، الصادقة، (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ) [الكهف:28].
ولنختر لأبنائنا الرفقاء النجباء، والجلساء النصحاء، ونرشدهم إلى ما فيه صلاحهم، ونفعهم، وحسن مستقبلهم.
وأكبر من ذلك وأعظم: الدعاء، بأن يوفقك لجليس صالح، وأنيس ناصح، مخلصٍ صادق.
يقول علقمة: "قدمت الشام، فصليت ركعتين، ثم قلت: اللهم يسر لي جليسًا صالحًا؛ فوفقه الله لأبي الدرداء" رواه البخاري.
وخيثمة بن أبي صبرة، قال: "أتيت المدينة، فسألت الله أن ييسر لي جليسًا صالحًا، فيسر الله لي أبا هريرة –رضي الله عنه-" رواه الترمذي.
فاسأل الله أن يرزقك الجليس العاقل الموفق، والناصح المحقق.
الخطبة الثانية:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) [الفاتحة:2-6].
هذا، ومن ثمرات الصالح، والجليس الناصح: زيادة الإيمان وتقويته، والدعاء له بظهر الغيب؛ فإن الصديق إذا ذكره أخاه، رفع يديه لمولاه.
قال محمد بن يوسف: "وأين مثل الأخ الصالح؟ أهلك يقسمون ميراثك، وهو قد تفرد يدعو لك، وأنت بين أطباق الثرى".
ومنها: الأُنس واللذة بمجالسته وراحة النفس معه؛ ولهذا فقده غربة ووحشة، كما قال علي –رضي الله عنه-: "فقد الأحبة غربة".
ومنها: صحبتهم. من أفضل أعمال الدنيا، بل زينة الدنيا جليس أنيس. ومنها: الصديق المخلص عوض عن القريب القاطع.
ومن ثماره: أنه علامة على حب الله، ومحبته لله. وكذا: سبب للثبات عند الفتن والأزمات.
ومنها: يعين على الطاعة، والتمسك بعقيدة أهل السنة والجماعة، ويحذر من التفريط والإهمال والإضاعة.
ومن ثمارها وجميل خصالها: الاستشارة، وأخذ الرأي، والتعقل في الأمور. ومنها: أن يعرف عيوبه ونقصه. فيحذر وينأى بذلك عن نفسه.
ولقد ضرب السلف أروع الأمثلة، وكانوا بذلك مدرسة في حفظ الصديق، والحبيب الرفيق، برعايته وصيانته، وتعامله ومعاملته، فحققوا الأخوة، ونصحوا الأمة، فكانوا يدعون لهم بظهر الغيب، فهذه أم الدرداء تقول: "كان لأبي الدرداء –رضي الله عنه- ستة وثلاثمائة خليل في الله يدعو لهم في الصلاة. فقلت له في ذلك، فقال: إنه ليس رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب، إلا وكّل الله به ملكين يقولان: ولك بمثل. أفلا أرغب أن تدعو لي الملائكة؟".
وكانوا يواسونهم في أحلك الظروف، وأشد الأزمات والحتوف، وكانوا يتحملون الأذى لأجل سلامة أصدقائهم والوفا.
وكانوا يصونونهم ويكرمونهم، فهذا مطرف بن الشخّير، قال لبعض إخوانه: "يا أبا فلان، إذا كانت لك حاجة فلا تكلمني واكتبها في رقعة، فإني أكره أن أرى في وجهك ذل السؤال".
وكانوا يلاطفونهم في إكرامهم، ويحسنون إليهم في أحوالهم، فيتاجر البعض لأجل إخوانه، والنفقة عليهم، وسد خلتهم، والوقوف مع حاجاتهم وطلباتهم، كانوا يواسونهم، ويراعون أحوالهم، ويعدونهم كأنفسهم، يقول أحدهم: "كنت أمشي مع الخليل بن أحمد، فانقطع شسع نعلي، فخلع نعله. فقلت له: ما تصنع؟. قال: أواسيك بالحفا".
كانوا يتقربون إلى الله في خدمتهم، والسعي في قضاء حوائجهم، فهذا الحسين بن علي يأتيه رجل يستعينه في حاجة له، فوجده معتكفًا، فذهب إلى الحسن فاستعان به، فقضى حاجته، وقال: "لقضاء حاجة أخ لي في الله أحب إليَّ من اعتكاف شهرٍ".
وهذا طاووس يقف مع صديقه حال مرضه، واستمر به المرض، حتى جاء موسم الحج، وكان كل سنة يحج، فترك الحج لأجل تمريض صديقه لمواساته.
كان يحدث بينهم خلاف، لكنه خلاف لا يطول، ولا يصل إلى القلوب، ولا يؤثر على النفوس، ولا يقطع العلائق، فهذا خالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص –رضي الله عنهما-، كان بينهما كلام وسوء تفاهم، فذهب رجل يقع في خالد عند سعد، فقال سعد: "مه! إن ما بيننا لم يبلغ ديننا". الله أكبر! الله أكبر! لذلك سلمت صدورهم، واجتمعت كلمتهم، وخافهم أعداؤهم، واتحد صفهم.
كانوا يتسامحون، ويعفو بعضهم عن بعض، كانوا يتحدون ويجتمعون، ولا يتفرقون ويبتعدون؛ لعلمهم أن الاجتماع رحمة، والافتراق عذاب وهلكة.
كانوا يتزاورون ويتعاونون على الطاعة، وإزالة المنكر والشناعة، كانوا يتواصون بالحق وعلى الحق.
هذه أخلاقهم، وهذه صفاتهم، وهذه أفعالهم، أفلا نكون مثلهم؟! ونقتدي بسيرهم ومنهجهم، ونصفي القلوب مما علق بها من العيوب، ونبتعد عن الخلاف والشقاق، ونزرع المودة والوفاق؟.
وأخيرًا: اسمع في خاتمة المطاف، ما في الأخ الصالح من جميل الأوصاف:
ما ودني أحدٌ إلا بذلت له *** صفو المودة مني آخر الأبد
ولا قلاني وإن كان المسيء بنا *** إلا دعوت له الرحمن بالرشد
ولا ائتمنت على سرٍ فبحت به ***ولا مددت إلى غير الجميل يدي
ولا أقول نعم يوماً فأتبعها *** منعًا ولو ذهبت بالمال والولد
ولا أخون خليلي حال غيبته*** حتى أغيَّب في الأكفان واللحدِ
والله أعلم.
التعليقات